الجمعة، 26 مايو 2023

ميزانية ”الحشد الشعبي“ العراقي… تثير الجدل

حسين عبدالحسين

أظهرت أرقام موازنة العراق للعام الحالي زيادة ضخمة، وغير مبررة، في الأموال المخصصة لـ ”الحشد الشعبي“، إذ خصصت بغداد لهذه الميليشيا الموالية لطهران مليارين و800 مليون دولار، أو ما يوازي 38 في المئة من اجمالي موازنة وزارة الدفاع العراقية. وموازنة الحشد هذه هي أكبر من موازنة جيوش عربية كاملة، كالأردني واللبناني والسوداني والتونسي. 

كذلك أظهرت الموازنة العراقية ارتفاعا مهولا في عدد منتسبي ”الحشد الشعبي“: من 122 ألف مقاتل في العام 2021 إلى 238 ألف مقاتل هذا العام. 

وللمقارنة، تقوم الحكومة الأميركية بتمويل فصائل البيشمركة الكردية المسلحة، التي كانت أول من ساهم في التصدي لداعش على إثر انهيار الجيش العراقي في الموصل في صيف العام 2014. ويبلغ التمويل الأميركي 260 مليون دولار سنويا، منها 20 مليونا شهرية مخصصة لرواتب المقاتلين الكرد. 

وللمقارنة كذلك، تبلغ موازنة الجيش العراقي سبعة مليار دولار مخصصة لتمويل 310 آلاف جندي، فضلا عن تشغيل وصيانة 34 مقاتلة ”أف 16“ الأميركية الصنع، ومعها قرابة الألف دبابة، ومئات المروحيات والمدافع، وآلاف ناقلات الجند. 

ميليشيا ”الحشد الشعبي“ كانت تشكّلت، حسبما تزعم، بموجب فتوى ”الجهاد الكفائي“ الصادرة عن مرجع النجف علي السيستاني للقضاء على داعش. على أن دولة العراق تحتفل في العاشر من كانون الأول - ديسمبر من كل عام بما تسميه ”عيد النصر“، أي ذكرى دحر تنظيم داعش الإرهابي في العام 2017، وهو ما يجعل الزيادة الضخمة في تمويل وعديد ميليشيا ”الحشد الشعبي“ في زمن السلم الذي تلى الانتصار أمرا عجيبا وغير مبرر. 

أما السبب الأرجح خلف الزيادة هو قيام حكومة محمد السوداني باسترضاء الكتل البرلمانية للحصول على تأييدها لإقرار موازنة العراق للأعوام الثلاثة القادمة. 

وفي ”مجلس النواب“ العراقي 73 نائبا من ”الحشد الشعبي“ نفسه ممن لقوا هزيمة قاسية في الانتخابات البرلمانية في العام 2021 على أيدي مرشحي الكتلة المؤيد للزعيم مقتدى الصدر. إلا أنه بعد استقالة نواب الكتلة الصدرية، صار الخاسرون نوابا بموجب تفسير دستوري عجيب غريب، اذ كيف يصبح من اقترع العراقيون ضدهم نوابا عنهم يمثلونهم ويصوّتون في ”مجلس النواب“ باسمهم ودفاعا عن مصالحهم. 

والغالب أن الكتلة البرلمانية الموالية لميليشيا ”الحشد الشعبي“ لا تصوّت لمصلحة العراقيين الذين تمثّلهم، بل لمصلحة الأحزاب الموالية لطهران التي تنتمي اليها، وهو ما يطرح السؤال التالي: ”كيف تفيد الجمهورية الإسلامية من مضاعفة عديد مقاتلي الحشد الشعبي“؟ 

الجواب الأرجح هو أن قيادة ”الحرس الثوري“ الإيراني تفيد من أموال ”الحشد الشعبي“ للإثراء الفردي، وكذلك لتمويل الميليشيات المؤيدة لإيران في دول عربية اخرى غير العراق، مثل لبنان وسوريا. 

