الثلاثاء، 28 فبراير 2023

رحلتي مع الحرة

حسين عبدالحسين

يصادف هذا الشهر بدء عامي العشرين في الولايات المتحدة، وهي بلاد انتقلت إليها للمساهمة في نشر الحرية والديمقراطية في دنيا العرب. لم يأت التغيير العربي الذي كنت أحلم به، فاتخذت من أميركا وطنا لي، وأكرمتني وأكرمتها، وأحببتها، وصرتّ أحدّث بنعمتها. لكن المقال هذا ليس عن الولايات المتحدة، بل عن خيبات الأمل العربية التي عشتها مرارا وتكرارا، والتي أثرت بي ولم أؤثر بها، والتي أفقدتني كل الأمل بالتغيير والتطوير والمستقبل في المشرق العربي وعراقه.

هذه الرحلة بدأت مع سنوات نضالي الطلابي في صفوف اليسار اللبناني. كنا تعتقد أن الطغاة هم أزلام الإمبريالية، زرعتهم بيننا لقمعنا وحماية إسرائيل، وأن العراقيين أكثر الشعوب العربية المتعلمة والمثقفة، شعب المليون مهندس. كنا نردد أن الأسد يحتل لبنان بمباركة أميركية وإسرائيلية، وكنا نصرخ "أسد أسد في لبنان، أرنب أرنب في الجولان".

ثم حدث ما لم يكن في الحسبان. انقلبت أميركا على إمبرياليتها، وأطاحت بصدام، وفتحت الباب للعراقيين للبدء من نقطة الصفر لبناء دولة حرة وديمقراطية. كنت أول من آمن ببناء العراق الجديد. زرت بغداد، وحوّلت منزل العائلة إلى مكتب مجلة بالإنكليزية اسميناها "بغداد بوليتين". بعد أشهر، قتل إرهابيون أحد صحافيينا الأميركيين، فأقفلنا وهربنا. ثم عرضت علي محطة أميركية ناطقة بالعربية يموّلها الكونغرس فرصة عمل في واشنطن. مهمتي كانت المساهمة في بناء القناة العراقية لهذه المحطة. كان مقررا تسمية القناة "تلفزيون الحرية"، لكن الرأي استقرّ على اسم مرادف، فكانت "الحرة".

حطيت في واشنطن لأول مرة في حياتي فيما كانت تتردد في رأسي هلهولة "صدام اسمك هز أميركا". على عكس ما كنت أعتقد وأقراني العرب، الأميركيون لم يسمعوا، ولم يأبهوا، بالعراق، ولا بإيران، ولا بباقي منطقة المآسي المسماة شرقا أوسطا. المعنيون بالسياسة الخارجية الأميركية هم حفنة من المسؤولين والخبراء وكبار الضبّاط. 

لم يكد يمرّ عامين على انتقالي إلى واشنطن حتى قتل "حزب الله" رئيس حكومة لبنان الأسبق رفيق الحريري، حسب الحكم الصادر عن محكمة الأمم المتحدة. أصدقائي في لبنان ممن اتهموني بالخيانة والانتقال إلى صفوف الإمبريالية الأميركية في حرب العراق تحوّلوا وصاروا مثلي، يرون في الولايات المتحدة مخلصا من "القضية" و"المقاومة" و"الممانعة" و"التحرير" التي صارت تلتهمهم. نفس مشكلة العراق، كذلك في لبنان، كيف ينجب شعب قبلي طائفي لا يفهم معنى الحرية أو الديمراطية دولة ديمقراطية؟ 

غرقت "انتفاضة الاستقلال" اللبنانية في بحيرة من الدماء، من الحريري إلى العزيز سمير قصير وبعدهما زهاء 20 سياسيا واعلاميا وضابطا كان خاتمتهم الصديق لقمان سليم. أما القاتل، فلبناني يعمي بصيرته فكر قروسطوي وتعصب مذهبي وعشائري، ويقضي على اداركه أن المواطنية والديمقراطية في مصلحته، وأن مصائبه ومصائب لبنان سببها غياب الحرية والديمقراطية، وأنه لا يمكن للإمبريالية، ولا للسفارات الغربية، ولا لإسرائيل، أن تهتم بمصير ومستقبل لبنان وخلاصه أكثر من اللبنانيين أنفسهم .

في العام 2006، هاجم "حزب الله" إسرائيل، فاندلعت حرب، ووقف عدد كبير من اللبنانيين ضد ميليشيا "حزب الله"، ورحنا نتظاهر أمام البيت الأبيض، فما كان إلا من السوريين الأميركيين أن عيبونا واتهمونا بالخيانة، وحملوا أعلام "حزب الله" وصور نصرالله. السوريون أنفسهم عادوا فأدركوا أن نصرالله، وبشار الأسد، وأصحاب القضية لا يقاتلون لحمايتهم، بل للبقاء متسلطين عليهم. بعد اندلاع ثورة سوريا في 2011، انقلب هؤلاء السوريون أنفسهم، مثل العراقيين واللبنانيين قبلهم، من قوميين عرب صناديد الى أعداء العروبة ومؤيدي الإمبريالية والغرب والديمقراطية.

وحدها غالبية من الفلسطينيين لم تدرك أن كل أرباب القضية والتحرير والمقاومة هم مقاولون منافقون. هللت غالبية من الفلسطينية لصدام، ولاتزال تهلل للأسد وقاسم سليماني وعلي خامنئي. لم يدرك الفلسطينيون ما فهمناه أنا وأصدقاء من العراقيين واللبنانيين والسوريين: إسرائيل شمّاعة يعلّق عليها العرب فشلهم في إقامة دول. لا توجد مؤسسات عربية من أي نوع أو حجم قادرة على العمل بشفافية أو يمكن الإشارة اليها كنموذج عمل مؤسساتي. كل نقيب في لبنان أورث النقابة لولده، وكل رئيس ناد رياضي فعل الشيء نفسه. حتى المفتي الجعفري الممتاز في لبنان أورث منصبه إلى ابنه. ثم يقولون لك إسرائيل وسفارة أميركا والإمبريالية.

قبل ستة أعوام، بعد مرور أعوام على استقالتي من الحرة وانقطاعي عنها، تسلّم رئاسة القناة أميركي مثقف من الطراز الرفيع، فقلب المحطة رأسا على عقب، وطوّر موقعها على الإنترنت، وقدم الفرصة لكتّاب مثلي للنشر أسبوعيا. 

