الثلاثاء، 22 فبراير 2022

فلسطين وعشق أردوغان المستجد لإسرائيل

حسين عبدالحسين

أعلن الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ترحيبه بزيارة نظيره الإسرائيلي، إسحاق هرتزوغ، إلى تركيا الشهر المقبل، وقال أن الزيارة ”إن شاء الله ستكون جيدة لعلاقات تركيا مع إسرائيل“. إعلان أردوغان عن زيارة هرتزوغ، كان تلا زيارة قام بها الرئيس التركي إلى الإمارات، التي تتمتع حاليا بأقوى علاقات إقليمية مع إسرائيل.

وقبل التحسن الشكلي، سبق للإستخبارات التركية أن أفشلت محاولة إيرانية لخطف، وربما قتل، رجل أعمال إسرائيلي يسكن في تركيا. وفي وقت لاحق، أعلن الأمن التركي اعتقال وتفكيك خلية استخبارات إيرانية كانت مهمتها استهداف إسرائيليين.

لم يُثر عشق أردوغان المستجد لإسرائيل حفيظة أي من الفصائل الفلسطينية أو استيائها، وهي الفصائل نفسها التي ثارت ثائرتها يوم أعلنت كل من الإمارات والبحرين عن توقيعها اتفاقية سلام وبدئها بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل.

يصمت الفلسطينيون صمت القبور تجاه التغيرات الطارئة على سياسة تركيا. إعلام حركة حماس، الذي يوزّع شهادات بالوطنية على الناس، ويتهم أي مطالب بالسلام بالخيانة وبيع القضية، لم يتطرق إلى أي من تصريحات أردوغان حول المشيئة الإلهية التي ترعى العلاقات الجيدة بين تركيا وإسرائيل.

في نيسان أبريل 2020، وفي ذروة جائحة كورونا، قامت تركيا بإرسال طائرة محملة بالمستلزمات الطبية إلى مطار بن غوريون الإسرائيلي كمساعدة للفلسطينيين في الضفة وغزة. وجّه الفلسطينيون رسائل شكر على أنواعها لأنقرة. بعدها بأسابيع، أي في مايو 2020 وقبل توقيع الإمارات اتفاقية إبراهيم للسلام مع إسرائيل، قامت أبو ظبي بإرسال طائرة مشابهة إلى الأراضي الفلسطينية حطّت في مطار بن غوريون. رفض رئيس السلطة الفلسطينية محمود عبّاس ومعه القيادة الفلسطينية تسلّم المساعدات الإماراتية بداعي رفض التطبيع مع إسرائيل.

لم يتفطن الفلسطينيون الى مفارقة قبولهم مساعدة تركيا ورفضهم المساعدة نفسها من الإمارات، مع أنه كان لتركيا علاقات ديبلوماسية مع إسرائيل ولم يكن للإماراتيين ذلك. على أنه للأمانة، لا بد من الإشارة إلى أن رفض عبّاس المساعدة الإماراتية لم يكن رؤية استراتيجية، بل كان بسبب عدائه لمنافسه محمد دحلان، الذي يتمتع برعاية إماراتية. أما حماس، فهللت للأتراك لأن أردوغان محسوب على الإسلام السياسي نفسه الذي تتبعه حماس، فيما الإمارات تعارض إقحام الإسلام بالسياسة.

هكذا هي معظم السياسات الفلسطينية منذ قرن: شخصانية وكيدية مثل إحراق مفتي القدس أمين الحسيني بيت قريبه الذي كان ينافسه على الزعامة، متجاهلاً القضية الأكبر.

الفصائل الفلسطينية لا تستقوي إلا على العرب، وخصوصا عرب الخليج، وربما بعض مسيحيي لبنان وأي عربي لا يشتم إسرائيل ليلاً نهاراً. أما أردوغان، فله من الفلسطينيين ما لا يناله أي من العرب: حب واحترام وتقدير فلسطيني، مع أن السفارة الإسرائيلية في أنقرة لم تقفل أبوابها يوما منذ أكثر من نصف قرن، فيما علم إسرائيل يرفرف فوق ربوع العاصمة التركية.

حتى في ذروة الصراخ التركي ضد اسرائيل مناصرةً للفلسطينيين، واصلت العلاقات الأمنية والتجارية بين تركيا وإسرائيل نموها المضطرد.

