الخميس، 28 أبريل 2022

لمن الأقصى؟

حسين عبدالحسين

طالبت لجنة القدس التابعة للجامعة العربية إسرائيل بـ"احترام حقيقة أن المسجد الأقصى والحرم القدسي الشريف.. هو مكان عبادة خالص للمسلمين". هذه الحصرية نفسها طالب بها مدير الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل في الضفة الغربية، الشيخ حفظي أبو سنية، الذي اعترض على إغلاق إسرائيل الحرم في وجه غير اليهود لثلاثة أيام "بحجة ما يسمى عيد الفصح عند الاحتلال"، معتبرا أن الإغلاق "تعديا صارخا على حرمة المسجد واستفزازا صارخا لمشاعر المسلمين وتهويد ما تبقى من أجواء الحرم الإبراهيمي".

ويبدو أن الشيخ أبو سنية غافل أن التقليد الإسلامي يعتبر أن إبراهيم لم يكن عربيا بل كان عبرانيا، وكان من نسله إسماعيل، الذي تعرّب وصار جد العرب المستعربة، وهو جد رسول المسلمين محمد. أما العرب العاربة، فينحدرون من نسل هود، المعروف باسم "عابر" في التوارة. وعابر جد العبرانيين قبل إبراهيم، والمنافسة بين شقي العرب برزت، حسب المؤرخ جواد علي، بعد الهجرة الإسلامية الى المدينة، حيث تباهى عرب يثرب أنهم من العاربة، وأن عروبتهم أقدم وأعرق من عروبة مهاجري مكة المستعربة. 

كما يبدو أن الشيخ أبو سنية غافل أن القرآن نفسه يروي القصة التي يتذكرها اليهود في عيد الفصح، وهي قصة خروجهم من مصر، كما في خطاب الله لبني إسرائيل في سورة البقرة "وإذ فرقنا بكم البحر فأنجينكم وأغرقنا آل فرعون وأنت تنظرون"، وفي الأعراف "وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعَفون مشرق الأرض ومغاربها التي بركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه".

وقصور معرفة الشيخ أبو سنية في التاريخ والقرآن يشمل شريحة واسعة من العرب والمسلمين، التي تبنت تفسيرات غير مقنعة للقرآن لاستخدامه كوثيقة تاريخية لإثبات ملكية فلسطين، وتاليا حق السيادة عليها في وجه أبناء عمومتهم من العبرانيين الإسرائيليين. 

يستند المسلمون في أحقيتهم في القدس إلى الآية الأولى من سورة الإسراء "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى"، ويعتبرون أن المقصود بـ "عبده" في الآية هو الرسول محمد. لكن الآية التي تليها مباشرة تكمل القول "وآتينا موسى الكتاب وجعلنه هدى لبني إسرائيل". وفي السورة نفسها أجزاء من قصة خروج اليهود من مصر والمعجزة الإلهية التي شقت البحر لعبورهم في رحلتهم.

والفرار من فرعون لا بد أن كان في الليل، وفي اللغة العربية، كلمة إسراء تعني "سير القافلة ليلا"، وهو ما يصف هروب بني إسرائيل من مصر ليلا في قافلة كان يقودها موسى برعاية إلهية أوصلته إلى المسجد الأقصى. وحسب التقليد السامي، يمكن إضافة إسم إيل، أي الإله، الى أي فعل للحصول على اسم ديني، مثل عبد وعبدالله. وإذا ما أضفنا إلى إسراء إيل نحصل على إسرائيل، أي إله الإسراء أو الإله الذي خلّص الإسرائيليين من مطاردة فرعون لهم.

كل هذه الدلائل تستوجب إعادة تفسير كلمة "عبده" في الآية ونسبها إلى موسى بدلا من محمد، وهو ما يتفق مع سياق السورة التي تذكّر بني إسرائيل بفضل الله عليهم وجحودهم بذلك. أما تسمية "حرام"، فتنطبق على أي مساحة مقدسة، فيما تسمية "أقصى" تشير الى أن الموقع الذي تم الوصول إليه كان بعيدا وشكّل نهاية سير القافلة.