أما آلية الإفادة الإيرانية من موازنات ميليشيا ”الحشد الشعبي“ الضخمة فيمكن فهمها بالنظر الى أسباب انهيار الجيش العراقي أمام داعش في صيف 2014 إذ أظهرت التقارير الدولية أن عديد الجيش العراقي في الموصل كان جزء بسيطا من العديد المسجّل على الورق، وذلك لأن عددا كبيرا من المسؤولين والضباط العراقيين كانوا يتشاطرون وجنود عراقيين رواتبهم، مقابل بقاء الجنود في منازلهم، أو حتى مزاولتهم أعمال ربحية غير عسكرية. وفي بعض الحالات، كان هناك لوائح راوتب لأشباح لدى الجيش العراقي، وكان كبار الضباط أو المسؤولين الفاسدين في الدولة يتقاضون هذه الرواتب ويثرون منها. 

في حالة ميليشيا ”الحشد الشعبي“، الأغلب أن عديد مقاتليها هو جزء صغير جدا من الربع مليون مقاتل المعلنة في الموازنة العراقية، وهو ما يفسر ضعف ”الحشد الشعبي“ عسكريا، كما بدا في المواجهة القصيرة التي خاضتها في وجه هواة من أنصار الصدر، إذ كبّد هواة الصدر الميليشيات الموالية لإيران خسائر كبيرة، على عكس ميزان القوى والتمويل والعديد، قبل أن يفرض الصدر وقفا لإطلاق النار لحقن الدماء العراقية. 

ومن مضاعفات نهب رواتب ”الحشد الشعبي“ تراجع سعر الدينار في السوق السوداء أمام الدولار. صحيح أن موازنة الحشد تقارب 3 مليار دولار سنويا، إلا أن حكومة العراق تنفق هذه الأموال بالدينار العراقي، وهو ما يغرق السوق العراقية بالدنانير. ثم تعمد الدوائر الموالية لطهران الى تحويل مليارات الدنانير العراقية هذه الى دولارات عن طريق محال الصيرفة العراقية، التي تشتري الدولار بدورها في مزادات المصرف المركزي العراقي، وهو ما يفرغ الخزائن الحكومية العراقية من الدولار. أما ان امتنع المصرف المركزي عن شراء الدنانير من السوق للحفاظ على مخزونه من الدولار، يرتفع سعر الدولار أمام الدينار. 

لهذا السبب، هدد الاحتياطي الفدرالي الأميركي السلطات العراقية بوقف تزويدها بالدولارات ورقيا، وطالبها بالتزام الأنظمة الدولية المتعارف عليها، والتي تستند الى التحويلات الرقمية بدلا من العملة الورقية. لكن التحويلات لا تفيد طهران لأنها عرضة للعقوبات الأميركية، ما يدفع الإيرانيين للاستعاضة عنها بسعي دائم للحصول على دولارات لتمويل ”الحرس الثوري“ والميليشيات التابعة له في المنطقة. 

ومع تعاون بغداد مع مطالب الفدرالي الأميركي، صار سعر الدولار التحويلي ثابت أمام الدينار بشكل لا يفرغ الخزائن الحكومية العراقية، وفي نفس الوقت انهار سعر الدينار أمام الدولار الورقي في السوق العراقية. لكن الانهيار الورقي لا يؤذي العراقيين، بل يؤذي السوق السوداء الخارجة عن قوانين النظام المالي العالمي. 

في مقابلة للسفيرة الأميركية في بغداد الينا رومانسكي مع قناة ”سكاي نيوز عربية“، قالت المسؤولة الأميركية أن العراقيين سئموا الميليشيات، وأن أميركا باقية في المنطقة. 