وحتى لا يستنتج أي من قرّاء هذه السطور أننا ننتقد أردوغان بسبب عشقه المستجد لإسرائيل، نؤكد أننا نؤيد هذا التغيير في السياسة التركية ونثني عليه، وندعو معارضي السلام مع إسرائيل، من الفلسطينيين وعموم العرب والإيرانيين، الى الاقتداء بالرئيس التركي في تغليب المصالح على العواطف والتطبيع مع الدولة العبرية.

تغليب المصالح كان الدافع الرئيسي خلف تخلي تركيا عن طموحات إعادة ترميم الخلافة العثمانية، بالإفادة من الإسلام السياسي كوسيلة توسّع تركية. هذا التغليب هو الذي أعاد أنقرة الى سياسة ”تصفير المشاكل“ في علاقاتها الخارجية، وهي السياسة التي كانت أطلقت نمو الاقتصاد التركي قبل عقدين حتى صار سادس أكبر اقتصاد في أوروبا ومن أكبر عشرين في العالم، فتصفير المشاكل يعني فتح أسواق الإقليم أمام الصادرات التركية، فيما التوسع والتوتر يعني عداوات وإغلاق أبواب الدول وأسواقها.

ربما اعتقد أردوغان يوما أنه يمكن للاقتصاد القطري، العائم على عائدات الغاز الضخمة، تمويل مشروع الإسلام السياسي الذي يسمح بقيام السلطنة العثمانية. لكن تبين أن كل أموال الدوحة ليست كافية لوقف انهيار اقتصاد أنقرة وعملتها الوطنية، وهو ما أعاد الرشد إلى رأس أردوغان، وليته يعيده إلى رأس قادة قطر وإيران ولبنان وسوريا وميليشيات العراق واليمن.

لا نعرف المدة الزمنية التي سيعيشها أردوغان في ربوع النضج السياسي و“تصفير المشاكل“، لكنه في وقت يتبنى سياسات سلمية من هذا النوع، ستبقى الدوحة وحيدة في رعايتها المالية والمعنوية للإسلام السياسي، الماضي في التراجع والانهيار في تونس والمغرب وليبيا كما في تركيا وباقي أنحاء المنطقة والعالم.

أما حماس والفصائل الفلسطينية، فتحالفاتها من فشل الى فشل، من كنف السوفيات والشيوعية التي انهارت، إلى رحاب الاسلام السياسي بشقيه السني والشيعي. الإسلام السياسي السني يتداعى وسيلحق الإسلام السياسي الشيعي به عاجلاً أم آجلاً، وسيواصل الفلسطينيون مسيرتهم من خيبة إلى خيبة بدون القيام بالخطوات الأكثر نفعاً للفلسطينيين وقضيتهم، أي التخلي عن الشعبوية والشعارات، والتمثل بالسيد أردوغان في البحث عن المصلحة أولاً، والتوصل إلى ترتيبات واتفاقيات مع إسرائيل تخدم أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين وترفع من مستوى معيشتهم، بالضبط كما يسعى الرئيس التركي — أولاً وأخيراً — إلى الحفاظ على مستوى حياة الأتراك، بل رفعها أكثر وتحسينها.

ليس بالأرض وحدها يحيا الإنسان. الأرض أداة لسعادة الناس ورفاههم، فإن تحولت إلى مصدر لشقائهم، لا بأس من تركها في الماضي والنظر تجاه الحاضر والمستقبل. ربما هو خطاب واقعي لا توجد قوى إقليمية أو دولية لتمويله بين الفصائل الفلسطينية.

الثلاثاء، 15 فبراير 2022

يلعنون الاستعمار ويهاجرون إليه

حسين عبدالحسين

تجاوز مجلس النواب العراقي المهلة الدستورية المحددة لانتخاب رئيس للجمهورية في التاسع من الجاري من دون أي عواقب. اختلف ائتلاف الغالبية على المرشح بعد رفض الكتلة الأكبر فيه، التابعة لرجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، الاقتراع لوزير الخارجية السابق الكردي هوشيار زيباري بتهم الفساد. لم تحضر الكتل النيابية فتعذر النصاب وتوقف عمل البرلمان حتى إشعار آخر.

