الثلاثاء، 31 يناير 2023

"فوضى".. الإسرائيليون أيضا يبكون

حسين عبدالحسين

مسلسل فوضى الإسرائيلي في موسمه الرابع، الذي عرضته منصة نتفليكس، حطم الأرقام القياسية بحلوله في المرتبة الخامسة للبرامج الأكثر مشاهدة في العالم، وتصدرت اليونان وتركيا وقطر والأردن لائحة الدول التي أقبلت على متابعته.

الجبهة العربية الإيرانية لرفض السلام وعشق الحرب دعت منذ انطلاقة المسلسل الشيّق، قبل سنوات، إلى مقاطعته، في إطار مقاطعة كل ما هو إسرائيلي، فيما نشر بعض الممانعين والرافضين لوجود دولة إسرائيل مراجعات للمواسم الماضية قدموا فيها اعتراضات منها أن المسلسل لا يصوّر الشقاء الذي يتعرض الفلسطيني في مخيمات اللاجئين على الحواجز الإسرائيلية، وكأن مهمة كل عمل تلفزيوني، أو فني، أو أدبي استعراض كل تاريخ الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل، بما في ذلك كل المشاكل القائمة.

فوضى، الذي كتب نصّه ويتألق في بطولته اليهودي الإسرائيلي من جذور عراقية ليور راز، نجح منذ انطلاقته في تفادي الصورة النمطية، فلم يقدّم الإسرائيليين في دور الضحايا الذين ينقلبون أبطالا، ولا هو يصوّر الفلسطينيين أشرارا ينقلبون ضحايا، بل هو صوّر كل من الطرفين ينخرطون في حرب لا أول لها ولا آخر. حرب ضاع هدفها منذ زمن بعيد وتحوّلت إلى دوّامة من الصراع المتواصل الذي يعبث بحياة الطرفين.

تأثيرات هذا الصراع العبثي ظهرت في المواسم الماضية، كما في الموسم الرابع الذي بدأ عرضه الأسبوع الماضي. من هذه التأثيرات أن الحروب غالبا ما تأخذ شكل الثأر الشخصي، فيتمرد فيها العسكر على القيادة السياسية والعسكرية، وينجرفون في المواجهة، ويقومون بممارسات خارج قوانين الحروب، فيتخفى الفلسطينيون بين المدنيين الفلسطينيين، ومثلهم تفعل فرقة الأمن الإسرائيلية المعروفة بالمستعربين، الذين ينخرطون بين المدنيين الفلسطينيين حتى يقضوا على الفلسطينيين ممن يشكلون خطرا على أمن إسرائيل.

وفي المسلسل قصص معروفة من تاريخ الحرب الخفية والعلنية بين الطرفين، بما في ذلك كيفية قيام الإسرائيليين بتجنيد عملاء فلسطينيين، وانقلاب هؤلاء العملاء أحيانا كثيرة ضد من يجندهم، وتعامل العملاء مع الجهة الفلسطينية، فينقلب السحر على الساحر ويتحول الطرف الإسرائيلي إلى هدف للعنف الفلسطيني، وأحيانا ضحية (وسبق أن صوّر فيلم بيت لحم الإسرائيلي الصادر عام 2013 هذه الحالة).

في مواسم فوضى الماضية، تمحورت روايات المسلسل حول مواجهات ضد فلسطينيين هاربين من وجه العدالة الإسرائيلية، ثم فلسطينيين قاتلوا في سوريا وانخرطوا مع داعش، ثم عادوا إلى الأراضي الفلسطينية بهدف تنفيذ أهداف داعشية ضد إسرائيل. في الموسم الحالي، المواجهة هي لإسرائيليين ضد فلسطينيين انتسبوا لحزب الله اللبناني، وعملوا على اختطاف كبار المسؤولين الإسرائيليين، واغتيال بعضهم الآخر، وصناعة صواريخ في الضفة الغربية، وإطلاقها ضد إسرائيل.

وتحمل التطورات المتتالية أحداث المسلسل إلى لبنان و"حزب الله". هنا تتراجع قدرة فوضى على تصوير المشهد اللبناني بدقة، فمسؤولي ومقاتلي "حزب الله" لهجتهم فلسطينية لا لبنانية، وطريق بيروت الشام يبدو سويا نظيفا ذي خطوط بيضاء وإضاءة، وهذا طبعا لا يشبه طرق لبنان المظلمة والتي تفتقر لأدنى أنواع الصيانة.

ويدور حديث بين مسؤول إسرائيلي ونظيره من "حزب الله"، وهنا يعاني النص من النمطية، إذ يبادر الإسرائيلي إلى القول إن الحزب أطاح بلبنان الذي كان يوصف بباريس الشرق الأوسط، وكأن "حزب الله" الذي حوّل لبنان إلى ما يشبه طهران أو قمّ تعنيه باريس أو أن يكون لبنان على شكل دبي أو سنغافورة أو غيرها من الدول الناجحة.

على أن قوة "فوضى" تتمثل في قيامه بتصوير الإسرائيليين على أنهم بشر، لا ماكينة قتل متفوقة تمعن في قتل الفلسطينيين بلا قلب. الإسرائيليون سئموا الموت، وضعضع القتال المتواصل عائلاتهم، يبكون لفقدان رفاق القتال عبر السنين، ويستعرضون أفلام الأفراح التي كانت فيها صفوفهم مكتملة الأصدقاء والأقرباء.

