الجمعة، 25 أغسطس 2023

المثلية الجنسية باقية… بقمع أو من دونه

حسين عبدالحسين

بعد 44 عاماً من جهود مكافحة التأثير الثقافي الغربي، وبعد 44 عاماً من الهندسة المجتمعية وفق الثقافة الإسلامية القويمة، وبعد 44 عاماً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبعد 44 عاماً من إجبار النساء على ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، انتشرت الشهر الماضي في إيران مقاطع فيديو وصور تظهر رضا ثقتي، مدير دائرة الثقافة والإرشاد الإسلامي في مدينة جيلان، في وضع حميم مع رجل إيراني آخر.

ولأن ثقتي من أبرز أعمدة الحرس الثوري، وقام بمهام قمع ضد الانتفاضات الشعبية المتعددة ضد النظام الاسلامي الايراني، ولأن ثقتي على صداقة وثيقة بسعيد جليلي مستشار مرشد الجمهورية الأعلى علي خامنئي، فإن عقوبته اقتصرت على فصله من مهمته في الإرشاد الإسلامي، التي تتضمّن إجبار النساء على الحجاب، ومعاقبة المثليين وأصحاب العلاقات العاطفية خارج الزوجية بالموت إما شنقاً من رافعات البناء أو رجماً بالحجارة.

والمثلية الجنسية ليست دخيلة على المجتمعات العربية والإسلامية، بل إن عمرها من عمر الحضارة. كانت أحياناً تظهر علناً بلا خوف، مثل لدى اليونان أو في بغداد العباسيين، وأحياناً أخرى تختبئ خوفاً من التعييب الاجتماعي، أو العقوبة الدينية، أو الاثنين معاً.

ولبنان ككل دول العالم، قصص المثلية الجنسية فيه مجبولة في أساطيره القديمة لدى الفينيقيين والأيطوريين وباقي الشعوب المحلية المتوالية، بما في ذلك العرب من مسلمين ومسيحيين ويهود.

وفي تاريخ لبنان الحديث، لا تخفى حياة المثلية الجنسية السرية التي عاشها سياسيون ومسؤولون ونافذون.

ويعرف لبنانيون الميول المثلية عند هذا أو ذاك، ولكنهم يكتفون بترداد أنها حياته وخياراته ما دام لا يعلنها. هذا النفاق وهذه الازدواجية في القول علناً عكس ما يمارس الناس سراً مسؤولة الى حد كبير عن الانهيار اللبناني الحاصل، دستورياً واقتصادياً واجتماعياً وأخلاقياً.

من المعيب أن يثور لبنانيون ضد النائب مارك ضو لتوقيعه على مشروع قانون يطالب بإلغاء تجريم العلاقات المثلية بين راشدين. حتى محكمة لبنانية سبق لها أن أصدرت حكماً يناقض المادة 534 من قانون العقوبات محل الشكوى، إذ لا يجوز لأجهزة الأمن اللبنانية أن تعاقب الناس على خياراتهم العاطفية، إن المثلية، أو خارج الزوجية، أو من أي نوع آخر.

ويمكن لأي لبناني أمضى سنوات كافية بين ثنايا "البيئة الحاضنة" لما يسمّى "المقاومة الإسلامية" أن يؤكد أن هذه البيئة ليست فاضلة ولا تعيش كالملائكة، إذ ترصد في صفوفها، كأي بيئة أخرى، العلاقات الجنسية خارج الزوجية، والمثلية الجنسية، وتعاطي المخدرات، الى حد دفع الأمين العام لـ"حزب الله" حسن نصرالله يوماً الى الإطلالة في خطاب غضب ضد المخدرات داعياً دولة لبنان، التي تسبّب بانهيارها، الى ملاحقة من يتعاطونها داخل "البيئة الحاضنة".