في الأراضي الفلسطينية، انعقد "المجلس المركزي" لـ "منظمة التحرير الفلسطينية" لملء المناصب القيادية الشاغرة بالتعيين. قاطعت كبرى الفصائل اللقاء، فيما كررت حركة حماس حاكمة قطاع غزّة عدم اعترافها بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، وتمسكت بالمجلس التشريعي الذي تم انتخابه في 2006، والذي قامت المحكمة الفلسطينية العليا بإعلان انتهاء صلاحياته قبل ثلاثة أعوام.

كان القيادي الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، أمضى عقودا لانتزاع اعتراف العالم بمنظمة التحرير، فأحرق لبنان، وخطف طائرات، واغتال صحافيين، وكان له ذلك في اتفاقية أوسلو مطلع التسعينيات، إذ اعترفت اسرائيل والولايات المتحدة وباقي الدول بالمنظمة كممثلة للشعب الفلسطيني. ثم تأتي اليوم حماس وترفض الاعتراف بشرعية المنظمة.

في لبنان، غالبا ما تنقضي ولاية رئيس الجمهورية ويشغر المنصب، لسنوات أحيانا، فيما يقوم "حزب الله" وحليفه، نبيه بري، بإقفال البرلمان إلى أن تتم الموافقة على مرشحيهم للرئاسة.

في الأشهر الماضية، ولتعطيل القضاء اللبناني الذي قارب الكشف عن الممارسات غير الشرعية للحزب الموالي لإيران في مرفأ بيروت، وهو النشاط الذي قد يكون ساهم في الانفجار الكبير قبل قرابة عامين، منع "حزب الله" انعقاد مجلس الوزراء اللبناني، وعاشت البلاد، المنهارة أصلا، بلا سلطة تنفيذية إلى أن اطمأن الحزب أن القضاء اللبناني لن يصل إلى الحقيقة التي قد تدينه، فاستأنفت الحكومة اجتماعاتها.

الأمثلة الثلاثة أعلاه تشي أن هذه الشعوب العربية غير قادرة على حكم نفسها، وأنها أقامت دولا فاشلة بالكامل.

في مدارس غالبية العرب يتعلم الطلاب أن عصبة الأمم، المنظمة السابقة للأمم المتحدة، اعتقدت أن بعض الشعوب قاصرة عن إدارة نفسها، فقامت بوضع سيادتها في أيدي قوى أوروبية في نظام متعارف عليه باسم الانتداب. اعتبر العرب أن الانتداب هو تسمية جديدة للاستعمار القديم نفسه، وأمضوا سنوات الانتداب وهم يطالبون باستقلال حكوماتهم على أساس حقهم في تقرير مصيرهم. 

وفي مدارس غالبية العرب يحفظ الطلاب قصيدة التونسي، أبي القاسم الشابي، وخصوصا البيتين "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر… ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر".

الموقف العربي صحيح تماما. المساواة بين البشر تعني أن لهم حقوقا متساوية فرادا، ولهم حقوق تقرير المصير جماعات، وأي كلام غير ذلك هو استخفاف بهم وظلم وانتقاص من حقوقهم. تقرير المصير حق، ولكن الحق وحده لا يكفي لبناء دول ناجحة أو إدارتها. هذه هي مشكلة بعض العرب.

في التجارب العراقية والفلسطينية واللبنانية والسورية والمصرية، تؤكد كل الأرقام أن حياة هؤلاء العرب كانت أفضل بما لا يقاس تحت حكم الأوروبيين منها في ظل السيادة الوطنية. 

في الحالة الفلسطينية، مثلا، يتحسن وضع الناس كلّما تخلصوا من عبء الكرامة المرتبطة بتقرير المصير، فنرى أن أحسن وضع للفلسطينيين هم عرب إسرائيل. حتى بين هؤلاء، يتضح أن من قرر منهم الانخراط في الدولة الصهيونية يتمتع بحياة أفضل بكثير ممن يتمسكون بالاعتراض على وجودها. 

بعد عرب إسرائيل، يأتي فلسطينيو الضفة الذين يعيشون تحت حكم السلطة الفلسطينية، وهي التي اعترفت بإسرائيل (وسحبت اعترافها في المؤتمر المركزي الأخير بشكل كاريكاتوري مضحك). وضع فلسطينيي الضفة أفضل بكثير من وضع نظرائهم في قطاع غزة، الذي يحكمه أكثر الحكومات الفلسطينية تطرفا في موضوع الاستقلال والسيادة ومعاداة الاستعمار والمطالبة بتدمير إسرائيل بالكامل، أي حماس.