على مدى الأسابيع الـ 290 الماضية، لم أنقطع عن الكتابة أو النشر ولا أسبوع. مقالاتي تمحورت حول شرح معنى الحرية والديمقراطية وأهميتهما، وأهمية أفكار الحداثة وعصر الأنوار الأوروبي، والإضاءة على التاريخ الغني للعرب، والتشديد على ضرورة التوصل لسلام عربي فوري وغير مشروط مع إسرائيل. ناقشت في التاريخ، والأفلام العربية والمسلسلات، والسياسة والاجتماع. رثيت أصدقاء اغتالتهم أيادي الظلام في بيروت وبغداد. 

بعد 20 عاما على انخراطي في محاولة نشر الحرية والديمقراطية والسلام، أطوي اليوم صفحة تجربتي مع الحرة، في وقت تضاعف يأسي وتعاظم احباطي، وتراجعت كل زاوية في العالم العربي على كل صعيد وبكل مقياس، باستثناء الإمارات والسعودية والبحرين. حتى أن بعض الدول العربية انهارت بالكامل وصارت أشباه دول، بل دول فاشلة ومارقة يعيش ناسها من قلّة الموت.

لن تأتي القوة الأميركية مجددا لنشر الحرية أو الديمقراطية بين العرب. تجربتها بعد حرب العراق ومع الربيع العربي علّمتها أن لا فائدة من محاولة تحسين وضع شعب تغرق غالبيته في نظريات المؤامرة، وتتمسك بتقاليد قرسطوية تمنع تطور ثقافة الديمقراطية لبناء دولة حديثة عليها.

اليوم، أترجّل عن مسرح الحرة. سأواصل سعيي لنشر مبادئ الحرية والديمقراطية عبر مواقع أخرى، في مقالات ودراسات وتغريدات وغيرها، لكن رهاني على التغيير انتهى. المحاولات ستتواصل حتى لو بلا جدوى، عسى ولعل أن يسمع الصوت من يسمعه.

السبت، 25 فبراير 2023

الدينار العراقي بخير


حسين عبدالحسين

الدينار العراقي بخير ورفع سعره الرسمي في مقابل العملات الأجنبية يرفع القدرة الشرائية للعراقيين. هذا هو الواقع. أما الدعاية التي يبثها النظام الإيراني، فمفادها أن الولايات المتحدة الأميركية تخزّن عائدات النفط العراقي في خزائنها وتمنع العراق من حيازتها، وذلك بهدف إفقار العراقيين وايقاع المذلّة بهم، وهذه طبعا شائعات غير صحيحة.

الصحيح أن ارتفاع أسعار النفط رفع العائدات العراقية الى نحو عشرة مليارات دولار شهريا على مدى العام الماضي، مع فائض بلغ أربعة مليارات دولار، كما رفعت زيادة العائدات معدلات احتياطي الدولار لدى البنك المركزي العراقي الى قرابة 120 مليار دولار.

دولة العراق ثرية ولديها سيولة مريحة. لكن هذا لا يعني أن السيولة الورقية متداولة بأيدي الناس، بل هي أرصدة حسابية جارية يمكن لدولة العراق تحريكها عبر النظام المصرفي العالمي المعروف بسويفت.


ما دأبت إيران على فعله هو حمل الحكومة العراقية على تسييل ودائعها وشحنها نقدا من نيويورك الى العراق، حيث يقوم البنك العراقي المركزي بإجراء مزادات يبيع بموجبها هذه الدولارات النقدية في السوق مقابل دنانير عراقية. عندما يتدفق الدينار العراقي النقدي على السوق وتشحّ السيولة بالدولار، يرتفع سعر الأخير وينخفض سعر الدينار، وهو ما يقلّص القوة الشرائية للعراقيين لدى شرائهم مواد مستوردة.

لكن من أين كانت تأتي كل هذه المليارات من الدنانير لشراء الدولار في مزادات البنك المركزي؟ وأين كانت تذهب مئات ملايين الدولارات النقدية؟ الإجابة تحتاج الى تسليط الضوء على بعض الفساد العراقي الذي يفيد منه الحرس الثوري الإيراني وأزلامه العراقيون.

"الموظفون الأشباح"

يعاني العراق منذ انهيار نظامه السابق في العام 2003 فسادا مدقعا في إداراته. احد أبرز وجوه هذا الفساد، قيام مسؤولين في الوزارات وضباط في القوى الأمنية بتوظيف مَن يعرفون بـ"الموظفين الأشباح". هؤلاء الموظفون هم غالبا أسماء أناس يحصلون على نسبة من الراتب مقابل بقائهم في البيت، لقاء الموافقة على استخدام اسمائهم.

يشيرمركز أبحاث "تشاتام هاوس" البريطاني الى ظاهرة "الموظفين الأشباح" في العراق في تقرير صادر عنه في يونيو/ حزيران 2020، واعتبرها "ظاهرة واسعة الانتشار".

كذلك أشار تقرير، صدر عن الموقع الرصين، "War on the rocks"، الى انهيار الجيش العراقي الفوري أمام تنظيم "داعش" الإرهابي في الموصل، في صيف 2014. وورد في تقرير انهيار الجيش أن الضباط العراقيين يعمدون الى شراء مناصبهم التي يعملون على الإثراء من خلالها عن طريق توظيفهم جنودا وهميين أو جنودا يقتطعون نسبا من رواتبهم.

مليارات الدولارات لـ "الميليشيات الولائية"

عمد ضباط الجيش العراقي في الموصل الى عدم إبلاغ بغداد عن أعطال آليات الجيش، كالسيارات والمصفحات وناقلات الجند، لأن من شأن ذلك أن يحرمهم الوقود الذي يحصلون عليه لتشغيل هذه الآليات. أما وقود الماكينات المعطلة، فكان الضباط يبيعونه في السوق ويثرون من عائداته. لذا، يوم ظهر "داعش"، لم يكن لدى الجيش العراقي في الموصل جنود ولا آليات. فقط حفنة من الضباط الفاسدين وحرّاسهم وبقايا جيش من الفقراء ممن نهب الضباط رواتبهم. كان الإنهيار النتيجة الواقعية للجيش العراقي الفاسد.