هذا في النصوص الدينية. أما في علم الآثار، فلا دلائل حتى الآن على وجود "الهيكل الأول" في أورشليم القدس. لكن الوجود اليهودي دلائله كثيرة في المدينة في زمن "الهيكل الثاني" تحت حكم اليهودي هيرودس، وضخامة البنيان اليهودي تتزامن مع ضخامة مشابهة في عموم المنطقة تعود إلى الفترة نفسها، إن في بترا العربية النبطية في الأردن، أو في تدمر العربية في سوريا، أو في بعلبك العربية الأيطورية في لبنان. كلها معابد ضخمة شيّدها الحكام المحليون وحظي بعضها بدعم من عاصمة الإمبراطورية روما. إلا أن مرور الزمن دمر الكثير من هذه الهياكل، وبقي منها آثار كحائط المبكى اليهودي. 

أما قبة الصخرة، فمقام عربي أموي شيّده خليفة الله (قبل أن يعدّل العباسيون اللقب إلى خليفة رسول الله) عبدالملك بن مروان في العام 690. ومع أن عبدالملك أورد كلمة محمد على نقوده التي صكّها في وقت متأخر من حكمه، إلا أن لا دلائل واضحة من خارج النصوص الإسلامية المتأخرة عن العهد الأموي تثبت أن الأمويين كانوا أسرة إسلامية، بل الأرجح أنهم كانوا طائفة صوفية أقرب إلى المسيحية، وأن بناء مقام قبة الصخرة المثمن الأضلاع — بدون محراب في اتجاه مكة — يشي أنه لم يكن مسجدا بالمعنى الإسلامي. أما الصخرة، فالاحتفاء بها شبيه بالاحتفاء بالحجر الأسود في الكعبة وينحدر من تقاليد صوفية سابقة للإسلام (على الرغم أن البعض يعترض على فرضية أن الصوفية سابقة للإسلام).

كل هذا التاريخ يعني أن هذه المواقع توالت عليها أزمان وحضارات وثقافات حوّلتها إلى تراث بشري، حسب تصنيف مؤسسة أونسكو التابعة للأمم المتحدة. ولأنها تراث بشري، لا ضير من فتح هذه المواقع أمام شعوب العالم على تنوع أديانهم، يصلي فيها كل من يشاء، حسبما يشاء، مع احترام الحيز العام وبدون حصرية لمعتنقي هذا الدين أو ذاك.

أما السيادة على القدس، فموضوع سياسي لا تاريخ ولا دين فيه، ولا يؤثر في حرية العبادة، وهذا قبر الخليفة العباسي المسلم وعزّ العرب هارون الرشيد في إيران، يدوسه الإيرانيون بأرجلهم بعد زيارة مقام الإمام علي الرضا، وهذا معبد البهائيين في حيفا تحت سيادة إسرائيلية، ومقام النبي دانيال اليهودي تحت سيادة إيرانية، فيما كنيسة أنطاكية المارونية تحت سيادة تركية.

أورشليم القدس، التي كان يسميها المسلمون إيلياء، هي لمن يعتني بها ويتشاركها مع باقي البشر. ولا يمكن لها أن تكون سبب حروب ومواجهات وعنف. والقدس تتسع للمؤمنين على تنوع معتقداتهم، أو كما ورد في إنجيل يوحنا أن "في بيت أبي منازل كثيرة". أما السيادة عليها وعلى باقي الأراضي بين النهر والبحر، فسياسة، والسياسة لا دين لها.

الأربعاء، 20 أبريل 2022

انتخابات لبنان بلا قيمة.. وصندوق النقد يؤجج المشكلة

حسين عبدالحسين

الانتخابات اللبنانية المقرر إقامتها منتصف الشهر المقبل إضاعة للوقت. في حال خسر "حزب الله" الغالبية التي يتمتع بها في "مجلس النواب"، سيخرج زعيمه حسن نصرالله ليقول للبنانيين إن البلاد لا تخضع لحكم الغالبية لأنها "ديموقراطية توافقية". أما في حال حافظ نصرالله على الغالبية البرلمانية، فسيواصل سيطرته على الحكم بغض النظر عن آراء الأقلية.