كان الناس في الماضي يتداولون أقوالا يحثون فيها بعضهم البعض على التحلي بالواقعية بما فيه المصلحة الخاصة وبعدها مصلحة الجماعة، من قبيل "اليد التي لا تقدر عليها قبّلها وادعي عليها بالكسر"، وهي عملانية لا تزال سائدة، مثل في التقلب في التحالفات السياسية والانقلاب على المواقف، كمعاداة إيران وعائلة الأسد وصدام حسين ثم مصادقتهما له، أو انقلاب ميشال عون من عدو "حزب الله" إلى حليفه.

الجسم السياسي في هذه الدول العربية يغرق في الكذب والخداع، ولا يعارض الارتزاق لهذه الدولة أو تلك، وأنصار السياسيين الكذّابين يعرفون ذلك، ويتبدلون في مواقفهم القومية والوطنية حسبما يتبدل أسيادهم السياسيون.

والحال هذه، لماذا يتمسك عرب الدول الفاشلة بمبدأ الاستقلال وتقرير المصير فيما يتخلون عن كل المبادئ البشرية السامية الأخرى؟ وما الفارق في أن يقف زعيم "حزب الله" حسن نصرالله، ويعلن ولاءه لحاكم إيران على خامنئي بدلا من أن يعلن ولاءه لفرنسا، الأم الحنون للبنان وسلطة الانتداب السابقة على لبنان؟ 

الواقع هو أن عرب الدول الفاشلة لم يستقلوا في قراراتهم الوطنية أو مصيرهم يوما. تطالع أي نشرة أخبار في لبنان فترى أن كل المعنيين يربطون مصيرهم، بشكل غير مبرر، بمفاوضات إيران مع الولايات المتحدة. السوريون يفعلون ذلك أيضا، فيما يعتقد الفلسطينيون أن كل تاريخهم تم تقريره في الخارج، منذ وعد بلفور، وكل مستقبلهم من الخارج كذلك، في إيران وأميركا أو أي دولة أخرى.

أما الأسوأ من النفاق في الإصرار على السيادة الوطنية وفي نفس الوقت الارتزاق عند حكومات العالم فيكمن في الرغبة الجامحة للهجرة والانتقال الى دول الاستعمار، التي طردتها نفس الشعوب التي تستميت اليوم للهجرة إليها.

هذا يطرح السؤال: لماذا يستميت أي عراقي أو لبناني أو فلسطيني على الهجرة الى أميركا وتحصيل جواز أميركي وقسم الولاء لعلم أميركا، ولكن إن ضمت أميركا العراق مثلا وحوّلته ولاية أميركية تحت علمها تثور ثائرة هؤلاء العراقيين؟ لماذا لا يطلب العرب من حكومات الاستعمار أن تعود لتحكمهم في بلادهم بدلا من أن تحكمهم في بلادها البعيدة؟ هذا على افتراض أن أميركا والدول الأوروبية ترغب في حكم دول العالم اليوم، وهذا غير صحيح.

أسئلة كثيرة بلا إجابات، وإن توفرت الإجابات تكون عادة على شكل شعارات غبية عن الكرامة الوطنية وتقرير المصير والمزيد من التخلف والبؤس والفقر والاستماتة على الهجرة بعيدا عن الكرامة والسيادة الوطنية.

الثلاثاء، 8 فبراير 2022

قطر حليفة أميركا وعدوتها

حسين عبدالحسين

أخطر الرئيس، جو بايدن، الكونغرس، الأسبوع الماضي، بترشيح قطر كـ "حليف أساسي" للولايات المتحدة "من خارج تحالف الأطلسي"، وهي خطوة تناقض السياسات المعلنة للحزب الديمقراطي، والقاضية بانسحاب أميركا من منطقة الشرق الأوسط والخليج و"الاستدارة" شرقا نحو الصين والشرق الأقصى.

السبب الأبرز خلف الترقية التي قدمها بايدن لقطر يكمن في الإعداد الأميركي لخطة طوارئ لتزويد أوروبا بغاز بديل عن الذي تستورده من روسيا، في حال قيام الأخيرة بعدوان عسكري ضد أوكرانيا يجبر الغرب على مقاطعة صادرات الطاقة الروسية وفرض العقوبات على موسكو.