وحتى لا تخال جبهة رفض السلام والمقاطعة أن "فوضى" يأنسن الإسرائيليين ويشيطن الفلسطينيين، فهو يقوم بأنسنة الطرفين، فيقدم مزيجا من الشخصيات الفلسطينية العالقة، مثل الإسرائيليين، في صراع لم تختره، ولا تبدو قادرة على الهروب منه أو وقفه. عند الفلسطينيين من توطنت وانخرطت في المجتمع الإسرائيلي، ثم انهارت حياتها الإسرائيلية لأن أقرانها اليهود، بمن فيهم زوجها، انفضوا عنها عند أول مواجهة بين العرب واليهود. كذلك بين الفلسطينيين من راح ضحية التعييب المجتمعي بسبب تعاون أهله مع إسرائيل في الماضي، فانقلب ضد الإسرائيليين وحاول إيذائهم، لكنه في وطيس المواجهة تراجع حتى ينقذ حياة زوجه وأخته بدلا من التضحية بهما في سبيل القضية. ومن الفلسطينيين من يرى أن السلطة الفلسطينية متهاونة، وأن الحل الوحيد هو في القضاء عليها واستئناف قتال الإسرائيليين.

وفي آتون القتال هذا، يوظف الطرفان أساليب ملتوية تُعلي التفوق الميداني والعسكري والاستراتيجي على الإنسانية والتفوق الأخلاقي، فيما يؤدي الضمير أحيانا الى الخروج عن الأوامر، وهو ما يؤدي للإطاحة بحياة أبرياء.

التفصيل في تقييم المسلسل قد يؤدي إلى الكشف عن أحداثه وإفساد متعة التشويق لمن لم يشاهده بعد، لذا نتفاداها في هذا المقال، لكننا نشير إلى أنه على الرغم من أن العمل يصوّر مواجهة استخباراتية وعسكرية متواصلة بين الطرفين، إلا أنه جلي أن القيمين على العمل، وأبرز المشاركين في التمثيل فيه، لا يهوون الصراع، ولا يرغبون في إطالة أمده، بل هم يصورون الشقاء الناجم عنه للطرفين، وضرورة العمل على إنهائه.

أما المشهد الأخير، فيصور أحد أبرز الشخصيات وهو مطروح على الأرض، مثخنا بجراحه، مضرجا بدمائه، يتمتم الصلاة التي يتلوها اليهود عند اقبالهم على الموت، "اسمعي يا إسرائيل، الرب إلهنا، الرب واحد"، ويردد في الوقت نفسه آيات من سورة الفاتحة، خصوصا "مالك يوم الدين إياك نعبد واياك نستعين"، وفي هذا المشهد صورة "إبراهيمية" حول التشابه والشراكة بين اليهودية والإسلام، الذين يتصوران نفسيهما ينحدران من إبراهيم، جد اليهود وجد رسول المسلمين، وهو ما يجعل الصراع أكثر مرارة وإيلاما لأنه صراع بين أبناء العمومة.

الثلاثاء، 24 يناير 2023

فيلم "الحارة".. الواقع كما هو لا كما نحلم به

حسين عبدالحسين

كارثة هي الصورة الوهمية التي يتصورها المجتمع العربي عن نفسه. أكثرية العرب يخالون مجتمعهم ملائكيا فاضلا، لا شتائم فيه، ولا ممارسة للجنس خارج إطار الزوجية، ولا مثلية جنسية، ولا احتساء للكحول، ولا عربدة، ولا كفر بالدين ولا بالذات الإلهية. يخال هؤلاء العرب أنفسهم من الصحابة والقديسين، فاضلين ملتزمين التقاليد والدين، وهي صورة محض خيال. 

نحن العرب، ككل الشعوب، لسنا سواسية، ولا نتشارك في رأي واحد، ولا ذوق واحد، ولا تقليد واحد. بيننا المكتفي جنسيا في الزواج، وبيننا الزوج اللعوب أو الملعوبة . بيننا الورع التقي العفيف، ومنا الفاجر والفاسد، ومنا من هم بين بين، يوم لك ويوم لربك، يوم خمر ويوم أمر، كل مسؤول عن أفعاله، أو كما ورد في كتاب المسلمين: "ولا تزر وازرة وزر أخرى".

الصورة الوهمية التي يتصورها العرب عن أنفسهم دفعتهم إلى ممارسة القمع الجماعي، وفرض الرقابة على الأفكار والأقوال كما على الإنتاج الأدبي والفكري والسينمائي، الدولي منه والمحلي. دوليا، كلما قدم غير مسلم رأيا أو رسما أو عملا استخف فيه بقصص المسلمين أو معتقداتهم أو شخصياتهم التاريخية، ثارت ثائرة المسلمين. غير المسلم لا يؤمن بنبوة محمد أصلا، ولا بالتوحيد، ولا بالإسلام، ويعبّر عن ذلك في رسم أو كتاب أو مقالة. ما يقوله شأنه، وإن كان في الآخرة يوم حساب، فله ما جنت يداه. لكن العرب، المسلمين منهم وغير المسلمين، يتوقعون أن يلتزم كل البشر رأيهم، وأن يمدحوا معتقداتهم، أو أن يخرس كل غير المسلم تحت طائلة الإيذاء الجسدي.