ومن المعلوم أن الناخبين اللبنانيين لا يطالعون بشكل كافٍ لتحديد خياراتهم الانتخابية بطرق مستقلة عن القبيلة والحي والجماعة، بل يراهنون على من يتوقعون فوزه، وينحازون له قبل الانتخابات للاستفادة من خدماته أو خدمات ابنه أو حفيده بعد الانتخابات. نظام الوراثة السياسي قديم في لبنان، ولا يتعامل مع المرشحين كأشخاص بل كشيوخ عشائر. 

"حزب الله" يعرف السياسة في لبنان جيدا، ويعرف من يتمتع بدعم أبناء منطقته فيتحالف معه. يحصد المرشح دعما إعلاميا وماليا من الحزب الموالي لإيران، في مقابل سكوت المرشح عن تمزيق ميليشيا الحزب لسيادة دولة لبنان عن بكرة أبيها.

إذن، الانتخابات النيابية في لبنان لا تقدّم ولا تؤخّر. لكن ترشح عدد من الأصدقاء أجبر أمثالي على محاولة إضاءة شمعة بدلا من لعن الظلام، خصوصا بالنظر إلى التضحية الكبرى التي يقدمها من يقومون بترشيح أنفسهم في الجنوب الصامد الصابر على طغيان "حزب الله" وبلطجة حلفائه في "حركة أمل".

علي مراد الصديق والرفيق في النضال الطلابي، وبعد ذلك في "اليسار الديموقراطي"، هو من خيرة المرشحين الجنوبيين. في مقابلة له مع موقع إخباري لبناني، قدم رؤية ثاقبة حول ضرورة مواجهة تقويض "حزب الله" للسيادة. يقول علي أنه يناصر "السيادة الاجتماعية" كذلك، بدون أن يفصّل معنى ذلك. من معرفتي به، أعتقد أنه يعني الحريات الفردية (ليبرتي بالإنكليزية)، أي حقوق المرأة من التسلط المجتمعي والديني، وحقوق المثلية الجنسية وسائر الحريات الجندرية من ظلم القوانين اللبنانية البالية.

هذا النوع من الأفكار يغيب عن خطاب غالبية المرشحين، التقليديين الوراثيين منهم كما الشباب وناشطي المجتمع المدني و"ثورة 17 تشرين"، الذين يقدمون ترشيحهم غالبا بطريقة شعبوية ويسعون لامتطاء موجة الغضب الشعبي ضد الانهيار القائم. 

على أن ما يحتاج الى تحديث في رؤية الصديق علي مراد هو الشق الاقتصادي، وعلي ليس اقتصاديا بل من المتخصصين بالقانون. يقول علي إن مشكلة لبنان هي في تصميم اقتصاده بشكل يحمي المصارف ولا يحمي العامة. لكن أين هي حماية المصارف المفلسة اليوم، والتي يتقاضى كبار موظفيها رواتبا بالليرة اللبنانية لا تكفي مصروف عائلة ليوم واحد؟ المصارف، كما سائر الاقتصاد، انهارت، والأجدى بالمرشحين من أصحاب الرؤى، مثل علي، تقديم أفكارا أعمق لتشخيص أسباب الانهيار وسبل وقفه.

العداء للمصارف لا ينفع، ولن تقوم قائمة اقتصاد في العالم بدون قطاع مصرفي قادر على تأمين السيولة النقدية المطلوبة للنمو الاقتصادي. المشكلة في لبنان هي أن حكم ميليشيا "حزب الله" قوّض الاستقرار، فتوقف النمو، وراح الاقتصاد يسير كالدراجة التي خسرت عجلة النمو، فسارت مسافة الى أن هوت العجلة الثانية، أي النقد والمصارف. 

مشكلة الاقتصاد اللبناني اليوم أن حكام لبنان ومعارضيهم لا يدركون أن الاقتصاد والسياسة متلازمان، وأن الدول الكبرى كالولايات المتحدة تسخّر السياسة في سبيل الاقتصاد فيما لبنان يفعل العكس: يضع قيودا سياسية محلية وإقليمية على نفسه، غالبها مستوحى من خطاب معاداة الإمبريالية البائس، الذي ورثه الإسلام السياسي، الحاكم اليوم، عن حكام الماضي، أي الشيوعية والبعثية والناصرية. 