نظام الموظفين والجنود الوهميين هذا لم ينخر جسد الدولة العراقية فحسب، وإنما دبّ في جسم الميليشيات المسماة بـ"الولائية"، نسبة إلى ولائها لمرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي.

وتُظهِر الموازنة العراقية أن حكومة بغداد تخصص ما يعادل ملياري دولار سنويا لهذه الميليشيات بالدينار العراقي. هكذا، يقوم من يتقاضون رواتب أشباح المقاتلين في الميليشيات العراقية الموالية لإيران بشراء الدولار الأميركي في مناقصات البنك المركزي العراقي، وهذا ما يجبر المصرف على الاستمرار في تسييل ودائعه بالدولار للحفاظ على ثبات سعر صرف الدينار في السوق.

ظاهرة المقاتلين الأشباح في الميليشيات الولائية تأكدت في حادثتين. الأولى كانت التسريبات الصوتية المنسوبة الى رئيس حكومة العراق الأسبق نوري المالكي، التي أبدى فيها امتعاضه من ضعف "الميليشيات الولائية" وضرورة بناء ميليشيات أكثر قوة وولاء. الثانية تفوقت فيها قوات مقتدى الصدر في يومي الحرب الأهلية الخاطفة التي دارت رحاها في بغداد والجنوب بين ميليشيات إيران وقوات الصدر، وهذا ما أجبر المالكي على الظهور في صور وهو يحمل سلاحا رشاشا في محاولته لاستنهاض مناصريه الشيعة للتصدي للصدر.

أموال العراق لـ "الحرس" و"الحزب" والميليشيات

إذاً، الميليشيات الولائية فاسدة وضعيفة ويتسلم الملياري دولار المخصصة لها الحرس الثوري الإيراني وحلفاؤه في العراق و"حزب الله". في كلام آخر، تستخدم طهران هذه المبالغ لتمويل ميليشياتها في اليمن وسوريا ولبنان. أما ميليشيات العراق، فضعيفة ومنقسمة على نفسها، فيها مجموعة صغيرة متماسكة وموالية لطهران هي "كتائب حزب الله" العراق، لكنها غير كافية للسيطرة على المدن العراقية ذات الكثافة السكانية العالية أو لفرض إملاءات إيران على العراق وحكومته، على عكس "حزب الله" اللبناني الذي يحكم لبنان بقبضة من حديد. 

كذلك يتقاضى مسؤولون عراقيون فاسدون رواتب موظفين وهميين ويستخدمونها لشراء الدولار، ثم يحولون الدولارات الى حسابات خارج العراق، تعود إما إلى إيران والحرس الثوري أو إلى حسابات خاصة في جزر كايمن وغيرها حيث يخفي المتهربون من القوانين والضرائب أموالهم.

عملية تبييض الدولارات الضخمة هذه التي تضخ الدولارات خارج العراق وتجبر حكومته على تسييل ودائعها بوتيرة أسرع بكثير من المفهوم، دفعت الاحتياطي الفيديرالي الأميركي الى الطلب من بغداد التوقف عن تسييل الودائع نقدا. وفي غياب النقد واستمرار الطلب على الدولار، راح الدينار العراقي يهوي في السوق السوداء حتى وصل الى سعر 1700 مقابل الدولار.

لكن هذا السعر وهمي، ولا يعني أن الاقتصاد العراقي يهتز أو أن قدرة العراقيين على شراء المستوردات تقلّصت، وذلك لأن السعر المركزي بقي على حاله، بل أن حكومة محمد شياع السوداني عمدت الى رفع قيمة الدينار الى 1300 في مقابل الدولار الواحد.

السعر الرسمي يعني أنه يمكن لأي مستورد عراقي أن يودع في البنك المركزي دنانير عراقية، فيحولها البنك حسابيا الى دولارات ويرسلها بتحويل عبر نيويورك والنظام المالي العالمي الى المورد خارج العراق، من دون استخدام السيولة. يمكن لأي عراقي أو عراقية أيضا ممن يحملون بطاقات بلاستيكية صادرة عن مصارف عراقية استخدامها على سعر الصرف الرسمي من دون الحاجة الى دولار نقدي، وهنا بيت القصيد.

إن ارتفاع سعر صرف الدولار النقدي أمام الدينار، وانخفاض سعر صرف الدولار التحويلي أمام الدولار، يعني أن ما يجري هو تجفيف القطاع المالي الخارج عن رقابة نظام سويفت العالمي، وهذا لا يؤثر البتة في أرصدة العراقيين، أو قيمة عملتهم، أو قدرتهم الشرائية، طالما أنهم يستخدمون التحويلات المصرفية عبر سويفت بدلا من النقد. 

ثم أن العراقيين لا يحتاجون الدولار نقدا داخل العراق حيث يمكن استخدام الدينار العراقي لأي عملية بيع وشراء. 

قد يحتاج العراقيون الذين يسافرون الى خارج البلاد الى مبالغ نقدية بالدولار للمصروف الشخصي. لمعالجة هذا الموضوع، أعلنت السلطات العراقية أنه في وسع كل مغادر العراق في المطار، ممن يحمل تذكرة سفر وبطاقة صعود الطائرة، ويكون قد اجتاز خط ختم جوازات السفر، أن يحوّل دنانيره العراقية دولارات على سعر 1320 دينارا للدولار الواحد.

القطاع المصرفي العراقي لا يزال يافعا

العراق لا يعاني من نقص في السيولة ولا من انخفاض في سعر عملته. شبكة إيران في العراق هي التي تعاني من نقص السيولة، وارتفاع سعر الدينار في أوساط الاقتصاد البديل الذي تشغله هو للتعويض عن العقوبات الأميركية المفروضة عليها.


أما المشكلة التي لا يزال العراق يواجهها فتكمن في أن قطاعه المصرفي لا يزال يافعا وغير قادر على تلبية حاجة غالبية العراقيين، وهذا يعني أن الخدمات المصرفية العراقية، مثل اصدار بطاقات الاعتماد الائتمانية، وتقديم خدمات تسمح للمواطنين العراقيين بالاستعاضة عن استخدام السيولة لا تزال غير متوفرة على شكل واسع، وهو ما يجعل النقد وسيلة وحيدة لدوران عجلة الاقتصاد.