في دول العرب، القمع مشابه. ممنوع على العرب، مسلمين أو غير مسلمين، كتابة كتب أو مقالات أو إنتاج أغاني أو مسرحيات أو أفلام لا تتوافق وتقاليد البعض أو معتقداتهم، أو تؤيد المثلية، أو تُظهر أن العرب ليسوا صحابة وقديسين.

للمرة الثالثة في أقل من عام، تعلو صرخة عرب كثيرين ضد فيلم يعكس بدقّة العرب ومجتمعهم، فبعد الاعتراض على تلميح فيلم ”أصحاب ولا أعز“ اللبناني إلى علاقات جنسية خارج الزواج ومثلية جنسية، وبعد رفع دعاوى فلسطينية ضد مشاهد عري نسائي في ”صالون هدى“، تعود جوقة الاعتراض ضد "القيم الهابطة والسقوط الأخلاقي" لتمارس صراخها وتطالب بمنع عرض ومحاسبة القيمين على فيلم "الحارة" الأردني بسبب ورود شتائم فيه والتلميح إلى ممارسات جنسية سرية بين حبيبين، فضلا عن تصوير نواد ليل تنتشر فيها الدعارة ويرتادها أرتال من الشباب العربي، من المحيط إلى الخليج. 

للمرة الثانية في أقل من عام، تقف ميسا عبد الهادي في عين العاصفة، فهي التي ظهرت عارية (ومغمى عليها تحت تأثير مخدر) في "صالون هدى"، وهي التي كالت الشتائم على من حاول استدانة سلفة منها في "الحارة". 

أي عربي يعرف تمام المعرفة أن "الحارة" يصور الحياة العربية بدقة. في بعلبك اللبنانية ذات التقاليد المحافظة، والتي نشأت فيها في نفس الزمان والمكان الذي تأسس فيه "حزب الله" الإسلامي اللبناني، كانت العلاقات الجنسية، المثلية منها وغير المثلية، منتشرة، حتى في أكثر زوايا المجتمع تزمتا وتدينا، وكذلك كان استهلاك حشيشة الكيف والكحول وغيرها.

لا يعني ذلك انحلال وهبوط وانحدار، بل يعني أن الهندسة المجتمعية مستحيلة، وأن المجتمعات التي تسعى الى التعامل بواقعية مع الطبيعة البشرية وشهوتها الجنسية، وتسعى لتوعية من يمارسونها على محاسن ومخاطر هذه الممارسة، هي مجتمعات تتقلص فيها الحياة السرية في الظلام، اذ في الظلام ينمو الشر وتترعرع الجريمة، من شرف أو غيره، فيما يقلّص الانفتاح المشاكل الناجمة عن القمع، والتعييب، والكتمان، والحرمان.

حان وقت تعييب من يعيبون المنفتحين من العرب، ومن يحرّضون ضد من يحاول تصوير الحال على ما هي، ومن يحظرون الآراء التي تختلف عن رأي الجماعة. حان وقت تقديم كل الدعم والاحترام للعرب ممن يسعون لتصوير الحقيقة، والتعامل مع الناس وشؤونها على ما هي عليه، لا حسبما يتمنى الواهمون.

إن التمسك بالصورة الخيالية للمجتمع العربي الفاضل مشكلة قديمة ومزمنة بين العرب، والتمسك بالوهم عموما هو الذي فرض، وما يزال، الفشل العربي والانحطاط، فالعرب لم يخسروا حربا، وإن خسروها، فليس ذنبهم بل لتآمر العالم عليهم، وهذه مشكلة منذ هلل أحمد سعيد لنصر 1967 عبر "صوت العرب"، ليتضح أن الواقع كان هزيمة، وهي هزيمة لم تصفع العرب وتحملهم على التعامل مع الواقع، بل كرّست الوهم العربي الذي قلّل من شأنها بتسميتها نكسة، أي أنها كانت كبوة مؤقتة بانتظار الانتصار المؤكد الذي لم يأت حتى اليوم، ولن يأتي.

ومثل في مصر، كذلك في العراق الذي احترق جيشه الذي غزا الكويت، وأحرق معه النفط العربي الكويتي، وأعلن "أسد السنة" صدام حسين "النصر بعون الله" في "أم المعارك". وكذلك في بيروت، أعلن "حزب الله" انتصارا إلهيا على إسرائيل فيما زعيمه لا يجرؤ على الخروج من مخبئه تحت سابع أرض. 

إن سعي العرب لقبول الحقيقة والتعامل مع الواقع كما هو، لا كما يتمنوه، هو أساس الخروج من عصر الانحطاط الذي يعيشون فيه منذ عقود، وحسنا ما فعلت الأفلام التي أثارت هلع حراس الهيكل بتقديمها صورة الواقع العربي كما هو، بألفاظه اللطيفة كما النابية، وتصوير الخروج عن التقاليد جنسيا بين أفراد عليه القوم، كما في "أعز الأصحاب"، والأقل حظوة والمعدمين، كما في "الحارة".