هذا الانفصال جعل اللبنانيين يعتقدون أن معالجة الاقتصاد مسألة تقنية يمكن العمل عليها مع المؤسسات العالمية، كصندوق النقد الدولي، الذي توصل لاتفاقية مبدئية مع الجمهورية اللبنانية تقضي بتقديم الصندوق 3 مليارات دولار للبنان، مقابل تخلي لبنان عمّا تبقى من سياسة سعر صرف تثبيت العملة وإعادة هيكلة الدين العام بفتح صفحة جديدة مع الدائنين، أي تكبيدهم خسائر، باستثناء صغار المودعين.

هذا يعني أن رواتب موظفي دولة لبنان ستبقى على سعر صرف 1500، فيما الاقتصاد والاستيراد سيعملان وفق سعر صرف السوق، أي حوالي 25 ألفا، وهو ما يعني أن نسبة الفقر، المرتفعة أصلا، سترتفع أكثر، خصوصا إذا ما حررت الجمهورية سعر صرف "الدولار الجمركي".

صندوق النقد الدولي يقدم للبنان حلولا نقدية لا تنفع لمشكلته الاقتصادية، أي أن الصندوق يسعى لتخليص الدولة من مديونيتها وأزماتها، وإن على حساب اللبنانيين، وهذا ما يجب على المرشحين من أمثال علي مراد مواجهته، وتقديم برامج اقتصادية تتمحور حول إعادة اقتصاد لبنان للنمو، وهو ما يتطلب استعادة دولة لبنان سيادتها، ودخولها في معاهدات سلام أو هدنات إقليمية على غرار التي يطالب بها بطريرك الموارنة، بشارة الراعي.

لم تكن مشكلة لبنان في تثبيت سعر صرف الليرة، فهذه سياسة تمنح ثقة للمستثمرين وأمنا اجتماعيا للبنانيين، وهي السياسة التي تبناها رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري ورفض اقتراحات صندوق النقد الدولي للتخلي عنها في العام 2000. المشكلة تكمن في تثبيت سعر الصرف بدون نمو، واعتقاد البعض أن الحلول تأتي من المؤسسات الدولية، أو حتى من "استعادة الأموال المنهوبة"، وهذه فكرة يجب التخلي عنها، لا التخلي عن محاسبة الناهبين، وإنما معرفة أن أكثر من ثلثي الأموال التي خسرها لبنان كانت بسبب تثبيت سعر الصرف بلا نمو.

لا شك أن المرشحين من أمثال علي مراد لا يفرضون النقاش الانتخابي ولا أسلوبه، ولكن لا بأس من استغلالهم فرصة ترشحهم لتقديم نقاش سياسي عصري — خصوصا في الاقتصاد — على خلاف الثرثرة السائدة التي لا تؤثر في إمساك "حزب الله" بالبلاد، بغض النظر عن الانتخابات ونتائجها. مع ذلك، هذا تمني لعلي والمرشحين الأوادم أمثاله بالتوفيق والفوز بمقاعد البرلمان.

الأربعاء، 13 أبريل 2022

بوتين والأسد يرتكبان المجازر والعالم يحاسب الديمقراطيات

حسين عبدالحسين

لم يستغرق نظام الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الكثير قبل أن تنهمك قواته في ارتكاب مجازر أودت بحياة عشرات آلاف الأوكرانيين من غير المنخرطين في الأعمال القتالية لمواجهة اجتياح روسيا لبلادهم.

قباحة جرائم حرب بوتين يمكن رؤيتها من الفضاء، إذ أظهرت صور الأقمار الصناعية قبرا جماعيا يبلغ طوله 15 مترا في باحة كنيسة في بلدة بوتشا، فيما قالت الاستخبارات الألمانية أنها تنصتت على حوارات بين مسؤولين وضباط روس تثبت تورطهم في تنفيذ عمليات قتل عشوائية على نطاق واسع. 

إجرام بوتين لا يختلف البتة عمّا قام به حليفه السوري، بشار الأسد، الذي وثّقت الجمعيات الدولية مجازره في السجون بشكل دفع الكونغرس الأميركي إلى إقرار "قانون قيصر" لفرض عقوبات قاسية وشاملة على الدولة السورية.