القمع لا ينفع. لا في إيران، ولا في لبنان، ولا في أي بلد آخر في العالم. طبعاً، يتظاهر معادو "#مجتمع الميم" بأن ما يثير قلقهم هو أن تصبح المثلية الجنسية أمراً طبيعياً، وهو ما يؤثر في القاصرين ويدفعهم لتبنّي هذه الخيارات ”الشاذة“، وهذه فكرة متهالكة يمكن دحضها في سطور، إذ إن المثليين، مثل السيد رضا ثقتي عضو ”الحرس الثوري“ ومدير مكتب الإرشاد الإسلامي الإيراني، ابن والد ووالدة ليسا من المثليين، وهو نشأ في إيران حيث قمع المثلية، اجتماعياً ودينياً وقانونياً، في ذروته. 

طيّب من علّم ثقتي على ممارسة المثلية الجنسية إن كان لم يتعرّض لها كل حياته؟

إن الخيارات الجنسية هي أكثر الأمور فردانية في العالم، فأهل المثليين ليسوا مثليين، وأشقاء وشقيقات المثليين ليسوا مثليين، وأصدقاء وصديقات المثليين، منهم مثليون ومنهم من غير المثليين، وهو ما يعني أن اختيار المثلية الجنسية ذاتي داخلي يحصل وفق تفاعلات بيولوجية ونفسية لا يفهم فيها خبراء العلوم الاجتماعية من أمثالنا.

ما نعرفه، كمتخصصين في الدول والدساتير والسياسات والحريات والعلاقات الدولية، هو أن الحرية والشفافية هي في صلب المجتمعات المتصالحة مع نفسها. يمكن لأي من يرى في المثلية الجنسية ”شذوذاً“ أن يعلن ذلك، ويعظ المثليين، وهذا جزء من حرية الرأي. لكن لا يمكن لمعارضي المثلية فرض رأيهم ومنعها، وتعييب المثليين، وتعييب مؤيدي حرية المثليين.

وتعييب المثليين ومؤيدي حريتهم يبرز عادة آفات مجتمعية إضافية، كما في مخاطبة الذكر بصيغة التأنيث كإهانة لأن المرأة عورة، ولأن المتلقي في العلاقة إهانة كذلك. هكذا، تتراكم أمراض مجتمع يتصوّر نفسه مثالياً وملائكياً وحارساً للفضيلة وتقاليد العفّة المتخيّلة.

إن قيام وزير ثقافة لبنان محمد وسام المرتضى بحظر فيلم باربي الأميركي بتهمة نشره "الشذوذ الجنسي" هو اعتداء على كل لبناني، لا لأن الرقابة هذه تتعارض والحرية فحسب، بل لأن الوزير أعلن نفسه وصيّاً على ما يمكن للبنانيين مشاهدته حتى يبقوا فاضلين وعلى ما يعتقد هو أنه يفسدهم ويفسد أخلاقهم، وأنه لا يعكس الثقافة اللبنانية الأصيلة، إذ ذاك يصبح السؤال: ما الذي يعكس الثقافة اللبنانية الأصيلة؟ مسلسل "الهيبة" عن المهرّبين والطفّار والفارين من القانون الذين يستبدلون الدولة وعدالتها بعدالة عشائرية يطبّقونها بتصفية بعضهم بعضاً؟ طبعاً هذا القول مع كل الاحترام للمسلسل المذكور والقيّمين عليه، فهو عمل فني يعكس مجتمعاً، فإن كانت المشكلة في المجتمع، لا يجوز محاسبة المسلسل أو حظره.

ستبقى المثلية الجنسية منتشرة في جمهورية إيران الإسلامية، في أوساط المتدينين والمحافظين و“الحرس الثوري“ والليبراليين وباقي الإيرانيين. وستبقى المثلية الجنسية منتشرة في أرجاء لبنان.