لم تأت الديانات السماوية لتعدّل فطرة البشر، بل لتساعد في التعامل معها، فإن بعدت التعاليم عن الواقع، اقتصر الدين والتقاليد على الخيال والشعر فقط، واصبح الواقع منفصلا عن الانتاج الفكري والفني والأدبي. أما الأفضل، فهو ردم الهوة حتى ترافق الشريعة السمحاء وتقاليدها الزمن الحالي، لا أن تطلب طاعة عمياء يتظاهر الأتباع بتأديتها فيما هم يعيشون سرا نقيض ما يظهرونه علنا.

الثلاثاء، 17 يناير 2023

وجوب انضمام إسرائيل للبحرية العربية في البحر الأحمر

حسين عبدالحسين

تسلمت مصر قيادة القوة البحرية المشتركة التي شكلتها الولايات المتحدة، العام الماضي، بمشاركة دول عربية، منها الأردن والسعودية، وأوكلتها مهمة حماية المنطقة البحرية الممتدة من قناة السويس إلى مضيق باب المندب، ومكافحة القرصنة، ومكافحة الاتجار بالبشر والمخدرات والأسلحة.

وعلى الرغم أن القوة البحرية المعروفة ايجازا باسم "سي تي أف 153" تعمل تحت مظلة القيادة الوسطى في الجيش الأميركي، التي تغطي الشرق الأوسط بما في ذلك الدول العربية وإسرائيل، إلا أن إسرائيل ظلّت خارج القوة البحرية المشتركة لتفادي إثارة الحساسيات مع بعض الدول العربية.

والقوة المشتركة لا تعني اندماج القوى البحرية لهذه الدول، بل تعني التنسيق بينها وفق المساحة التي تنشط فيها بجوار شواطئها ومياهها الإقليمية. والتعاون هنا يضاعف فاعلية كل منها، لا في تغطية مساحة بحرية فحسب، بل في تبادل الخبرات والاستعانة بتقنيات تتمتع بها بعض الدول دون نظيراتها.

المنطق يقول طالما أن الهدف مشترك بين مصر السعودية والأردن والسودان وإسرائيل، وكلها دول متحالفة مع الولايات المتحدة، وهو هدف يقضي بمكافحة الإرهاب والتهريب والحفاظ على استقرار الأمن وحرية الملاحة البحرية وأمن السفن التجارية، فلا سبب لاستثناء إسرائيل وعدم مشاركتها في "سي تي أف 153".

ويشير زميلاي في مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات، برادلي بومان، وريان بروبسب، إلى أن القوة المشتركة الحالية أدت إلى زيادة ملحوظة في عدد الشحنات غير المشروعة التي تم ضبطها، بما في ذلك ضبط 2.5 طن من المخدرات، توازي قيمتها 20 مليون دولار، عثرت القوة عليها في قارب صيد، في خليج عدن، في شهر نوفمبر.

وبشكل غير مباشر، تقوم هذه القوة بمواجهة نشاطات إيران المزعزعة للاستقرار في المنطقة، وضبط سفنها التي ترسلها محملة بالأسلحة، بما فيها المسيرات المفخخة والصواريخ الباليستية.

إذاً، هناك تطابق في المصالح بين هذه الدول العربية من ناحية، وفي طليعتها السعودية، وإسرائيل، من ناحية ثانية، خصوصا في حقل مكافحة تسليح طهران للميليشيات الموالية لها، مثل حزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، وحماس في غزة، وهو ما يملي على الدول التي تسعى لحفظ الأمن والاستقرار التنسيق والتعاون.

ويخبرني بومان أن "البحرية الإسرائيلية هي واحدة من أكثر القوات البحرية قدرة في المنطقة"، وأن لديها "قاعدة بحرية في إيلات تقع على خليج العقبة في البحر الأحمر". ويتابع الخبير العسكري القول: "تضم البحرية الإسرائيلية سفنا مسلحة بصواريخ، وطرادات، وسفن إمداد، وغواصات، وكثير منها مزود بأجهزة استشعار متطورة ومدعومة بمسيّرات ومقاتلات". كما تشمل الأصول البحرية الإسرائيلية "العشرات من زوارق الدوريات التي تديرها أطقم من ذوي الخبرة في الكشف عن عمليات التهريب واعتراضها، خصوصا العمليات التي يقوم بها الموالون لإيران".

ويعتقد بومان أنه من الناحية الاستراتيجية والعسكرية، من غير المفهوم بقاء إسرائيل خارج القوة البحرية العربية التي تعمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة لحماية حرية الملاحة وضبط الأمن والتجارة غير الشرعية في البحر الأحمر.

والسياسات مصالح، والمصالح تتغير، ومعها تتغير السياسات.

يوم أقر العرب سياسة مقاطعة إسرائيل في جامعة الدول العربية، لم يكن هدفهم الانخراط في صراع أجيال مع إسرائيل على أثر فشلهم في القضاء عليها، بعد إعلانها الاستقلال في 1948. كان هدف المقاطعة محاصرة وتجويع الكيان الإسرائيلي اليافع بهدف تقويضه واستبداله بدولة فلسطينية في غضون أشهر.

لكن بعد 75 عاما، ثبت أن لا جدوى للمقاطعة، وأن إسرائيل استعاضت عن التعامل مع العرب اقتصاديا ببنائها اقتصادا أكثر فاعلية من الاقتصادات العربية، وهو اقتصاد مبني على المعرفة، ويتمتع بعلاقات مع أكثر من 150 دولة حول العالم تتسابق لشراء التقنيات الإسرائيلية.