أما السوداني، بدوره، فهو يقدم تنازلات للطرفين: تنازلات للنظام العالمي، ممثلا بالولايات المتحدة، لحماية اقتصاد العراق، وتنازلات لنظام الميليشيات الإقليمي الخارج عن القانون الدولي، ممثلا بميليشيا ”الحشد الشعبي“ وعرابيها في طهران، لحماية نفسه والعراقيين من عنف هذه الميلشيات. 

هكذا، تقدم حكومة السوداني سياسة عراقية متناقضة وغير متماسكة، وهي سياسة تأتي غالبا على حساب العراقيين ومصالحهم ومستقبل أجيالهم القادمة.

الاثنين، 15 مايو 2023

أزمة المثقفين العرب

حسين عبدالحسين

في الزمان الغابر كان للقبائل العربية شعراء هم الأكثر نباهة وطلاقة في بني قومهم، وبمثابة مثقفي اليوم. لكل قبيلة شاعر واحد ورأي واحد. لم يكن هدف الشعراء توخّي الدقة أو تدوين الأحداث، بل كانت مهمتهم الدعاية إذ ذاك، ينظمون قصائد الهجاء، أو المدح، أو الفخر، أو الرثاء. أما العامة، فيتناشدون الشعر إلى أن يحفظوه ويبزّوا به أبناء القبائل الأخرى.



هذه القَبَلية الفكرية تواصلت بعد انتشار الإسلام؛ فالدين الإسلامي مثلاً يصف مَن يدخلون فيه أفواجاً، أي جماعات لا أفراد، مع أن الإسلام نفسه لا يعارض انفضاض الفرد فكرياً عن جماعته، كما في انتفاض إبراهيم على عقيدة أبيه، وفي ثورة محمد على دين عشيرته. على أنّه في الحالتين الثوريّتين، لم يسلم إبراهيم أو محمد من دون مبادلة العنف بالعنف، فانتصر إبراهيم على النار، وأعمل فأسه في الأصنام، وانتصر محمد على قريش، فغزا مكة وحطّم أصنامها.


ولم تكن المسيحية أفضل حالاً. كانت الكنائس عبارة عن مجموعات سكانية كاملة متكاملة، يخرج رجل دين على التعاليم السّائدة، فتخرج معه عشيرته وقبيلته وسائر شعبه. هكذا صارت الآريوسية على مذهب آريوس، وانشق يوحنا مارون عن الكنيسة البيزنطية في أنطاكية، فصارت المارونية مذهباً مستقلاً ومتحداً مع روما مع أنه يستند إلى كرسي أنطاكية، أحد الكراسي الكنسية الخمسة المتساوية مع روما والقدس والقسطنطينية والإسكندرية. كان المنشقّون يكتبون نوعين من النصوص، واحداً فيه تعاليم الطائفة ليحفظها الأتباع، وآخر فيه دحض لمعتقدات #الطوائف المنافسة، يحفظه الأتباع للتعويل عليه في محاججة أبناء الطوائف الأخرى.


هذه الثقافة الفكرية السحيقة ما تزال سائدة بين عرب اليوم، من السنة والشيعة والمسيحيين والأقباط والموحدين الدروز. هذه الثقافة تقضي بتبنّي معتقدات الطائفة كما هي من دون أيّ تعديل أو تبديل. مثلاً: يستحيل أن تعثر على مسلم شيعيّ يعتقد أن علياً كان الأحقّ بخلافة الرسول، ولكن لا بأس بخلافة معاوية، بعدما تنازل الحسن بن علي عنها. التاريخ هكذا، قطعة واحدة، يقبله الأتباع بلا نقاش، ومَن يخالف أيّ فكرة يخرج عن الإجماع، وتالياً يتمّ إخراجه من الجماعة، ويكتسب صفات خارج أو مرتد أو منشقّ. كذلك الأمر عند الموارنة، الرأي الرسمي هو أن الطائفة منذ قيامها متّحدة مع روما، ومن يقلْ إنها انشقّت عن الملكيين فليس مارونياً. وهكذا أيضاً قصة فلسطين، وأيّ وجهة نظر مخالفة هي خيانة موصوفة.