لكن النقد، كما تقدم، غير ضروري داخل العراق، وانما مطلوب فقط لعمليات البيع والشراء بين العراق والعالم، وهذا ما حمل البنك المركزي على القيام بعمليات استيراد واسعة ريثما يتم توسيع القطاع المصرفي العراقي، وتحسين قدرته على الانخراط في النظام المالي العالمي وعلى تحويل الأموال من العراق واليه.

أما إيران، فهي منعزلة عن النظام العالمي بحكم العقوبات الأميركية عليها، وهي تعمد الى السيولة النقدية كوسيلة وحيدة للتهرب من هذه العقوبات، وهذا يعني أن تجفيف اقتصاد السيولة النقدية في العراق سيؤذي نظام إيران بدون أن يؤثر في العراقيين أو اقتصادهم.

ويبدو أن رئيس الحكومة العراقي أدرك مكامن الخلل، الذي يتكرر للمرة الثانية بعدما حدث الأمر نفسه بين وقت فرض الأمم المتحدة عقوبات على إيران مع حلول العام 2010 ورفعها عنها في 2016. في السنوات الست تلك، حدث الأمر نفسه، وهدد الاحتياطي الفيديرالي الأميركي نظيره العراقي بوقف شحن الدولار نقدا اليه. وانهار الاحتياطي النقدي العراقي الى ما دون 20 مليار دولار، وهذا ما أجبر البنك الدولي وصندوق النقد على التدخل، الى أن تم تعديل الأمور. وتزامن ذلك مع رفع العقوبات عن ايران فتراجع الضغط عن العملة الوطنية العراقية.

في الأزمة الماضية، كان علي العلّاق محافظا للبنك المركزي العراقي، وهذا ما حمل السوداني على استدعائه للتصدي للأزمة الحالية المشابهة، فزار واشنطن، والتقى مسؤولين في الاحتياطي الفيديرالي وفي وزارة الخزانة، وسمع من المسؤولين الأميركيين مخاوفهم المتعلقة بتبييض الأموال عبر العراق، وبانتقال الدولارات العراقية الى طهران والحرس الثوري الايراني، الذي تصنفه واشنطن تنظيما ارهابيا.

وتوصل الطرفان العراقي والأميركي الى الاتفاق حول ضرورة الإسراع في تطوير القطاع المصرفي العراقي وقدرته على تلبية حاجة السوق من التحويلات من دون الحاجة الى النقد. وفي مقابل موافقة العراقيين على المطالب الأميركية، وافق الأميركيون على التراخي بعض الشيء في تسييل بعض الأرصدة العراقية، وتحويلها الى نقد، وشحن هذا النقد الى أقبية المصرف المركزي العراقي.

النظام الإيراني كالطاعون

خلاصة الأزمة النقدية العراقية أن النظام الإيراني هو كالطاعون، لا يحل في بلد إلا ويقوّض أمنه، ويحوّل اقتصاده الى هباء ومستقبله الى ظلام. العراقيون يبدو أنهم يدركون أن التحول من نظام نقدي والانخراط في النظام المالي العالمي للمصارف وسويفت هو خيار لا بديل منه، وهذا ما حمل نظام إيران وحلفاءه العراقيين على تشغيل ماكينة الدعاية، ساعة للقول إن أميركا تحرم العراق أمواله، وساعة لإشاعة أن واشنطن تملي على العراق ما يمكن شراؤه ومن أين، الى آخره من دعاية تحريضية لا تؤكل ولا تسمن بل تتسبب في شقاء فوق البؤس والشقاء.

الثلاثاء، 21 فبراير 2023

حرق القرآن ومسلسل معاوية

حسين عبدالحسين

على مدى الأشهر الماضية، اشتكى رجل الدين العراقي مقتدى الصدر من سلسلة من المواضيع وطلب حظرها جميعها، كان أولها اعتراضه المتكرر على المثلية الجنسية وإصراره على معاقبتها في العراق والعالم، وثانيها معارضته لأي حوار عراقي مع أي إسرائيلي أو عضو في الماسونية، وثالثها امتعاضه لقيام سويدي بإحراق نسخة من المصحف في ستوكهولم، وآخرها مطالبته السعودية بالإيعاز لشبكة "أم بي سي" بعدم بث مسلسل رمضاني من المقرر أن يتناول حياة الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان.

مقتدى مولود في بغداد وتفتحت عيناه على عراق لجدرانه آذان، يخشى الأخ وشاية أخيه. عراق يسوده العنف والغضب وتكرار العراقيين لكلمتي "أبسطه"، أي أضربه، و"أضربه طلقة" أي أطلق عليه النار.

عراق عشائري قروسطوي، لا حقوق فيه للمرأة ولا للطفل ولا مساواة، بل هرمية قاسية يردد فيه من هم في القاع عبارة "نعم سيدي" عشرات المرات في اليوم، ويهللون للحاكم، صدام كان أو خامنئي أو مقتدى.

في الأسابيع التي تلت انهيار النظام، مررت على مدرسة لانتظر أولاد أقربائي. لفتتني عدد الرسومات التي كانت تتناول صدام، واحدة فيها صدام رياضي، وأخرى صدام المحارب، وثالثة صدام يقرأ. استللت كامرتي ورحت أصور، إذ، في لحظات، خرجت علي سيدة في منتصف العمر وعرّفت عن نفسها أنها المديرة.

قالت لي بثقة: ممنوع التصوير. كان النظام انهار قبل أيام والناس تنهب الوزارات والمحال التجارية. أجبتها: بأمر ممن؟ فكّرت المديرة وشعرت أني محقّ. التصوير كان ممنوعا في زمن صدام، ولكن في غيابه، لأي شخص الحرية بالتصوير أينما كان. تراجعت المديرة وأومأت لي بالمضي بالتصوير براحتي.

يوم اقتلع الأميركيون صدام، منحوا العراقيين الحرية، فكانوا كمن أطلق سماك من شباك الصياد وأعادوهم للبحر. لكن أجيال العراقيين نسيت السباحة، فغرقت في الحرية، ولم تعرف كي تستمع بها، أو كيف تحترم حق الآخرين بالاستمتاع بها.