لا يستوي التعامل مع المثلية الجنسية إلا بأن تتصالح هذه المجتمعات، الإيرانية واللبنانية والعربية والعالمية، مع نفسها وواقعها، وأن تتخلى تماماً عن الهندسة المجتمعية، وأن تترك للناس خياراتهم، مع نقاش مفتوح حول هذه الخيارات، وتقديم آراء المؤيدين والمعارضين. كلها أمور تبدو بديهية، ولكن يمكن لمن يطالع سلسلة تغريدات المرتضى، بما فيها رميه النائب ضو بتهمة أنه يريد الحرية، أن يرى ضحالة تفسّر انحطاط لبنان، وبقاءه في الحضيض.

الاثنين، 21 أغسطس 2023

السلطة الفلسطينية بعد محمود عبّاس

حسين عبدالحسين

نشر موقعفورين بوليسيمقالة تناولت شخصية حسين الشيخ، الرجل الثاني في السلطة الفلسطينية والخليفة المتوقع لرئيسها محمود عبّاس. وأظهرت المقالة جهلا شبه تام ينتشر في بعض الأوساط الأميركية، خصوصا الإعلامية منها، في شؤون الشرق الأوسط عموما، والشؤون الفلسطينية خصوصا، اذ قامتفورين بوليسيبأخذ قياسات الشيخ حسب المقاييس الأميركية، بدون النظر الى الظروف الفلسطينية المحيطة.


روت المقالة صعود الشيخ الى منصبه، فقالت أنه أمضى فترة في السجن الإسرائيلي أثناء سني الشباب بسبب نشاطاته الثورية والسياسية. وفي السجن، أتقن الشيخ العبرية. ثم بعد الإفراج عنه، تدرج صعودا في فتح والسلطة، وصار يلعب أدوارا في التنسيق والتفاهم بين السلطة وإسرائيل. ثم اتهمت المقالة الشيخ بالفساد والاختلاس من مال السلطة العام. كما اتهمته بالتحرش بزميلات في العمل


التعاون مع إسرائيل، بموجب التزامات السلطة دوليا حسب اتفاقية أوسلو وسائر الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل، والفساد المالي، والتحرش الجنسي، ساقتهافورين بوليسيلتخلص ضمنيا أن الشيخ ليس مناسبا لموقع رئاسة السلطة.


الفساد في السلطة الفلسطينية آفة منتشرة الى حد أقنع الدول المانحة، خصوصا الخليجية منها، بتقليص مساعداتها. أما التحرش الجنسي، فمشكلة بين الفلسطينيين كذلك، ليس في اماكن العمل فحسب، بل في البيوت أيضا، حيث يعاني عدد كبير من الفلسطينيات من العنف المنزلي وانواع الاضطهاد الأخرى التي تصل حد جرائم الشرف


لا شك أن الفلسطينيين بحاجة ماسة للتخلص من آفات الفساد واضطهاد النساء. لكن الى أن يحدث ذلك، هناك معايير أكثر فداحة في تقرير من سيخلف عبّاس، البالغ من العمر 88 عاما، وفي طليعتها قوة المرشح أمنيا وعلى الأرض، ونفوذه لدى المؤسسات الأمنية ومقاتلي العشائر، اذ لا معنى لتقييم الشيخ في مواضيع الفساد والتحرش إن كان الرجل غير قادر على الإمساك بالأرض بعد رحيل عبّاس.


ويعتقد البعض أن مقتل شقيق الشيخ، في شجار بين فلسطينيين قبل ثلاثة أعوام، لم يكن صدفة، بل كان حادثا مقصودا ورسالة وجهها منافسو الشيخ حول مستقبل السلطة بعد عبّاس.


من منافسي الشيخ ثلاث شخصيات فلسطينية على الأقل يبدو أنها تتفوق عليه في شعبيتها بين الفلسطينيين وخصوصا في صفوف الأجهزة الأمنية. يتصدر هؤلاء قائدالأمن الوقائيالسابق في قطاع غزة محمد دحلان، الذي تظهر استطلاعات الرأي التي يجريهاالمركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحيةحلول كتلته في المرتبة الثالثة بعد فتح وحماس وحصولها على قرابة سبعة في المئة من اجمالي الأصوات. وتظهر الاستطلاعات نفسها أن شعبية دحلان هي ضعف شعبية الشيخ في حال ترشحهما للرئاسة. وعلى الرغم من اصرار عبّاس على طرد دحلان من فتح، إلا أن الأخير ما زال يتمتع بعلاقات متينة داخل الأجهزة الأمنية.