والرواية الرسمية حول أيّ موضوع ليست ثابتة، حتى التاريخ يتغيّر بحسب موقف ومصلحة الجماعة وزعيمها. مثلاً: قد لا يعرف جيلُ اليوم أنّ مؤسس التيار العوني الرئيس السابق ميشال عون كان يردّد في سِنيّ منفاه أن "حزب الله" تنظيم إرهابيّ، فيما كان الحزب المذكور يصف عون وتياره بعملاء أميركا وإسرائيل. المشكلة ليست في تقلّب السياسيين، بل في انقلاب أتباعهم بشكل فوريّ واستبدالهم خطابهم بنقيضه من دون نقاش ولا تساؤل.


وانقلاب الأتباع قد يكون مفهوماً بسبب ضحالة ثقافتهم، لكن الطامة الكبرى هي في تقلّبات المثقفين، الذين يفترض أنّهم ضمير الناس وعقلهم. و#المثقفون، كما شعراء جاهلية العرب، غالباً ما يعيدون كتابة التاريخ. في العراق مثلاً، يندر أن تعثر على مثقف شيعي يروي أن الولايات المتحدة هي التي أطاحت بصدام حسين ونظامه، وأن أميركا نفسها هي التي قادت تحالفاً وشنّت آلاف الغارات الجوية لدحر تنظيم "داعش" الإرهابي. المثقفون العراقيون الشيعة يتفادون ذكر أميركا، ويكتفون بالإشارة إلى "انهيار" النظام السابق، وكأنّه انهار من تلقاء نفسه. عن "داعش"، يردّد هؤلاء المثقفون أن ميليشيات "الحشد الشعبي" هي التي انتصرت على التنظيم الإرهابي، بل يمضون في التلاعب بالحقيقة بترداد ما يزعمون أنه تصريح لوزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون تقول فيه إن واشنطن هي التي صنعت داعش. وعند الطلب إلى أيٍّ من هؤلاء العراقيين تقديم دلائل على تصريح كلينتون، يكون الرّد بأنه تصريح معروف، أو بإرسال رابط لأحد مواقع الدعاية والأخبار الزائفة.


على هذا الشكل تتمّ إعادة كتابة تاريخ العراق الحديث، وهذه طريقة لا تختلف كثيراً عن كتابة معظم تاريخ العرب والمسلمين، إذ بالنظر إلى النصوص الإسلامية، يُمكن ملاحظة تناقضات جليّة؛ فالنصوص الأقدم تقدّم روايات مختلفة عن النصوص اللاحقة، ويُمكن العثور على رواية ونقيضها في كل موضوع تقريباً. أمّا ذروة التزوير ففي نقش قبة الصخرة في القدس، وهو نقش يشير إلى أن بانيه هو الخليفة العباسي المأمون، وهو ما لا يتوافق والتاريخ المنقوش العائد إلى زمن الخليفة الأموي عبدالملك، وهي الرواية الأصليّة والأصحّ قبل التزوير العباسيّ.

مفهوم أن تتبنّى وسائل الإعلام الرسمية والتقليدية، ومعها شعراء البلاط والنخبة، روايات القيّمين عليها، لكن من غير المفهوم كيف يتبنّى الأتباع الروايات البالية، خصوصاً في زمن الإعلام الرقمي والتواصل الاجتماعي.


الإعلام الحديث يفترض أنّه أتاح للأتباع وعامة الناس فرص البحث، والاطلاع، وتشكيل الرأي المستقلّ، بعيداً عن البلاط وشعرائه والنخبة المرتزقة لديه. المفاجأة هي في أن الأتباع والعامة لم يحيدوا عمّا اعتادوا عليه، بل واظبوا على التزام موقف الزعيم ودعايته.