وفي عام 2019، قامت مؤسسة "ماكسار" نفسها التي كشفت القبر الجماعي في أوكرانيا، باستخدام صور أقمار اصطناعية للكشف عن قبور جماعية في بلدة قطيفة، شمالي دمشق. وبلغت مساحة القبور الجماعية السورية قرابة نصف كلم مربّع.

وفي أكتوبر 2017، أصدر مجلس الأمن بيانا أورد فيه أن فريقا من الأمم المتحدة قام بتحقيقات وأنه "متيقن أن الجمهورية العربية السورية هي المسؤولة عن إطلاق غاز السارين في خان شيخون يوم 4 نيسان أبريل 2017". 

وفي آذار مارس الماضي، ثبّتت محكمة دولية تابعة للأمم المتحدة إدانة القياديين في "حزب الله" اللبناني، حسن مرعي وحسين عنيسي، بتهمة التورط في عملية اغتيال رئيس حكومة لبنان، رفيق الحريري في العام 2005. وسبق للمحكمة أن أدانت زميلهما القيادي في الحزب، سليم عيّاش.

أما نظام إيراني، فمآثره في القتل الجماعي شائعة، ودور رئيس إيران، إبراهيم رئيسي، في مجاز سجون 1988 معروف للعالم، كذلك دور الحرس الثوري وقادته في القمع الوحشي لانتفاضة 2019، والتي راح ضحيتها 2000 إيراني في غضون أسبوع.

محاكم تابعة للأمم المتحدة وتقارير موثقة صادرة عن المنظمة، وصور أقمار اصطناعية، وتسجيلات تنصت على المسؤولين الروس، كل هذه تثبت أن أنظمة بوتين والأسد وإيران و"حزب الله" اللبناني ترتكب جرائم بشكل دوري ومتواصل.

مع ذلك، من العبثي الانخراط في حوار مع أنصار بوتين أو الأسد أو إيران أو ”حزب الله“ لإثبات جرائم من يناصرونهم, إذ أن الأنصار يكتفون بتقارير الماكينات الدعائية الروسية والسورية والإيرانية، وهي دعاية تقلب الأسود أبيض والعكس.

وتقدم تلك الماكينات تبريرات ضعيفة ومستحيلة، تتصدرها الفكرة القائلة إن الضحية ترتكب المجازر بحق نفسها لتوريط روسيا أو الأسد أو ”حزب الله“، وهو ما يطرح السؤال: إن كان الضحايا قادرين على استخدام أسلحة كيماوية، كما يزعم الأسد، فلماذا رموها على أنفسهم بدلا من رميها على الأسد للتغلب عليه؟ أو في حالة لبنان، لماذا تنهمك إسرائيل في تصفية كل معارضي "حزب الله" بدلا من تصفية قادة الحزب ذاته؟

في نفس الوقت، يتمسك أنصار الطغاة، ومعهم جزء كبير من معادي الإمبريالية الغربيين، بدعاية بوتين والأسد وإيران و"حزب الله" الذين يحاولون تشتيت الأنظار عن جرائمهم باتهام الحكومات الديمقراطية بارتكاب مجازر.

ويشيرون إلى حربي أميركا في أفغانستان والعراق، وفضيحة سجن أبو غريب، وإلى صراع إسرائيل مع الفلسطينيين وحروبها ضد حماس في غزة، ليستنتجوا أن من يرتكب جرائم ضد الإنسانية هم الولايات المتحدة وإسرائيل، لا أنظمة معاداة الإمبريالية التي تزعم أنها تنتصر لضحايا الغرب والرجل الأبيض.

على أننا لو صدّقنا أن أميركا أو إسرائيل ارتكبتا مجازر أو جرائم حرب، أين هي المقابر الجماعية الأميركية في أفغانستان أو العراق (هناك مقابر جماعية ناجمة عن بطش طاغية العراق الراحل صدام حسين)؟

أين هو القبر الجماعي للفلسطينيين في غزة؟ على سبيل المثال، أدت حرب غزة الأخيرة إلى مقتل 13 إسرائيليا و192 فلسطينيا، ولا يمكن التمييز بين المقاتلين والمدنيين في القطاع لأن حماس ليست جيشا ومقاتليها ليسوا عسكرا، خصوصا أنه سبق للأمم المتحدة أن أثبتت أن حماس تقوم بإخفاء منصات إطلاق صواريخها خلف مدارس المنظمة الأممية وبين الأحياء السكنية والمستشفيات.