رحل صدام لكن الثقافة الصدامية في الكبت والمنع والرقابة والحظر كلها بقيت، هذه المرة ارتدت زي أناس يتحدثون باسم رب العالمين بدال من الحديث باسم الأمة العربية المجيدة، على غرار ما كان يفعل صدام.

بعد 20 عاما على اقتلاع أميركا لصدام، ما تزال ثقافة العراقيين عنفية قاسية لا مكان للحرية فيها. الأقوى يحكمون حسب القانون العشائري وبعض تقاليد الإسلام، وعلى كل الناس أن تعبد الإله نفسه، وتصلي بالطريقة نفسها، وتلتزم العادات والتقاليد نفسها. من يخرج عن هذه التقاليد لأن دينه يخالفها، مثل االمسيحيين أو الصابئة، يتم التعامل معهم على أنهم أقلية غير مرئية، لا حقوق لهم إلا بعض الحقوق الرمزية على شكل مقعد أو أكثر في مجلس النواب، وربما وزير وزارة لا قيمة لها، مثل حقوق الإنسان، أو وكالة وزارة بالأكثر.

مقتدى الصدر من أكثر ضحايا صدام في العراق. فقد أبيه وإخوته على أيدي النظام السابق. رحل صدام، لكن مقتدى بقي يعيش في العقلية نفسها: منع وحظر وبطش وتحذير وصراخ.

الظريف هنا هو أن معارضة مقتدى لمسلسل معاوية تشبه معارضة مسلمي العالم لرسوم الكاريكاتير عن النبي محمد واعتراضهم، مثل مقتدى، ضد السويدي الذي أحرق القرآن. منطق معارضة غالبية المسلمين لأي ما يعتقدونه مسيئا لرسولهم أو كتابهم هو نفس منطق معارضة مقتدى لمسلسل معاوية، وهو منطق لا يفهم معنى الحرية، ويعتقد أن ما هو مقدس لديه يجب أن يحوز على احترام الآخرين وأن إهانة مقدسه هو إهانة له، ما يعني أن هذه الإهانة محظورة لأن الحرية تشترط الاحترام، وهذا طبعا هذيان.

لا احترام في الحرية. الحرية مطلقة لا قيود لها، باستثناء التحريض على القتل. الناس تختلف في المعتقدات والمقدسات، ومعتقدات البعض هي إهانة تلقائية لمعتقدات الآخرين. مثلا، رأي المسلمين أن المسيح لم يكن ابن الله ولم يتعرض للصلب، ولم يقم من الموت، هو رأي يطعن في قلب العقيدة المسيحية، وهو اعتقاد يساوي قول المسيحيين أن محمدا لم يكن رسولا ولا نزل عليه وحي.

هذا التضارب في المعتقدات والمقدسات هو الذي دفع من صمموا الدول ومبدأ الحرية الى اعتبار أن كل واحد مسؤول عن اعتقاده هو وحده، وأن لا وصاية له أو للجماعة أو للمجتمع أو للدولة على معتقدات أو آراء أو أفعال الآخرين، حتى لو كانت أفعالهم مسيئة له. 

مقتدى الصدر والشيعة عموما يلعنون معاوية بن أبي سفيان لاعتقادهم أنه لم يقبل بخلافة علي، بل نازعه عليها وحاربه ما أدى لمقتله. بعد ذلك، انتزع معاوية زعامة المسلمين من الحسن ابن علي، مع أن الحسن هو الذي بايع معاوية. ثم عند موت معاوية، لم يعترف الحسين ابن علي بخلافة يزيد ابن معاوية، ما أدى إلى معركة كربلاء التي قتل فيها جيش يزيد الحسين وصحبه. 

الشيعة يكرهون معاوية وكل الأمويين ويلعنونهم، وهو ما يثير التساؤل حول أسباب تمسك شيعة إيران اليوم بمسجد قبة الصخرة الذي بناه الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان. أما السنة، فيعتبرون معاوية من الصحابة، ويعتبرون الخلفاء الأمويين أمراء المؤمنين الذين بايعهم المسلمون، ويعزّون خصوصا عبدالملك وعمر بن عبدالعزيز.

هذا اختلاف رأي واضح، من يحبهم السنة يلعنهم الشيعة، وهو ما يعني أنه يحق لكل من الطرفين التعبير عن رأيه الذي لن يعجب الآخر، بدون الحاجة للصراخ والقمع والعنف. والموضوع نفسه ينطبق على علاقة المسلمين بالغربيين الذين يهينون رموز الإسلام ومقدساته. للناس آراء مختلفة وحسب ما ورد في القرآن "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". فإذا كان كتاب المسلمين يسمح بالكفر، فلماذا يعتقد المسلمون أن عليهم فرض رقابة ومنع التجاوز على معتقداتهم ومقدساتهم؟

فلتبث شبكة "أم بي سي" مسلسل معاوية، ولتبث الشبكات التابعة لإيران مسلسل السيد المسيح (الذي منعته الكنيسة في لبنان)، وليبث القبطي الأميركي فيلمه المسيء عن الرسول، وليرسم من يرسم الرسول ويحرق من يحرق القرآن، بل التوراة أو أي كتاب يحلو لهم. الحرية مطلقة، وإلغاء القيود يخفف من الكبت والغضب والحاجة لإهانة الآخر والتضارب معه.

الاثنين، 20 فبراير 2023

"عقيدة مالي" تجاه إيران

حسين عبدالحسين
المشهد

لم تكد تُقلع طائرة الوفد الديبلوماسي والعسكري الأميركي، الذي شارك في لقاءات العمل السنوية بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي الأسبوع الماضي، حتى قصف ”الحرس الثوري الإيراني“ سفينة في الخليج تعود ملكيتها لرجل أعمال إسرائيلي. 

لم يردع إيران البيان الذي تحدث عن التكامل العسكري بين القيادة الوسطى للجيش الأميركي وحلفاء الولايات المتحدة الخليجيين في التصدي لإيران وحماية أمن الخليج. في أقل من 24 ساعة على صدور البيان، قصف النظام الإيراني السفينة التجارية في الخليج، وهو اعتداء عسكري ليس على سفينة مدنية فحسب، بل على الملاحة البحرية في هذه البقعة من العالم. مع كل ضربة من هذا النوع، ترتفع تكاليف التأمين البحري، وهو ما يرفع تكلفة المواد التجارية التي تمر في الخليج ويقتطع من عائدات النفط والغاز للدول التي تصدره بناقلات. وهذا مثال صغير على الفشل الأميركي الذريع في فرض استقرار أمني على هذه المنطقة الاستراتيجية للإقتصاد العالمي بأكمله. 