في العراق مثلاً، كانت الشكوى في زمن صدام حسين أن الإعلام الرسمي كان تكراراً لشعارات بلا قيمة، من دون أخبار ولا آراء حقيقية. اشتكى العراقيون من منع الإعلام الأجنبي والمحطات الفضائية، وحصر خياراتهم بمشاهدة التلفزيون الرسمي وتلفزيون الشباب التابع لـ"الأستاذ عدي صدام حسين". رحل صدام وعدي، ورحل معهما الحظر وفرض الرواية الرسمية. المفاجأة هي في أنه في غياب الرقابة الرسمية، فرض العراقيون الرقابة على أنفسهم: الشيعة لا يشاهدون إلا قنوات الشيعة، وكذلك يفعل السنة والأكراد؛ كلٌّ يشاهد قناة طائفته. الآراء العراقية على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث #الحرية مطلقة لنقاش الأفكار على أنواعها، تشبه آراء صحيفتي الجمهورية والثورة في زمن صدام: في مجموعات الشيعة، تبجيل للمراجع في النجف وقم وحبّ لإيران، وفي المجموعات السنية كراهية لإيران والشيعة وأميركا، وكذلك الأمر في الكردية، آراء العامة تتطابق وآراء قاداتها.



الحرية التي منحتها أميركا للعراقيين باقتلاعها صدام لم تغيّر في الثقافة العامة العراقية، ولا العربية، حيث لا تمييز بين الهوية والرأي؛ فالرأي يتبع الهوية، والهوية تنبثق من الجماعة، فيُصبح رأي الفرد مطابقاً لرأي الجماعة، ويُصبح الخروج عن رأي الجماعة خروجاً على الجماعة نفسها وخيانة.



ولأن أغلبيّة العراقيين والسوريين والفلسطينيين واللبنانيين لا تفقه معنى الحرية والرأي المستقلّ عن الهوية والجماعة، بل تعتقد خطأ أن الاحترام يقيّد حرية الرأي، فلن تنتشر الحرية بين أفراد هذه الشعوب. وفي غياب الحرية، يستحيل قيام الديموقراطية، وتصبح عملية التصويت في الانتخابات الدورية وسيلة لقياس حجم كلّ جماعة بهدف تحديد حصصها في الدولة، بدلاً من أن تكون العملية الانتخابية مقياساً لأيّ سياسات تلقى دعم الأكثرية حتى يتم تبنيها وتنفيذها.



اللبناني الأميركي الراحل فؤاد عجمي كان أول الذين أدركوا مشكلة العرب مع الحرية، فتمرّد على الآراء السائدة، وتمنّى لو تمرّد المثقفون العرب من أمثاله، لكنهم لم يفعلوا، فكان عتبه عليهم كبيراً. عجمي مات حراً متنوّراً، ولكن غريباً عن جماعته، التي خوّنته، فيما أمعنت جماعته في الغرق في قمعها الحرية، وفي عيشها في الشقاء، الذي لا تبدو قادرة على الخروج منه، خصوصاً أن أغلبيّة المثقفين ترى في الشعبويّة وسيلة أسهل للجاه والحظوة في أعين الحكّام وأتباعهم من تحدّي السائد لتغييره وتحسينه.




*باحث في مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات في واشنطن

الأربعاء، 3 مايو 2023

رأي في سلوك مناصرين لـ"المقاومة" على مواقع التواصل

حسين عبدالحسين

لمناصري "حزب الله" على #مواقع التواصل الاجتماعي شخصية نمطية في الغالب، مبينة على التخوين والاستهزاء بالآخرين. مناصرو الحزب هؤلاء لا يتناقشون ولا يتحاورون، فهم دائماً يمتلكون الحقيقة الكاملة، فيمضون في مراقبة حسابات ونشاطات اللبنانيين الآخرين، ولعب دور المطاوعة، أو الشرطة الوطنية التي تحاسب كل من يكتب أفكاراً يعتقدونها تتعارض مع الشرف اللبناني والكرامة والعنفوان، وهي مفاهيم لا قياس مادي لها.