وبعد 75 عاما، تبيّن أن إسرائيل لا تهدف لتقويض الحكومات العربية، ولا لزعزعة استقرارها، بل أن استقرار هذه الدول من مصلحة إسرائيل، لأن الاهتزاز ينعكس على إسرائيل، وكذلك الاستقرار تنعم به هي كغيرها.

وبعد 75 عاما أيضا، صار جليا أن دولة واحدة وحيدة في الإقليم — يحكمها أناس ذوي مخيلة خرافية تؤمن بضرورة نشر الفوضى تحت اسم "نشر الثورة" — هي المسؤولة عن البؤس والشقاء في الإقليم. إيران الإسلامية، التي تسعى لنشر ثورتها منذ العام 1979، لم تنشر غير الخراب والدمار، ولم تحصد غير الانهيارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، داخل إيران كما في الدول العربية التي يهيمن عليها نظام الملالي في العراق، واليمن، وسوريا، ولبنان، بالإضافة إلى قطاع غزة.

وصار جليا اليوم أن إسرائيل هي من تعمل لتعزيز القوانين المحلية والدولية والاستقرار الإقليمي، ومنع تجارة السلاح والمخدرات، وأن إيران والحكومات المارقة المتحالفة معها هي التي تسعى لنشر الميليشيات والحرب والسلاح والفوضى، وأنها تقوم غالبا بتمويل ذلك بالاتجار بكل ما هو غير مشروع، من المخدرات إلى الممنوعات الأخرى.

لا بأس في أن ينحاز العرب للفلسطينيين، لكن الانحياز في المواقف السياسية والدبلوماسية شيء، ومراعاة المصالح القومية والسعي لاستقرار الإقليم، وتأمين حرية الملاحة والتجارة والعيش، شيء آخر، وهو ما يتطلب تجاوز مشاعر العداء الماضي بين العرب وإسرائيل والنظر بواقعية إلى المستقبل، وإلى إمكانيات السلام وبناء علاقة تعود بالنفع على الجانبين.

والاستقرار ضروري حتى تنمو اقتصادات العرب، وحتى يتوقف النزيف البشري الهائل، وهجرة العقول والأدمغة التي يعاني منها الفلسطينيون قبل غيرهم، يليهم مواطنو دول محور الممانعة والبؤس، الذي تقوده إيران وربعها من العرب.

فلتنخرط إسرائيل في قوة البحر الأحمر المسماة "سي تي أف 153"، ولتدرك إيران أنه فيما ينفتح الإقليم على بعضه البعض، تغرق هي أكثر في عزلتها وشقائها وبؤسها، إلى أن يعود حكامها إلى رشدهم، أو لا تعود إيران حتى يرحلون.

الثلاثاء، 10 يناير 2023

تخبط فكري بكتاب "القصة غير المروية لمرتفعات الجولان"

حسين عبدالحسين

يعاني العرب اليوم من انحطاط فكري مخيف. منتصف القرن التاسع عشر، بدأت نهضة فكرية عربية، لكنها تعثرت مع منتصف القرن الماضي، أو بعده بقليل، وصار الفكر العربي شحيحا، غالبه تعريب لأفكار غربية مستوردة. اليوم، ينضم مثقفون عرب من هضبة الجولان إلى الانحطاط العربي بتبنيهم نماذج يعتقدونها حداثة وتقدم، فيما هم يستنسخون فعليا أفكارا غربية سطحية أصلا، ويحاولون تعريبها وتطبيقها على عالم عربي ومجتمع، مشاكله مختلفة عن الغرب، وكذلك حلوله. 

الرائج في الأوساط الأكاديمية الغربية، خصوصا الأميركية، هو مديح ”السكان الأصليين“ و”المستضعفين“، والإصرار على تقسيم الناس إلى هويات وقبائل، على شكل الطائفية العنصرية المقيتة المنتشرة في دول عربية كثيرة. ثم يتصورون كل واحدة من هذه القبائل على أنها جسد واحد يتألف من أناس ذوي آراء متطابقة، ويقومون بتصنيف كل قبيلة على إنها إما شريرة وظالمة أو خيّرة ومظلومة. مثلا، كل الإسرائيليين — باستثناء من يخرج عن قبيلته ويلعنها ويدينها — أنجاس مناكيد، وكل الفلسطينيين أطهار أبرار معصومين عن الخطأ، إلا العملاء منهم. والعميل هو الفلسطيني صاحب الرأي المختلف. 

حمّى ”سياسة الهوية“ التي تجتاح أميركا وصلت هضبة الجولان. هذه الضحالة الفكرية، أو الولدنة على ما نقول في المشرق، يقدمها بالإنكليزية كتاب ”القصة غير المروية لمرتفعات الجولان“، لمؤلفين متعددين. 

بادئ ذي بدء، يتبنى الكتاب معاداة الكولونيالية نفسها السائدة لدى اليسار الأميركي المتطرف، الذي يعادي مؤسسي الولايات المتحدة بوصفهم ”كولونياليين أوروبيين بيض“ أشرار، احتلوا أراض ليست لهم وطردوا سكانها الأصليين ودمروا حضارتهم واستعبدوا شعوب العالم. لذا، يقوم الكتاب باستخدام كلمة جولان العربية في متن النص الإنكليزي بنفس الطريقة التي يصر فيها مسلمو الغرب على كتابة الله بالإنكليزية بدلا من المرادف الانكليزي ”چاد“، ومثلهم عضو الكونغرس من أصل فلسطيني رشيدة طليب، التي تستخدم بالإنكليزي كلمات عربية مثل ”ستي“، للدلالة على جدتها، وتسمي السناتور برني ساندرز ”عمو بيرني“. 