أما الغطرسة الإيرانية، فيمكن تبيان أسبابها مما ورد في البيان الختامي للقاءات العمل.

الثلاثاء، 14 فبراير 2023

حول ما تبقى من لبنان

حسين عبدالحسين

المشهد


دولة لبنان تلاشت. التلاشي هنا لا يعني شغور موقع رئاسة الجمهورية واقتصار عمل الحكومة على تصريف الأعمال. التلاشي يعني موت الدولة، وتفكك مؤسساتها، وانهيار عملتها، واندثار سيادتها. لم يبق شيء في لبنان إلا هوية ثقافية واجتماعية يشترك فيها اللبنانيون، وأرض يعيشون عليها سويا بدون عقد اجتماعي. كل لبناني يعيش في لبنان اليوم يعيش على مسؤوليته، لا قوانين تحمي الناس، ولا مرافق عامة تقدم كهرباء أو ماء أو صيانة للبنية التحتية، ولا رقابة على جودة الدواء أو الأطعمة


العيون الوحيدة الساهرة في لبنان هي عيونأمن المقاومة، أي استخباراتحزب الله، وهذه تعتقد نفسها أنها تتصدى للاستخبارات الإسرائيلية، التي تنخر فعليا جسد الحزب وتفجّر مخازن أسلحته بشكل متواصل. ما تراقبه استخباراتحزب اللههم اللبنانيين الذين يصرخون ضد الشذوذ الدستوري الذي يمثله استمرار ميليشيا الحزب بموجببيان وزاري“. طبعا هذه هرطقة دستورية لأن المساواة بين المواطنين التي يكفلها الدستور تحصر استخدام العنف بالدولة، وهو ما يتطلب تعديلا دستوريا يبرر عمل جيش واستخبارات كاملة خارج سلطة وقرار الجمهورية اللبنانية. لكن زعيمحزب اللهحسن نصرالله لا يهتم، طالما هو يقدم نفسه ناطقا باسم رب العالمين، وطالما هو يفهم في كل الأمور، من الاقتصاد وزراعة العدس على الشرفات الى القضاء وعمله والشؤون الاقليمية والدولية وغيرها.


يمكن قراءة المقالة كاملة على هذا الرابط.

متى توقّع السعودية سلاما مع إسرائيل؟

حسين عبدالحسين

اليوم قبل 78 عاما التقى الراحلان مؤسس السعودية الملك عبدالعزيز ابن سعود ورئيس الولايات المتحدة فرانكلين روزفلت على متن ”يو اس اس كوينسي“ في البحر الأحمر. تصدّر الحوار — في ذاك اللقاء الشهير الذي أسس تحالفا بين الدولتين — مطالبة العاهل السعودي بوقف هجرة اليهود الى فلسطين وشرائهم الأراضي فيها. واقترح الزعيم السعودي توطين اللاجئين اليهود في دول المحور المهزومة في الحرب الثانية، وقال أن تعايش اليهود صعب مع العرب، وأن للعرب الحق في الأرض، وأنهم سيختارون الموت على التنازل عن أرضهم لليهود.

لم يكن الملك السعودي الراحل يتحدث عن الفلسطينيين متضامنا معهم، بل كان يتحدث باسمهم وباسم العرب والمسلمين. كان شكل الدول وفلسفتها يختلف تماما عن مفهوم اليوم. كانت الدول توسعية، وكان ابن سعود في صدارة التوسعيين، فهو اعاد تأسيس الدولة السعودية، وتمدد في نجد، وهزم قبيلة شمر في حائل، وتزوّج منهم، فأنجب الملك الراحل عبدالله، وانتزع الحجاز من الهاشميين، وهزم الإخوان المسلمين. وقامت القبائل التي هزمها بقسم الولاء له، ومنها قبائل كانت تمتد من حائل شمالا حتى جنوب ووسط سوريا، وحاول الملك عبدالعزيز ضم ديارهم الى السعودية، لكن فرنسا وبريطانيا تقاسمتا المشرق— سوريا للفرنسيين والأردن للبريطانيين وحلفائهم الهاشميين.

لم يثن انتزاع القوى الأوروبية أراضي القبائل المتحالفة مع الملك ابن سعود، مثل الروله والعنزة، عن منحه لهم الجنسية السعودية، حتى من كان يعيش منهم في العراق وسوريا والأردن. مؤسس السعودية كان ينتصر للفلسطينيين في سياق العروبة. 

لكن الزمن ما لبث أن تغير، وبطلت عادة الشعوب العابرة للحدود، وقامت الدول القومية ذات السيادة على أرض محددة. 

الفلسطينيون لم يجاروا التاريخ، ولم يقيموا دولة على أراض 67، بل تمسكوا بوحدة عربية بائدة، ورفضوا القرارات الأممية التي نصت على تقسيم فلسطين بين العرب واليهود. أما السعودية، فرأت في العمل الديبلوماسي حلا وحيدا، فسلكت مسرى التضامن في جامعة الدول العربية، وقادت مقاطعة إسرائيل ديبلوماسيا واقتصاديا بهدف اضعافها، وانتزاع السيادة منها، ونقلها للفلسطينيين. أما القوى الثورية بقيادة جمال عبدالناصر، فعايبت الديبلوماسية، وانخرطت في حروب خسرتها جميعها.

لسبب ما، تمسكت غالبية من الفلسطينيين وماتزال بالقوى الثورية والفوضى، وحمّلت السعودية مسؤولية الشقاء الفلسطيني. 

اليوم، يتغير العالم مرّة جديدة، وتتغير السعودية، فيما غالبية فلسطينية تصرّ على ربط مستقبل السعوديين والمنطقة بمخيلة فوضوية عاطفية تصرّ على مواصلة صراع لم ينجب إلا الشقاء في الماضي، ولن ينجب إلا البؤس مستقبلا. 

قلبت العولمة النظام العالمي، وخصوصا الاقتصادي، واندثر النموذج السعودي المبني على إنفاق عائدات النفط الضخمة على السعوديين والمنطقة. الإمارات العربية أدركت الأمر، وتلتها السعودية منذ تسلّم الملك سلمان بن عبد العزيز ونجله ولي العهد محمد الحكم.