وتتصدر قطر لائحة مصدري الغاز في العالم، وتصدّر ثلاثة أضعاف ما تصدّره روسيا، وهو ما يعني أن السبب الذي دفع الولايات المتحدة إلى الخليج، بموجب "عقيدة كارتر" في العام 1980، ما زال قائما.

والعقيدة التي وضعها الرئيس الديمقراطي السابق، جيمي كارتر، تنصّ على تقديم حماية عسكرية لأكبر خزّان طاقة في العالم للدفاع عنه، يومذاك، في وجه اقتحام سوفيتي محتمل إثر انهيار حليف الغرب في إيران، الشاه محمد رضا بهلوي، ولضمان مواصلة ضخّ النفط والغاز لمنع أي اهتزازات في الاقتصاد العالمي، وفي طليعته الأميركي.

وفي الخليج أيضا، تتصدر السعودية لائحة الدول المصدرة للنفط في العالم، فيما تحلّ الإمارات في المركز الخامس، وهو ما يعني أن حماية مصادر الطاقة للوقاية من أيٍّ ما من شأنه أن يعيق الاقتصاد العالمي ما زالت مطلوبة، على عكس النظريات التي دأب أوباما، وبعده فريق بايدن، على تقديمها، ومفادها أن أهمية الخليج تراجعت بسبب الطاقة البديلة، وأن لا حاجة للولايات المتحدة لمواصلة وضع حلفائها تحت مظلتها العسكرية. 

حتى أن بعض الديمقراطيين، من أمثال السيناتور، كريس مورفي، نشر في دورية "فورين أفيرز" المرموقة مقالة أصرّ فيها على أن "عقيدة كارتر" انتهت صلاحيتها، وأن على أميركا إجبار حلفائها الخليجيين على الحوار مع طهران للتوصل معها إلى ترتيبات أمنية، أو بالأحرى الاستسلام لهيمنتها.

مورفي نفسه شارك في حفل عشاء جمعه مع أمير قطر، الشيخ تميم بن حمد، وبثّ مورفي بعد اللقاء تغريدة أثنى فيها على قطر ودعا إلى تعميق التحالف معها، وكأن السيناتور الديمقراطي، الذي يدعو في كل مناسبة إلى انسحاب عسكري أميركي شامل من الخليج، لا يعرف أن الدوحة تستضيف أكثر من عشرة آلاف جندي أميركي في قاعدة العديد.

وما يزيد في الطين بلّة أن انحياز الديمقراطيين لقطر يأتي على الرغم من العداء الذي تعلنه الدوحة ليل نهار لكل ما هو أميركي، إذ تقوم الشبكات الإعلامية التي تمولها الحكومة القطرية، لا بانتقاد سياسات الإدارات الأميركية فحسب، بل بتقذيع التاريخ الأميركي برمته وقيام الجمهورية، واعتبارها جمهورية عنصرية قائمة على دماء السكان الأصليين والعبودية والاستعمار.

كما تغدق قطر الأموال على جمعيات وأحزاب الإسلام السياسي على أنواعها، وتعارض جهود السلام مع إسرائيل، وتنحاز إلى طهران. ثم تتصرف الدوحة وكأنها تتعامل بندية مع طهران، مثل زيارة وزير خارجيتها إيران قبل أيام من زيارة أميرها واشنطن، فيما بدا وكأن قطر تقوم بوساطة بين الطرفين، فيما الأرجح أن الدوحة سعت لأخذ بركة طهران قبل زيارة واشنطن.

هكذا أظهرت خطوة الرئيس بايدن وحفاوة بعض الديمقراطيين في استقبال أمير قطر وكأن إصرار الحزب الديمقراطي على "التخلي" عن منطقة الخليج ليس تخليا فعليا عن هذه المنطقة، بل تخلٍ عن بعض حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، أي السعودية والإمارات، واستبدالهما بقطر ومعها إيران.

ويعزز نظرية انحياز الإدارات الديمقراطية مع حلفائها في الكونغرس ضد السعودية والإمارات التصريحات والخطوات التي قامت بها إدارة بايدن منذ توليها الحكم قبل عام، إذ هي قامت بالإفراج عن وثائق سرية تتعلق بهجمات 11 أيلول- سبتمبر على أمل إحراج الرياض، ثم قامت بمنع بيع السعودية والإمارات أسلحة هجومية.