هذا الاستخدام لكلمات عربية في نصوص إنكليزية هو من باب التباهي بالاختلاف، والإصرار على التمايز في مواقع لا تحتاج للاختلاف أو للتمايز، وهي تصرفات شعبوية هدفها المناكفة ولا تمت للفكر بصلة. ربما كان أفضل لو تكبد مؤلفو الكتاب عناء البحث الايتومولوجي عن أصل تسمية جولان ومعناها، كما يفعل الأكاديميون الرصينون. 

اسم جولان سابق للغة العربية ويرد في العهد القديم بمعنى مكان أو محلة، ولكن يمكن اشتقاق الكلمة من جالية وجلاء، ويمكن أن سكان هذه الهضبة هم من جلوا عن ديارهم لأسباب متعددة، منها الاضطهاد، ولجأوا اليها، فاكتسبت الهضبة اسم مشتق من جالية لاجئة، أو جولان. ثم إن كان اللفظ الإنكليزي لاسم جولان مشكلة، لماذا كتابة الكتاب بالإنكليزية، لغة الكولونياليين الأوروبيين اللعينين؟ لماذا لا يروي السكان الأصليون للجولان قصتهم بلغتهم الأصلية؟ 

الكتاب محاولة تماهي جولاني مع حركة المظلومية العالمية، من سليلي العبودية في أميركا إلى الفلسطينيين في الشرق الأوسط. يتخيل الجولانيون مؤلفو الكتاب أنهم ”سكان أصليين“ يعانون من ”استعمار استيطاني“ إسرائيلي لهم ولأرضهم، فيما هم يصمدون ويقاومون ويتحدون مع الفلسطينيين في النضال، ويتبادلون النصح حوله.

ويستعير الكتاب إضراب الجولانيين ضد الضم الاسرائيلي، مطلع الثمانينيات، كتاريخ ولادة المقاومة الجولانية، ويحاول إسقاط مفاهيم حديثة على الإضراب، فيشير إلى الحركة النسوية التي شاركت فيه، والوطنية التي ولدت معه. ثم ينشر الكتاب نص بيان الإضراب كوثيقة ولادة، ليتبين أن مفاهيم الإضراب تنتمي لزمنها، ولا تتناسب والنظريات الغربية التي يستوردها الكتاب، اذ يرد في البيان أن جنسية أهل الجولان عربية سورية، يتم تمريرها من ”الأب لابنه“، دون ذكر الأم أو البنات. 

ويضيف البيان أن كل جولاني يحصل على الجنسية الإسرائيلية يطعن بالكرامة، والشرف، والانتماء الوطني، ويتم اعتباره خائنا للدين، وكأن دين الجولانيين واحد. أما عقاب من يقبل الجنسية الإسرائيلية، فيشبه عقاب من يتزوج خارج مذهب الموحدين الدروز، أي يتم إقصاؤه اجتماعيا، ومقاطعة مناسبات فرحه وحزنه، وتحريم الزواج من أفراد عائلته، ونبذه من النسيج الاجتماعي. 

إذاً هذه هي الهوية الجولانية السورية: رأي واحد أحد تحت طائلة العقاب والنبذ والإقصاء الإجتماعي لكل من يخالف هذا الرأي الوطني الواحد. ثم يقوم مثقفو الجولان اليوم بتغليف هذا الفكر القومي القبلي المتخلف في كتاب شكله حديث ولغته إنكليزية بمفردات بليغة ونخبوية، بدلا من اعتبار أن أساس الهوية الجولانية هي الحرية، والخيار الفردي، والنقاش، وقبول الاختلاف. 

لكن لماذا يرفض دروز الجولان ما وافق عليه دروز الجليل، أي قبول الجنسية الإسرائيلية والخدمة في الجيش؟ الإجابة يقدمها الكتاب، عن غير قصد، عن كيف يرى الدروز أنفسهم كأبناء أرض وأصحاب هوية دينية واجتماعية ثابتة، لا تؤثر فيها اللغة ولا الحكام، لأن اللغات والإمبراطوريات تتغير مع مر العصور، أما الدروز، فيستمرون عبر الأجيال، يستبدلون قمصانهم دون استبدال أرواحهم. 

ويرد في الكتاب أن الدروز لا يرون الإسرائيليين أبقى من الامبراطوريات التي سبقتهم كالرومان والعثمانيين، مع أن الدروز حملوا جنسيات الإمبراطوريتين. ما لم يشر إليه الكتاب هو أن العرب، كالرومان والعثمانيين، قد يحكمون الجولان اليوم ويرحلون مستقبلا، لذا، فإن ارتباط موحدي الجولان هو بأرضهم المباشرة (أي قريتهم) ودينهم وتقاليدهم، وليحكم الجولان من يحكمه، مع ضرورة مسايرة الأباطرة المتنافسين احتياطا من انتقامهم، إن آل الأسد في دمشق. أو حكومة إسرائيل في القدس. 