تدرك السعودية اليوم أن مستقبل الشعوب ورفاهيتها لم يعد يعتمد على المساحات أو الثروات الوطنية، وهو ما تطلب انقلابا جذريا قاده ولي العهد وفق خطته المعروفة بـ ”رؤية 2030”“ لتحويل الاقتصاد السعودي من النفط الى اقتصاد معرفة وخدمات. هذا النوع من الاقتصادات لا يعرف حدودا للدول، ولا يزدهر وسط الصراعات المفتوحة الأمد، بل هو اقتصاد عالمي تتنافس فيه الشركات من كل الدول على أسواق بلا حدود، وتسعى لاستقطاب مواهب من عموم البشر، والى تطوير الموارد البشرية المحلية.

الانقلاب في السياسة السعودية ترافق مع تغيير جذري في رؤية السعودية لنفسها ولسياستها الإقليمية والدولية، فهي لم تعد تنافس إيران على زعامة الإقليم، ولا هي مهتمة بشراء صداقات حكومات عربية. مشكلة السعودية مع إيران اليوم ليست تنافسا في الإقليم بل الخطر الأمني الذي تشكله إيران على كل حكومات وشعوب المنطقة، بمن فيهم السعودية. إيران لا تفهم معنى جوار بل تسعى لاخضاع العرب وتتصور نفسها زعيمة العالم الإسلامي، بل العالم بأكمله. 

.أما السعودية، فخرجت من السباق الإقليمي، وصارت سياستها تتلخص بشعار ”السعودية أولا“، أي أن الرياض مستعدة أن تنفق على أي حكومة في الإقليم مقابل مكاسب واضحة للسعودية. هكذا، لم تعد تكترث المملكة للبنان أو لشؤونه لأنه قضية خاسرة وفي جيب طهران تماما، ولا فائدة واضحة لأي أموال قد تنفقها السعودية على اللبنانيين، ومثل ذلك السوريين وغيرهم.

الغريب أن إعلاء المصلحة السعودية لم يطل الموضوع الفلسطيني بعد، إذا على الرغم من أن المصلحة الاقتصادية والاقليمية للسعودية تقضي بتوقيع سلام فوري مع إسرائيل، ما تزال السعودية متمسكة بتضامن مفتوح الأمد مع الفلسطينيين.

طلب التضامن هو طلب فلسطيني يؤجل العرب بموجبه مصلحتهم في السلام الثنائي مع إسرائيل الى أن ينال الفلسطينيون مطالبهم. مشكلة الفلسطينيين أن لا قيادة لهم ولا مطالب مفهومة، فقط شعارات، وشعبوية، ومشاعر، وصراع أجيال مفتوح الأمد لا يشبه السياسات الحديثة للدول العربية، مثل الإمارات والسعودية، وهي دول صارت تربط سياساتها بجداول زمانية واضحة، فالوقت مال، وإضاعته إضاعة للموارد والفرص. 

لا بأس في تضامن العرب والسعودية مع الفلسطينيين، مثل تضامن تركيا ورئيسها رجب أردوغان مع القضية، أي تضامن في المواقف والتصريحات. أما في المصلحة الاقتصادية والسياسية، فعلاقات تركيا متينة بإسرائيل، بما في ذلك تبادل تجاري يكبر يوميا وعلاقات ديبلوماسية قوية. 

عندما ينظر أي فلسطيني في عيني أي سعودي ويطلب التضامن وعدم توقيع سلام مع إسرائيل، لا يمكن للفلسطيني تقديم أي حجج تثبت أن في تأجيل السلام السعودي مع إسرائيل مصلحة سعودية، بل هو مصلحة فلسطينية حصرية، وحتى هذه المصلحة الفلسطينية، عبثية وعاطفية، ولا خطة خلف مواصلة الصراع مع إسرائيل بل تستر على عجز الفلسطينيين عن حكم أنفسهم، وهو عجز يحاولون إخفائه خلف إسرائيل لأن لوم الآخر أسهل من الاعتراف بالخطأ وإصلاح الذات.

إن السلام الثنائي لكل من الدول العربية مع إسرائيل هو مصلحة وطنية خالصة يمكن تأجيلها لو أن للتأجيل مكاسب واضحة للفلسطينيين. لكن تأجيل هذه المصالح العربية في السلام مع إسرائيل في سبيل استمرار الفوضى الفلسطينية والفشل القائم هو خطأ يضاعف خسارات العرب باضافته الى الشقاء الفلسطيني تخلّف باقي العرب عن السير في ركب الاقتصاد العالمي واللحاق بالعصر الحالي.

الأربعاء، 8 فبراير 2023

الخديوي عبدالفتاح وإفلاس مصر

حسين عبدالحسين

لم تتغير أحوال مصر منذ قيام حضارتها قبل ستة آلاف عام: فرعون يحكم والغلابة يبنون قصوره ومقابره الضخمة، ويقتاتون من فتات مائدته. 

مطلع القرن التاسع عشر، قاد الألباني محمد علي باشا الكبير نهضة عسكرية مصرية، مولّها بالاستدانة وبالإفادة من عداء الفرنسيين للإنكليز، فدعم الفرنسيون وطوروا جيشه ضد السلطنة العثمانية المتحالفة مع بريطانيا. في نهاية المطاف، فازت بريطانيا على فرنسا والباشا، وأوقفت زحف ابنه ابراهيم إلى الأستانة، وفرضت نفسها سلطة انتداب على مصر بالتعاون مع خلفاء محمد علي من الخديويين الملوك، الذين غرقوا بالفساد والديون، فخسروا قناة السويس والبلاد بأكملها. 

في خمسينيات القرن الماضي، انقلب العسكر وجمال عبدالناصر على الملك فاروق، آخر سليلي محمد علي، واستولى الجيش على الاقتصاد، وعمم نظريته الاشتراكية البلهاء كتأميم المصانع والأراضي، فانهارت مصر اقتصاديا وعسكريا، ما أجبر الجيش على الاستدارة في زمن الجنرال أنور السادات، الذي تبنى النموذج الغربي، ومثله فعل بعده الجنرال حسني مبارك. وأثمرت جهود الرجلين نموا اقتصاديا مصريا كان يُفترض أن يرثه جمال مبارك، لكن العسكر كان لهم رأي آخر، فخاضوا انقلابا على شكل ثورة، أتبعوه بانقلاب على الثورة، وتسلم الجنرال عبدالفتاح السيسي الحكم في 2014، حاكما أوحد وإلى الأبد.