كذلك قامت إدارة بايدن برفع الحوثيين في اليمن عن لائحة التنظيمات الإرهابية. والحوثيون هؤلاء أنفسهم حمّلهم المسؤول في البيت الأبيض، برت ماكغورك، مسؤولية استمرار حرب اليمن بسبب رفضهم الدخول في أي هدنة، فيما أثنى المسؤول نفسه على السعودية لقبولها اتفاقيات الهدنة المختلفة التي قدمتها الأمم المتحدة للأطراف المتنازعة.

وإلى معاملة السعودية بما يقارب الفظاظة، قامت إدارة الرئيس بايدن بتوتير علاقتها مع الإمارات مع إعلان واشنطن تأخير بيع مقاتلات أف-35 الأميركية المتطورة وطائرات "ريبر أم كيو" بدون طيار، ما دفع أبوظبي إلى إعلان تخليها عن الصفقة التي تبلغ قيمتها 23 مليار دولار، وهو ما دفع إدارة بايدن إلى الهرولة للتراجع عن العرقلة.

السعودية والإمارات، من جهتيهما، تتبنيان سياسة خارجية تجعلهما في مصاف أقرب حلفاء الولايات المتحدة، إذ لعب كلاهما دورا محوريا في الحرب ضد الإرهاب منذ يومها الأول في أفغانستان وصولا إلى القضاء على داعش في العراق وسوريا، ويدعم كل منهما السلام مع إسرائيل، الإمارات وقعته والسعودية تعلن تأييدها له مع تحفظات وبشروط. كما تفخر كل من الدولتين بتحالفهما مع الولايات المتحدة عبر قنواتهما الإعلامية التي تمولها حكومتاهما. 

والحال هذه، يصبح محيراً سبب اختيار بايدن ترقية من يحرّض ضد الولايات المتحدة كحليف أساسي من خارج الأطلسي، في نفس الوقت الذي يتعامل فيه بايدن باستخفاف تجاه أكثر الحلفاء وفاء للولايات المتحدة، وهو تصرّف دأبت الإدارات الأميركية على ممارسته، مثل إصرار أوباما على استقالة فورية لرئيس مصر الراحل، حسني مبارك، حليف واشنطن، وفي نفس الوقت تمسكه بـ "تسوية بين الطرفين" بين رئيس سوريا، بشار الأسد، ومعارضيه.

ربما هو "الشعور الأبيض بالذنب" الذي يغرق فيه بعض الديمقراطيين ويدفعهم للتقارب مع خصوم أميركا على حساب حلفائها، وربما هي مراهقة وعدم إلمام بالسياسة الدولية، وربما هي خليط من الإثنين: التكفير عن التفوق الأميركي عالميا واعتقاد أن العالم واحة سلام ومحبة لا تعكرها إلا سياسات أميركا وقوتها.

الثلاثاء، 1 فبراير 2022

عن انحيازي ضد فلسطين

حسين عبدالحسين

عاتبني صديق عزيز بقوله إني منحاز ضد فلسطين. وعدته أن أكتب تجربتي في مقالة. في بيتنا العراقي كنا نتفادى السياسة والمنغمسين فيها لتفادي دموية صدّام حسين. كنا نحاول تحديد انتماءات الناس لتفادي البعثيين والدعوة والفلسطينيين لأن غالبية فلسطينيي العراق كانوا مخبري صدام. في مدرستي البغدادية كان اهتمامنا يتركز على شتم الخميني الدجّال وإيران، وتمجيد معركة القادسية التي هزم فيها العرب المسلمون الفرس المجوس. لا أتذكر أننا تحدثنا عن فلسطين يوما.

في بيتنا اللبناني كانت جدتي وأختها، حارستا العقيدة، ترددان أن الفلسطينيين باعوا أراضيهم لليهود وجاؤوا ليأخذوا لبناننا. عائلتنا كانت مقرّبة من السيد موسى الصدر، الذي نام ليالي في بيت جدي في بعلبك. والصدر كان من حلفاء رئيس سوريا حافظ الأسد، والأخير كان يكره الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات كالطاعون. كنا نحن نكره عرفات ونهلل لحركة أمل، الميليشيا اللبنانية التي أسسها الصدر، والتي حاصرت المخيمات الفلسطينية وقتلت فلسطينيين كثيرين. 