يحدّدها "حزب الله" نفسه، ويعلن أن الخروج عنها هو أسوا من الكفر بالدين أو بالذات الالهية، مع أن كتاب المسلمين نفسه يجيز الكفر بقوله "من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر". أما الحزب وأتباعه، فيتبنّون مقولة الفلسطيني الراحل أبو أياد، الذي كتب "أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر"، أي أن كل وجهة نظر لا تؤيد تحرير كامل التراب الفلسطيني هي خيانة.

للإنصاف، لم يبدأ قمع الحرية والرأي الآخر مع أبو أياد، بل كان سبق له أن تجلى في الثقافة العربية التي برزت أثناء تعاطي العرب مع الأزمة الفلسطينية في سنيها الأولى نهاية الأربعينات، خصوصا في قرارات جامعة الدول العربية لمقاطعة إسرائيل، وهو في جزء قطع العلاقات وعدم التعامل الرسمي معها مفهوم. 

وللمقارنة، يمكن النظر الى علاقة العداء بين الولايات المتحدة وإيران، حيث تمنع واشنطن أي تعاملات رسمية أو تجارية مع حكومة إيران أو مؤسساتها، ولكن يمكن لأي مواطن أميركي يحصل على تأشيرة دخول إيرانية السفر الى الجمهورية الإسلامية، وحتى الإقامة فيها، ومن يعرف العاصمة الأميركية، يعلم أنها تعجّ بأميركيين ممن يطالبون، ليل نهار، بانهاء فوري وغير مشروط للقطيعة الأميركية مع إيران، من دون أن يخشى هؤلاء الأميركيون اتهام مواطنيهم لهم بالخيانة. والخيانة في المفهوم الأميركي جريمة تستوجب العقاب، لكن الخيانة لا تعني تبني رأي يخالف رأي الغالبية أو الدولة، بل تعني القيام بأعمال تجسسية على الدولة الأميركية لمصلحة حكومات أو جهات أجنبية. كل ما عدا الجاسوسية وسرقة أسرار الدولة مسموح به في بلد الحريات أميركا.

"حزب الله" ومحوره المقاوم وأنصاره لا يفقهون معنى الحرية، بل هم يستخفون بها، ويتصورونها فكرة غربية غريبة على المجتمعات العربية والإسلامية، ويعتقدون أن أميركا تعلن الحرية فيما هي تمارس معايير مزدوجة بمنعها التعبير عن أفكار ما، وهذا غير صحيح، إذ أن بين الأميركيين من يشكك بالمحرقة اليهودية، وفي أميركا حزب نازي، كما في الولايات المتحدة من يناصر "حزب الل" نفسه والإسلام السياسي بشكل عام، وكل هؤلاء يتمتعون بحصانة حرية التعبير. ما تحظره الولايات المتحدة هو عمل مؤسسات الدعاية التابعة لروسيا أو إيران، مثلا، على الأراضي الأميركية.

وحسب معايير أنصار "حزب الله"، هوية الشخص تفرض رأيه. مثلاً، لأن اسمي يعكس طائفتي الشيعية، يعترض مناصرو الحزب على مواقفي المعارضة لسياسة إيران و"حزب الله" وتأييد مسار السلام. يردد مناصرو الحزب أن عليّ "تغيير إسمي" لأنه لا يتناسب ومواقفي، اذ هم يتصورون أن آراء الناس هي امتداد لهويتهم، لا لتفكيرهم ورؤيتهم للأمور وتجاربهم.


ولأن مواقف الأشخاص تكون حسب هوياتهم، يطالبني مناصرو "حزب الله" أما بتغيير إسمي، أو يتهمونني بأني "مسلم عربي متصهين"، أو بكلام آخر خائن للقبيلة التي انحدر منها. بمثل هذا التفكير البدائي يدير "محور #المقاومة" نقاشاته.