شخصية فلسطينية بارزة ثانية هي اللواء توفيق الطيراوي، عضو اللجنة المركزية في فتح وقائد الوقائي سابقا. تمرد الطيراوي ضد قيام عبّاس بتمديد ولايته المنتهية في 2009 مرارا، وادارته السلطة بمراسيم، وتنصيبه خليفة بدون استشارة المعنيين، الى فغضب الرئيس الفلسطيني على الطيرواي ونزع عنه معظم المناصب التي كان يشغلها


ولكن الطيراوي، الذي سبق له أن صرّح أن عبّاس سيكون آخر رئيس للسلطة الفلسطينية، ما يزال يتمتع بشعبية واسعة في صفوف الأجهزة الأمنية، وكذلك تدين له بالولاء عدد من العشائر المسلحة في الضفة الغربية، وهو ما يجعل الطيراوي رقما صعبا في عملية الخلافة، التي يمكنه أن يعرقلها، حتى لو بالعنف. ويتمتع الطيراوي بعلاقة جيدة بدحلان، وقد يتحالف الاثنان لنسف أي عملية انتقال سلطة لا يوافق عليها أي منهما.


الشخصية الثالثة هي اللواء جبريل الرجوب، وهو ما يزال في صفوف المرضي عنهم لدى عباس. سبق للرجوب أن قاد الأمن الوقائي، وأثار أداؤه اعتراضات كثيرة وساهم في تلطيخ صورته. لكن الرجوب، الذي يرأس الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، ما يزال يتمتع بولاء عدد كبير من المنضوين في الاجهزة الأمنية، وهو ما يعني انه في حال اندلاع مواجهات مسلحة لحسم موضوع خلافة عبّاس، من المرجح أن يكون الرجوب واحدا من اللاعبين.


على أنه في حال اندلاع حرب أهلية بين خلفاء عبّاس، فهي لن تنحصر بينهم وحدهم، بل من المرجح أن تقوم التنظيمات من غير فتح، خصوصا حماس والجهاد الاسلامي، بمحاولة الافادة من انشغال القوات الأمنية الفلسطينية في المواجهات بينها للسيطرة على مناطق في الضفة، وقد ينجح أي من التنظيمات الإسلامية، أو الاثنان سوية بالتضامن والتكافل، في اقتلاع السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية وحركة فتح، والاستيلاء على الحكم، كما فعلت حماس في قطاع غزة في العام 2007.


على أنه على عكس غزة الملاصقة للبحر، تعلو الضفة الغربية على الساحل وتكشف بذلك معظم إسرائيل، وهو ما يعني انه في حال سيطرة حماس أو الجهاد الاسلامي عليها، فهي تمنحهما سهولة أكثر في ضرب أهداف إسرائيلية حساسة واستراتيجية، وهو ما يعني أن إسرائيل لن تقف متفرجة في حال خسرت السلطة الفلسطينية سيطرتها على الضفة، بل أن إسرائيل ستجتاح مناطق الحكم الذاتي الفلسطينية في المنطقتين ألف وباء للسيطرة عليها بشكل مباشر مخافة وقوعها في أيدي حماس والجهاد.


سيناريوهات خلافة عبّاس متعددة، ولكنها دموية في معظمها. أما الطامة الأكبر، فتكمن في انعدام الفهم الأميركي للوضع الفلسطيني، واعتقاد أن مشكلة خلافة عباس هي الفساد والتحرش فيما المشكلة هي شيء مختلف تماما. هكذا لم يفهم الأميركيون العراق يوم تدخلوا في شؤونه، وهكذا جاءت نتيجة تدخلهم كارثية.