مع ذلك، يقوم المطالبون بمحاسبة ما يسمونها "جرائم إسرائيل ضد الإنسانية" بتظاهرات يرفعون فيها صور بوتين وصدام والأسد وقادة "حزب الله"، في وقت يعيبون على أميركا رفضها الانضمام للمحكمة الجنائية الدولية ولا يعيبون ذلك على بوتين أو على إيران.

الحروب هي بطبيعتها حفلات قتل، لكن النظام العالمي قام بتنظيم الحروب بإقرار مواثيق تسعى لتحييد المدنيين وغير المنخرطين في الحرب.

الدول الديمقراطية تسعى لاحترام هذه المواثيق ما أمكن، يجبرها على ذلك برلمانات منتخبة وصحافة حرة، مثل التي أجبرت الولايات المتحدة على سجن 10 من الجيش الأميركي بسبب ممارساتهم البشعة في سجن أبو غريب العراقي.

ثم أن حكومة الولايات المتحدة هي واحدة من أكثر حكومات العالم التي تعرضت لإفشاء أسرارها، خصوصا عبر العمليات التي أدارتها استخبارات بوتين عن طريق جوليان أسانج وإدوارد سنودن.

في كل المراسلات السرية للحكومة الأميركية، يندر أن نعثر على حوار بين المسؤولين الأميركيين فيه طلب تصفية فلان أو قمع مجموعة معارضة للولايات المتحدة أو تنفيذ عملية تخريب. يا ترى لو كانت الوثائق الحكومية المسربة تعود لروسيا، كم كان عدد عمليات الاغتيال التي تباحث بها قادة موسكو؟ 

حان الوقت للتخلي عن الهلوسة التي تساوي الديمقراطيات، مثل الولايات المتحدة والكتلة الغربية وإسرائيل، مع حكومات الطغيان، مثل بوتين الروسي والأسد السوري ونظام إيران و"حزب الله" اللبناني.

الحكومات الديمقراطية خاضعة لأنواع متعددة من المحاسبة، وهي ترتكب أخطاء، لكنها لا تقوم باغتيالات سرية، ولا بمجازر مقصودة وقبور جماعية. أما بوتين والأسد وإيران و"حزب الله" اللبناني، فجرائمهم متواصلة ضد الإنسانية، ومع ذلك، لا يبدو العالم مهووسا بإدانة الطغاة بنفس الدرجة التي يهتم فيها بتحميل الديمقراطيات خطايا أكثر بكثير مما ارتكبت في عموم تاريخها.

الجمعة، 8 أبريل 2022

حذارِ الفلسطينيين انتفاضة ثالثة

حسين عبدالحسين

قبل اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى في عام 1987 كان يمكن للفلسطيني أن يقود سيارته من نابلس إلى صفد أو من حيفا إلى غزة. كان فلسطينيو الأراضي يعانون من الفقر وانتشار البطالة، ولكن حرية تنقلهم وعملهم كانت مكفولة بلا حواجز ولا تفتيش.

كان قائد فتح و"منظمة التحرير الفلسطينية"، ياسر عرفات، وصل مراتب أسطورية، تضمنت خطابه الشهير إلى الأمم المتحدة ولقاءات مع أبرز زعماء العالم. لكن بعد اجتياح إسرائيل بيروت وطرد عرفات إلى تونس في 1982، عانى الزعيم الفلسطيني الراحل الملل والهامشية، فما كان من أقرب مقربيه أبو جهاد (خليل الوزير) إلا أن انتهز عوز الفلسطينيين، وشرارة حادث مروري، لإشعال انتفاضة فلسطينية بالحجارة، وهي ثورة اكتسبت شعبية عالمية لأنها كانت غير مسلحة.