أما في الجليل، فرأى الدروز أن إسرائيل باقية، لذا راهنوا عليها، وانخرطوا فيها، وكذلك دروز سوريا (من غير الجولان) ولبنان، حملوا جنسيتي بلديهما. الجولان مصيره غير واضح، وهو ما يدفع الدروز إلى ”المشي على السور“: يعلنون سوريتهم من دون أن ينخرطوا في أي صراع مسلح ضد الإسرائيليين، لا في الجولان ولا في باقي الجنوب السوري، ولا في لبنان، ولا هم انخرطوا في الحرب السورية، لا إلى جانب الأسد ولا في صف معارضيه، بل حاولوا الحفاظ على مناطقهم خالية من نفوذ الطرفين. 

هنا أكرر ما سبق أن رويته عن معلمنا المؤرخ الراحل كمال الصليبي، الذي كان يختصر سياسة الدروز برواية عن موقفهم في معركة عين جالوت في القرن الثالث عشر بين المماليك والمغول. لم يوفق الدروز في استشراف من سيفوز فانقسموا فريقين وقاتلوا على الجهتين والفائز توسط للخاسر أمام الحاكم الجديد. 

ليت الأكاديميين الجولانيين وظّفوا علمهم الذي اكتسبوه للقيام بدراسة فعلية حول الجولان، ولماذا بقي الدروز يوم رحل غيرهم، وهل يتمسك الجيل الجولاني الجديد بقيم الأجيال الماضية، أم ينخرط في العالم بدءا من الانخراط باسرائيل ونيل جنسيتها. أما الكولونيالية الاستيطانية الاستعمارية، والاستشراق، وباقي الأسطوانة، فزجل سياسي عالمي لا يغني ولا يسمن.

الثلاثاء، 3 يناير 2023

ليس بالربيع وحده يحيا العرب

حسين عبدالحسين

قبل عشرين عاما، بدا الطغيان قدرا محتوما على العرب. كان مفهوما أن يورث ملكا الأردن الحسين والمغرب الحسن عرشيهما لابنيهما عبدالله ومحمد. لكن لم يكن مفهوما أن تتحول أنظمة الطغيان الثوري إلى جمالك (جمهوريات ممالك) مع انتقال رئاسة حافظ الأسد السوري لولده بشّار واعداد حسني مبارك نجله جمال لوراثة الرئاسة المصرية. ومثلهما كان طاغية العراق صدام حسين يعدّ ابنه قصي لوراثته في مجلس قيادة الثورة ورئاسة البلاد، بعدما تبين أن بِكره عدي فاشل.

ثم اجتاحت الولايات المتحدة العراق وبدا أن الليل العربي بدأ ينجلي وأن القيد بدأ ينكسر.

قبل حرب العراق، أمضت النخبة العربية عقودا وهي تهاجم الولايات المتحدة لدعمها طغاة العرب الذين يبقون الدول العربية متخلفة. لكن بعد هجمات 11 سبتمبر، اعتقدت أميركا أن الطغيان يولّد البؤس، وأن البؤس يولّد الارهاب الذي يصل شواطئها، فقررت إعطاء العراقيين فرصة لبناء ديمقراطية.

الشعب الأميركي لا يهتم كثيرا لشقاء العرب ولا يرى مبررا لإنهائه الذي يكلف الأميركيين أموالا ودماء. لأقناع الأميركيين بضرورة الحرب في العراق، اضطرت إدارة الرئيس السابق جورج بوش إلى تضخيم خطر صدام بإعلان أن بحوزته ترسانة أسلحة دمار شامل. لم تكترث واشنطن لمصداقيتها لأنها ظنّت أن نتيجة التغيير في العراق كانت ستكون إيجابية حتما لأن في العراق شعب يعجّ بحملة الشهادات والكفاءات، وثروة نفطية ضخمة يمكنها تمويل إعادة البناء والتنمية.

جاءت القوة الأميركية بجبروتها لتبدأ عملية التغيير العراقي، فاكتشفت أميركا والعالم أن العرب ليسوا بحاجة لتغيير حكامهم فحسب، بل لتغيير ثقافتهم التي لا تسمح للحريات الفردية ولا تفهم معنى المواطنية. اكتشفت أميركا أنه يستحيل بناء دولة ديمقراطية مع أفراد لا يرون أنفسهم مواطنين، بل أعضاء في قبائل لكل منها زعيم، ما يجعل الدولة مجلس قادة قبائل. والقبائل هنا ليست بالمعنى التقليدي، بل هي شبكات ريعية يقودها قبضايات يقدمون الرعاية المالية والأمنية لتابعيهم، مقابل ولاء التابعين الأعمى لزعمائهم.

مع اكتشاف أميركا الخواء العربي، وسيطرة الثقافة القبلية التي تمنع قيام دولة حديثة، سعت واشنطن لإعادة تركيب العراق كيفما اتفق، غالبا بتكرار النموذج اللبناني الفاشل حيث يتقاسم الزعماء موارد الدولة ويثرون، ويوزعون بعض المغانم على الأزلام والمحاسبين، الذين يضمنون إعادة انتخاب الزعيم وبقائه في الحكم. كل ذلك يتم في غياب الحريات، تحت طائلة التصفية الجسدية لأي معارضين لا ينتمون لأي واحدة من شبكات الزعماء الحاكمين.