في العقيدة الشيعية لا أهمية لفلسطين. بعد مكة والمدينة، المدن الأكثر قدسية هي النجف حيث مرقد الإمام علي وكربلاء مرقد ابنه الحسين. على مقربة من بغداد، كانت زيارة مرقد الكاظمين من الشعائر التي كنا نمارسها بانتظام.

في فلسطين، باني المسجد الأقصى هو الخليفة عمر بن الخطاب الذي يلعنه الشيعة لاغتصابه حق علي في الخلافة. أما قبة الصخرة، فبانيها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الأموي، والشيعة يلعنون الأمويين قتلة الحسين والعبّاس. في كل أرض فلسطين لا توجد بقعة واحدة ذات قدسية للشيعة. البقاع التي يقدسها الشيعة في المشرق العربي تقع على الخط الذي يربط جنوب العراق بالشام عن طريق الجزيرة شمالا، مرورا ببعلبك ثم دمشق. يعتقد الشيعة أن بعد معركة كربلاء، أخذ الأمويون النساء سبايا إلى بلاط يزيد في دمشق. في بعلبك توفيت خولة ابنة الحسين وفي قرية راوية، قرب دمشق، توفيت زينب أخته. هذان مقامان مقدسان عند الشيعة اليوم. لكن في فلسطين، لم يسبق أن مرّ أي امام أو اخوته، لذا لا قداسة في القدس ولا غيرها، على عكس رأي السنة الذي يرى في القدس "ثاني القبلتين وثالث الحرمين".

هكذا لم تعن لي فلسطين في سنواتي وعيي الأولى، الى أن كانت سني الجامعة التي أخرجتني من معتقداتي المنزلية وفتحت عينيَّ على معتقدات مختلفة اخترت منها الأقل عصبية والأكثر اتساعا للجميع، فتخليت عن عصبيتي الشيعية واستبدلتها بهوية عربية علمانية جامعة. ولم تستهوني العقائد القومية الشوفينية على طراز البعث، فوجدت نفسي في رفقة صحبة من الناصريين والشيوعيين، وهكذا كان. صرت يساريا عربيا، وألصقت صورة جمال عبدالناصر في غرفتي، وهو ما أثار دهشة أهلي لأني تبنيت زعيما سنيا لا يحبه الشيعة كثيرا، بل تمسك شيعة لبنان بمنافسيه كعبد الكريم قاسم في العراق و كميل شمعون "النمر" في لبنان. في باقي أنحاء العالم العربي، كان الشيعة يقتدون بشاه إيران، حليف إسرائيل، ويناكفون بذلك السنة والناصريين وفلسطين. 

لكني تخليت عمّا تربيت عليه، وتبنيت ما اعتقدته أكثر إنصافا وعدلا، ورأيت أن العراقيين مظلومين تحت حصار دولي خلته يستهدف العروبة وصدام البطل المشاغب ضد الإمبريالية الأميركية، وخلت أن القضية الفلسطينية واضحة: دولة فلسطينية اجتاحها نفر من أوروبا وطردوا سكانها وأقاموا دولة بدلا منهم، وأن الحلّ يكمن في عودة الحق لأصحابه.

كنا نجمع تبرعات ونرسلها للعراق المحاصر، ونتظاهر ضد حصار العراق ولفلسطين. ثم زار بيروت وزير صدام طارق عزيز ببذته البعثية وقبعته العسكرية. استضافه العروبي معن بشور في فندق كومودور، وكنت حاضرا. بعد الخطابات عن أطفال العراق وغزة الجيّاع، استل عزيز سيجارا كوبيا فخما وأشعله فيما كانت أفخر أصناف المأكولات على الطاولة. تلك كانت أولى دروسي عن النضال القومي العربي وأكاذيبه.