ومناصرو "حزب الله" على مواقع التواصل ليسوا حسابات فردية، بل جنود في ماكينة التعبئة الإعلامية، وبينهم ما يمكن وصفهم بالضباط، وهؤلاء عادة من الصحافيين أو الوجوه المعروفة، ويقومون بالسخرية ممن يعارضون "حزب الله"، ويضمنون تغريداتهم إشارات متفق عليها، مثل علامة تعجب حمراء اللون، في نصّ التغريدة. وفي غضون ساعات، يعيد نشر التغريدة مئات بل آلاف الحسابات المؤيدة للحزب، وجلّ هذه الحسابات لا هوية واضحة لها، فقط صورة أسد أو دبابة أو راية كربلائية مع اسماء مثل أبو علي أو زهراء.

الأنظمة العقائدية الشمولية، مثل جمهورية إيران الإسلامية و"حزب الله"، لا تناقش، بل تفرض ماكينات الدعاية التابعة لها وجهات نظر ثابتة. وماكينات الدعاية هذه يسميها "حزب الله" إعلامية، ولكنها ليست إعلاما حرا، بل من أدوات المواجهة، لذا اسمها "التعبئة الإعلامية"، على غرار "التعبئة الطلابية" وباقي الأجنحة التابعة للحزب.

ولأن في نموذج إيران و"حزب الله"، يلعب المثقف دور الجندي المأمور، تتخيّل جماعة إيران والحزب كل مثقفي العالم وصحافييه على هذا الشكل، لذا، لا يؤمن "محور المقاومة" بوجود رأي مستقل، بل يرى أن كل الناس مرتزقة ومدفوعة الأجر في كل آرائها ومواقفها.

وليس هدف نشاط مناصري "المقاومة" على مواقع التواصل الاجتماعي نشر فكر أو برنامج سياسي، ولا الانخراط في نقاشات فكرية أو سياسية، بل أن هدف هؤلاء هو المواجهة، وفرض وجهة النظر التي لا تقبل النقاش. للإنصاف، توافق إيران و"حزب الله" على نقاشات حول السياسات المحلية والبلديات، ولكنها تعتبر السياسة الخارجية ثوابت لا نقاش فيها، تحت طائلة التخوين.

وكان أمين عام "حزب الله" حسن نصرالله ردد — في أكثر من خطاب توجه فيه الى تحالف ١٤ آذار على إثر اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري — القول "انتم اهتموا بالإنماء والإعمار ونحن نهتم بالمقاومة"، بما في ذلك السياسات الأمنية والدفاعية والخارجية. السيد نصرالله يريد لبنان على شكل إيران، حكومة منتخبة على مستوى بلدية، تدير شؤون الناس بما تيسر و"تحمي ظهر المقاومة"، فيما يلعب هو وحزبه دور خامنئي و"الحرس الثوري" الإيراني في رسم السياسات الخارجية والعسكرية، بما فيها الحروب والمواجهات، وكأن سياسات الدول الداخلية يمكن فصلها عن الخارجية.

وللإنصاف أيضاً، في الحوارات الشخصية والخاصة، يبدي مناصرو "حزب الله" صدقاً ينفردون به عن حلفائهم. على أن المشكلة هنا تكمن في أن في كل مرة فتحنا أنا وأحد مناصري الحزب حواراً ثنائياً، انتهى بالقداسة والماورائيات. في مرة، صارحت مناصر لـ"حزب الله" بالقول أن سياسة العرب تجاه إسرائيل يجب أن تحتسب التكلفة البشرية والمالية لاقتلاع إسرائيل واستعادة فلسطين، فإن تبين أن قبولنا بدولة صهيونية يتطلب تكلفة أقل، ويعود علينا وعلى الفلسطينيين بمنافع أكثر، فما هدف الإصرار على الطريق الأصعب؟ الهدف، في رأيي، هو الحياة والرفاه للعرب والفلسطينيين، فان تحقق ذلك بدون أرض.