في لبنان، اغتال "حزب الله" رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري، حسب محكمة الأمم المتحدة، فأدى ذلك لاهتزاز وانسحاب قوات الأسد من لبنان بعد ثلاثة عقود على احتلاله وحكمه. ومثل العراق، لم تؤد فرصة التغيير التي سنحت للبنانيين برعاية دولية الى تغيير، بل انتقل لبنان من طغيان الأسد الى طغيان زعيم "حزب الله" حسن نصرالله.

تكررت مشاهد الفشل في الانتقال إلى الأفضل في كل الدول التي طالها الربيع العربي بعد ذلك، وأن بوتيرة متفاوتة. في تونس، أطاحت الثورة الشعبية بزين العابدين بن علي، فغرقت البلاد في شلل دام عقد إلى أن تسلّق استاذ جامعي الحكم على سلّم الديمقراطية، ثم وصل الحكم فعدّل الدستور ونصّب نفسه حاكما أوحدا ودائما.

وفي مصر، أدى نسف الجيش لعملية توريث جمال مبارك لانقسامه الى أجنحة. في فترة انقسام الجيش، انتخب المصريون محمد مرسي وحزب "الإخوان المسلمين" حكاما. لكن على غرار الانتخابات العربية المشابهة، بدا أن الإخوان تسلقوا سلّم الديمقراطية لتغيير شكل الدولة وتحويلها الى ثيوقراطية تمارس الانتخابات وانما بدون أي تقبّل للحريات العامة أو الفردية.

وكذلك في الجزائر، حيث أطاحت ثورة بحكم عبدالعزيز بوتفليقة واستبدلته بأشباه له. أما ليبيا واليمن، فأدى التغيير الى حروب دموية طاحنة لم تلق وزرها حتى اليوم. وفي السودان، أدت الثورة إلى تلاشي الدولة التي كانت تقوم على أجهزة استخبارات عمر البشير.

في لبنان، قامت ثورة مجددا ضد الانهيار الشامل للدولة والاقتصاد. لكن على عكس ثورات العرب التي سبقتها، لم تنجح ثورة 17 تشرين اللبنانية في كسر القائم، فتحولت إلى انتفاضة انتخابية صغيرة، وحتى هذه، أنتجت نوابا تغييريين نصفهم يحسدون السياسيين الحاكمين ويتمنون أن يحلّوا مكانهم في رئاسات الجمهورية والنواب الحكومة. ومثل اللبنانيين قام العراقيون بثورة لم تنسف الحكم، ولا قدمت أفكارا خلاقة ولا خطط تغييرية قابلة للحياة، فقط اجترار للأفكار المتداولة الفاشلة نفسها.

بعد عشرين عاما على حرب العراق، و12 عاما على الربيع العربي، وبعد ثلاثة أعوام على ثورتي تشرين اللبنانية والعراقية، صار مؤكدا أن نسف القائم في دنيا العرب لا يؤدي لاستبداله بما هو أفضل منه، بل أن القائم صار يبدو أفضل، على علّاته، على حسب القول المشرقي القائل "خلّيك على قديمك فجديدك لن يدوملك". 

التغيير مستحيل في الدول العربية ما لم تتغير نفوس العرب، وما لم تتشرب الثقافة المطلوبة لبناء دول حديثة، وهي ثقافة يتصدرها تقديس الحرية الفردية، خصوصا حرية من يخالف رأينا، وفهم أن الوحدة الوطنية لا تعني رأيا واحدا لكل المواطنين، بل تعني التفافا حول الدستور الذي يسمح بتعدد الآراء، وإدراك أن من يخالفنا الرأي ليس خائنا، وأن رأينا ليس مقدسا، ولا صحيحا، ولا ثابتا.

كما لن تقوم قائمة للعرب قبل إدراكهم أن الانتخابات تنيط بالمنتخبين فرض سياسات، ولكنها لا تسمح لهم بتغيير شكل الدولة، ولا بفرض هندسة اجتماعية، ولا بتعديل شكل الحيز العام حتى يشبه الغالبية دون الأقلية.

ولن تقوم دولا عربية حديثة ما لم يدرك العرب أن الأكثرية والأقلية هي في الرأي السياسي فحسب، لأن الرأي يمكن أن يتغير بحسب نتائج السياسات التي تمارسها الغالبية، فتخسر التأييد والحكم ما لم تقدم النتائج المرجوة. أما ربط الأكثرية والأقلية بالمذاهب والأعراق، كما في لبنان والعراق، فيقضي على الديمقراطية لأنه يخلق أكثريات وأقليات ثابتة في الحكم وغير قابلة للمحاسبة انتخابيا في حال فشلها.

مع تعذر امكانية بناء دول عربية حديثة، يصبح الأجدى التمسك بأي ما من شأنه أن يقدم سياسات وحياة أفضل للعرب. نموذج الإمارات والبحرين والسعودية ليس ديمقراطيا، ولكنه يقدم نتائج أفضل بكثير من أنظمة العرب الثورية وجمالكهم، إلى أن يغير الله في قوم ويغير ما في أنفسهم وتصبح الديمقراطية ممكنة، لا في قصور الحكم، وإنما في نفوس الناس وثقافتهم.