كانت الأوساط الشيعية في لبنان انقلبت مؤيدة لإيران بسبب أموال "حزب الله"، وكان أنصار الحزب يتضرعون في صلواتهم إلى الله حتى "ينصر الإسلام على الطاغية صدام". استجاب الله وأرسل الولايات المتحدة للإطاحة بطاغية العراق، فسارعت إيران إلى إرسال وزير خارجيتها كمال خرازي ومساعده جواد ظريف إلى بغداد للقاء صدام وإعلان تأييده. في بيروت، طالب زعيم "حزب الله"، حسن نصرالله، بالتوصل إلى "طائف عراقي"، أي تسوية سياسية بين صدام ومعارضيه لوقف حرب الإطاحة به. أما المفارقة اليوم فتكمن في أن إيران تعيّب على مقتدى الصدر تقاربه مع البعثيين (أي السنّة العراقيين).

السياسة لا رب لها، على حسب القول العربي. نفاق وكذب المقاومة والممانعة وكل المحاور المسماة إسلامية ومعادية للإمبريالية كان ثاني دروسي. 

ثم رحت أقرأ عن مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية من مصادر متعددة أميركية وأوروبية وعربية. كلها أجمعت على تهريج ياسر عرفات المتواصل وتقلباته وتنصله من وعوده. كان عرفات يعد إسرائيل بالسلام فيما حماس تواصل تفجيراتها الانتحارية وتقتل إسرائيليين. ثم يذهب عرفات ويقبّل رأس مؤسس حماس أحمد ياسين. لم يعطِ الفلسطينيون السلام مع إسرائيل فرصة يوما، وقاموا بإلقاء اللائمة على إسرائيل. الفلسطينيون يريدون كل الأرض من النهر إلى البحر. قد لا يقولوها في العلن، ولكنهم يرددوها بشكل متواصل في المجالس الخاصة.

بدون سلام فلسطيني إسرائيلي، يستحيل الخروج من دوامة الدماء والحروب العربية والإيرانية المتواصلة، من حروب صدام إلى حروب نصرالله والحوثي ومحور إيران عموما. وبدون نهاية للحروب، لا أمل بعيش كريم، وهو ما تعتبره غالبية الفلسطينيين عدالة: أما العيش الكريم لهم، أو فلتبقى دنيا العرب غارقة في الحروب إلى يوم زوال إسرائيل.

لن أناقش المظلومية أو الأحقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. سأعتبر أن كل ما يقوله الفلسطينيون صحيحا. لكن هذا لا يكفي لإبقاء العرب في بؤس إلى أن يستعيد كل فلسطيني كل قطعة أرض يحمل سند ملكيتها. معظم العرب تعرضوا لمجازر على أيدي عرب (وللفلسطينيين حصة وازنة في قتل عرب آخرين وقتل بعضهم البعض). ومعظم العرب تعرضوا لتطهير عرقي وتهجير وخسروا ممتلكاتهم، ومعظم العرب تعرضوا لذل على الحواجز وفي فروع التحقيق والزنازين. لا شيء يجعل مظلومية أي فلسطيني أكبر شأنا من مظلومية أي عربي آخر، والأسوأ أن الفلسطينيين قلّما يتضامنون مع الضحايا العرب، بل يهللون لصدام وبشار الأسد وقاسم سليماني وكل ديكتاتور أيديه ملطخة بدماء عربية.

خروجي عن "الإجماع" العربي حول فلسطين كان كخروجي عن الإجماع الشيعي العائلي أو أي تصنيفات ولدت عليها ولم أخترها. والمشي في طريق غير "الإجماع" موحشة، فالتفكير الحر ممنوع حول فلسطين، إذ يمكن للعربي أن يكفر بالدين ولا يمكنه الخروج عن "الإجماع" حول فلسطين. أما في بريدي الخاص، فتنهمر علي الرسائل المؤيدة لمواقفي العقلانية حول فلسطين، لكنها تبقى رسائل خاصة إذ يخشى أصحابها غضب "الإجماع"، الذي يرى في كل من يخالفه متحاملا ومتحيّزا ومأجورا إلى باقي أسطوانة القمع والتخوين، الأسطوانة نفسها التي أضاعت إمكانية قيام دولة فلسطين أصلا. 

لكل هذه الأسباب، لم تعد فلسطين تعنيني كما كانت يوما. أتابع أحداثها كمراقب، أعلّق عليها، أؤيد السلام غير المشروط مع إسرائيل، أؤيد بقاء إسرائيل والإفادة من نجاحاتها الباهرة. أؤيد الهزائم لأن طعم الانتصارات أكثر مرارة.