لا بأس في غياب الديموقراطية عن مصر، فالديموقراطية من الكماليات التي تغيب عن الشرق الأوسط، من تركيا الى إيران ومن المحيط إلى الخليج. لكن المشكلة هي في فقدان العسكر لأي من الكفاءة المطلوبة لإدارة الدول واقتصاداتها. هكذا، لم يلبث أن تسلم السيسي الحكم، حتى عدل القوانين للسماح للجيش باستكمال إطباقه على الاقتصاد، غالبا كجائزة ترضية لكبار الضباط من مناصريه ممن سمحوا له بالانقلاب وتسلم الحكم، وممن يشكلون أركان منظومة إمساكه بالشعب المصري من رقبته.

مشكلة مصر هي في الغياب التام لدى السيسي والعسكر لأي فهم أو إدراك أو معرفة بشؤون الاقتصاد والدول وإدارتها. العسكر يعوّلون في الغالب على الدعاية وتزييف الحقائق لفرض صورة مغايرة للواقع، يصدقها عادة الحاكم وأركان حكمه، مثلما أوهم العسكر عبدالناصر أن جيشه صار على أبواب تل أبيب في حرب 67، فانتهت الحرب والرئيس المصري الراحل يبكي خائبا. على الأقل، كان لدى عبدالناصر بعض الحياء، فتظاهر أنه استقال، وأرسل استخباراته تحشد الحشود لعودته عنها في مسرحية لا يصدقها إلا الغلابة البسطاء، وما أكثرهم في أم الدنيا مصر ودنيا العرب معها. 

السيسي أنفق 13 مليار دولار على توسيع قناة السويس، فلم تتعد عائداتها 6 مليارات سنويا، على عكس ما توقع هو وأركان حكمه. يوم تدشين التوسيع، شن الإعلام المصري حملة دعائية للسيسي شابهت حملات ناصر عن تأميم القناة أو بناء السد العالي، وما كان ينقص السيسي الا تفاخر العندليب الأسمر الراحل بإنجازاته كما كان يفعل في زمن "الريّس جمال".

لم يعتبر السيسي من استثماره الفاشل في القناة، فمضى يبنى عاصمته الجديدة الضخمة، على طراز فراعنة الزمن الغابر، بتكلفة 59 مليار دولار (الإنفاق السنوي لحكومة مصر حوالي 100 مليار دولار ومخزون العملات الأجنبية 35 مليارا). في كل الأحوال، مبروك للمصريين عاصمتهم الجديدة وأعلى برج في أفريقيا، ولكن بناء عاصمة جديدة في بلد يترنح اقتصاديا هو كالعاطل عن العمل الذي يشتري لنفسه قصرا بالدين، ويخاله استثمارا.

ما تحتاجه مصر هو نمو اقتصادها، وهذا يحتاج بدوره لاستثمارات أجنبية، والأخيرة تحتاج إلى ثلاثة عناصر كلها مفقودة في بلاد النيل: قضاء مستقل، وإدارة حكومية غير فاسدة، وتنافسية حسب قواعد السوق لا حسب القوانين التي تمنح العسكر أفضلية على باقي قوى السوق.

لم يقدم السيسي أيا من هذه العناصر، بل مضى يستدين ويبني مدينة تخفي خلف لماعيتها الفقر المدقع للمصريين الذين يعيشون في المقابر والمزابل.

هذه المقالة لا تطالب السيسي بالرحيل، ولا تطالب بديموقراطية فورية في دولة لم يعتد شعبها على أدنى التقاليد التي تشترطها الديموقراطية (مثل حرية الرأي المطلقة، وحرية الكفر والإلحاد، وحرية المثلية الجنسية وغيرها). الديموقراطية في مصر متعذرة في وجود من يتهجم على نجم كرة القدم محمد صلاح لمجرد بثه تغريدة تظهره وعائلته أمام شجرة عيد الميلاد، وكتب تحتها "ميلاد مجيد".

الديموقراطية في مصر ستعيد إلى السلطة حكاما يشبهون الفراعنة، وعبدالناصر، والإخوان المسلمين في فترة حكمهم القصيرة العقد الماضي، حكاما منتخبين يقمعون الحريات، وحكاما ليست لديهم أدنى فكرة عن كيفية الحكم وإدارة الاقتصاد والسعي لتحقيق مصالح مصر والمصريين. 

ما تطالب به هذه المقالة هو أن يسّلم السيسي وعسكر مصر الحكم لأهله من الاختصاصيين. الحكومات في الخليج، مثلا، ليست ديموقراطية، لكنها حذقة كفاية حتى تدرك ما الذي تحتاجه لتصبح جذابة لرؤوس الأموال العالمية وللسياح والمستثمرين. 

حاكم دبي نائب رئيس الإمارات الشيخ محمد بن راشد نشر كتابا يتحدث فيه عن كيف بنى دبي بعقلية رجل الأعمال، وهو النموذج الذي تبنته الإمارات وبعدها السعودية. هو نموذج يسخّر كل مقدرات الدولة وسياساتها في خدمة النمو الاقتصادي واستقطاب المستثمرين والسياح، على عكس النموذج المصري الحالي، القائم منذ زمن الفراعنة، والذي يسخّر كل مقدرات الدولة وسياساتها في خدمة تلميع صورة الحاكم وتصويره كمخلّص أوحد.

ثم أن صورة الحاكم ستلمع من تلقاء نفسها لو راح اقتصاد مصر ينمو، وتقلّص الفقر، وازدادت البحبوحة بين الناس.

عبدالفتاح السيسي يمضي على طريق الخديوي إسماعيل: يغرق ومعه مصر في الديون لتلميع صورته، فيما الواقع ينذر بانهيار قادم، انهيار لا قدرة على وقفه لدى صندوق النقد الدولي، ولا لدى الأموال الخليجية الضخمة صاحبة الفضل حتى الآن على السيد السيسي واقتصاده.