لإضعاف الانتفاضة، قامت إسرائيل بتصفية أبو جهاد في تونس، وهو ما زاد من هامشية عرفات، الذي وجد في يأس إسرائيل للحوار مع فلسطينيي الداخل فرصة للعودة الى دائرة الأضواء، وهكذا كان. مع حلول العام 1993، وقع الفلسطينيون والإسرائيليون اتفاق أوسلو التاريخي الذي اعترف بموجبه كل منهما بالآخر وبمبدأ العيش في دولتين متجاورتين وبسلام.

سلام أوسلو كان يعاني من ثغرتين، الأولى: أن الفلسطينيين تصوروا أن التسوية تتضمن عودة فلسطينية إلى إسرائيل، والثانية أن عرفات كان شعبويا وفوضويا ولم يف بمجمل التزاماته، خصوصا الأمنية منها، فواصل الفلسطينيون عنفهم بعد أوسلو، ولكنه لم يعد ثورة شعبية بالحجارة، بل تحول إلى عمليات انتحارية قامت بها حماس لإجهاض التسوية مع الإسرائيليين وفرض رؤيتها لنهاية الصراع: انهيار إسرائيلي شامل، وفرار اليهود، وإقامة دولة إسلامية من النهر إلى البحر.

أوقفت انتفاضة حماس الانتحارية مسار التسوية في منتصفه، وهو ما كان يناسب عرفات لأنه كان يعشق الأضواء، لا الحكم الرشيد والحلول. ومع تعطل التسوية، وخوفا من أن تسرق حماس رصيده الشعبي، سمح عرفات لمناصريه بشن الانتفاضة الثانية في العام 2000، وهو ما دفع برئيس حكومة إسرائيل الراحل آرييل شارون إلى القيام بعملية عسكرية شاملة في الضفة وغزة، مشابهة لاجتياحه لبنان قبل عقدين.

وكجزء من الحل الأمني الإسرائيلي، بنى شارون سورا أمنيا، يسميه الفلسطينيون "جدار الفصل العنصري" انتقاصا منه، ولكنه فعليا كذلك: محاولة إسرائيلية لفصل العرب عن اليهود بسبب استحالة العيش السلمي بينهما.

ماتت مفاوضات السلام مع اندلاع الانتفاضة الثانية، فحاول شارون إعادة إحياء المفاوضات بانسحابه من غزة وفرضه انتخابات فلسطينية لتجديد شرعية الحكام الفلسطينيين، وهو ما أدى لانتخاب محمود عباس، أولا رئيس حكومة ثم رئيس السلطة الفلسطينية. لكن اتضح أن عباس أضعف من عرفات وغير قادر على دفع الفلسطينيين في اتجاه التسوية، حتى في زمن الرئيس السابق، باراك أوباما، صديق الفلسطينيين الذي قدم لهم مبادرة أولمرت، التي كانت أقرب الممكن إلى حل الدولتين.

حاول عباس اختبار مزاج الفلسطينيين فأدلى بمقابلة قال فيها إن السلام لا يعني أنه سيعود إلى مسقط رأسه في صفد، أي أنه تخلى عن "حق العودة" ليسمح بقيام دولة يهودية إلى جانب العربية. تعرض عباس لهجوم إعلامي، خصوصا من حماس ومحور الممانعة الذي تقوده إيران، فتراجع عن موقفه، ولم يردّ على عرض أوباما، الذي قام بإطلاق تصريحه الشهير أنه "لا يمكن للولايات المتحدة أن تريد السلام أكثر من الطرفين المعنيين"، أي الفلسطينيين والإسرائيليين. وتحول تصريح أوباما إلى سياسة أميركا تجاه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بغض النظر عن هوية الحزب الحاكم في واشنطن.

وأمام تعثر السلام وضعف عباس وشيوع تقارير عن فساده وعائلته وفريقه الحاكم في رام الله، برزت القوى الفلسطينية المتطرفة، هذه المرة بقيادة قطر وجناحيها الفلسطينيين: القومي العربي بزعامة عضو الكنيست الإسرائيلي السابق، عزمي بشارة، والإسلامي المتطرف الذي تمثله حماس.

على مدى الأسابيع الماضية، مع تتالي وقوع العمليات الإرهابية التي أودت بحياة 11 إسرائيليا، عجّت مواقع حماس الإعلامية بتحريض الفلسطينيين للقيام بانتفاضة ثالثة، وهو ما دعا إليه بشارة كذلك في تغريدة عن الحاجة لاستراتيجية فلسطينية جديدة على شكل انتفاضة شاملة.

على أن المشكلة تكمن في أنه، على عكس عرفات الذي قبل، أو تظاهر بقبول، حل الدولتين كمخرج للعنف الفلسطيني، لا يقبل أي من بشارة أو حماس هذا الحل، بل يدعو كل منهما إلى دولة واحدة من البحر إلى النهر. بشارة يتصورها علمانية ثنائية القومية (عرب ويهود) وحماس تتصورها إسلامية يعيش فيها غير المسلمين (بمن فيهم بشارة) كذميين ومواطني درجة ثانية.

وسيناريو الدولة الواحدة استلهمه بشارة من أستاذ الأدب الفلسطيني الأميركي الراحل إدوار سعيد، الذي تصور أن الأمر الواقع في إسرائيل والأراضي، أي أن الاختلاط السكاني، جعل من الانفصال وحل الدولتين أمرا متعذرا، وفرض قيام دولة واحدة كحل وحيد.

وفي سبيل تسويق الدولة الواحدة، تكفل بشارة بتمويل جمعيات حول العالم بأموال قطرية، من واشنطن ونيويورك إلى لندن والناصرة. وراحت هذه تشيع أن إسرائيل دولة "آبرثايد"، وهو ما يعني أن الحل الوحيد هو استبدالها بدولة ثنائية القومية. وحملت جمعيات دولية، مثل العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش، هذه الفكرة، التي من المتوقع أن يتبناها "مجلس حقوق الإنسان" في الأمم المتحدة.

وتزامن تحريض بشارة للجمعيات الدولية مع تحريض حماس لفلسطينيي الداخل. ومثل حماس فعل مناصرو "حزب الله" و"إيران" إذ أن انتفاضة فلسطينية ثالثة تشتت انتباه إسرائيل عن البرنامج النووي الإيراني وتثنيها عن محاولة تدميره.

لكن ما جدوى انتفاضة فلسطينية ثالثة؟ هل سينسحب الإسرائيليون من كل أراضي إسرائيل كما فعلوا في غزة وجنوب لبنان، أم كما فعلت أميركا في أفغانستان؟ وهل تتفكك دولة إسرائيل على غرار دولة البيض في جنوب أفريقيا؟

لا شك أن الفلسطينيين العقائديين، من أمثال بشارة وحماس وغيرهم، يتصورون سيناريو تفكك إسرائيل وظهور دولة فلسطين بدلا منها ممكنا، بل قريبا، وهو ما يعيدنا إلى الأوهام العربية نفسها منذ ثورة 1936، وهي أوهام تراهن على وهن، بل ذعر، إسرائيلي.

على أن من يطالع كتابات الإسرائيليين وتصريحاتهم منذ بدء المشروع الصهيوني قبل أكثر من قرن، سيرى أن دولة اليهود تقوم على أسس متينة جدا، متجذرة بشعور المظلومية التاريخية لليهود، وتردادهم أن "لا دولة لدينا غير هذه"، أي إسرائيل.

والتصميم الإسرائيلي على سيادة يهودية، مقترنا بالإمكانيات الهائلة للشعب والدولة، لا العسكرية فحسب بل العلمية والتكنولوجية والاقتصادية، كلها تشير إلى أن انتفاضة فلسطينية ثالثة أو رابعة أو خامسة ستلقى المصير ذاته: المزيد من الشقاء الفلسطيني وزيادة في وحدة الإسرائيليين واتجاههم نحو اليمين سياسيا.

ستكون أي انتفاضة فلسطينية ثالثة مشابهة لحرب روسيا على أوكرانيا: أوهام وأخطاء في الحسابات وتعثر في تقدير القدرة الذاتية وقدرات الخصم، ولو كان السيد بشارة محنكا كما يعتقد، لما وجد نفسه في المنفى، ولو كانت حماس تتعلم، لما جددت حروبها مع إسرائيل وصوّرت كل هزيمة انتصارا.