الأربعاء، 30 سبتمبر 2009

نقاش في نظريات معمر القذافي

بقلم حسين عبد الحسين - واشنطن

بعيدا عن الاثارة الاعلامية التي غالبا ما ترافق معمر القذافي اينما حلّ ورحل، لا بد من القول ان بعض ما طرحه الزعيم الليبي في خطابه امام الجمعية العمومية للامم المتحدة ممتاز، وخاصة لناحية اصلاح هذه المنظمة. لكن المفارقة تكمن في ان الزعيم، الذي يحكم بلاده منذ اربعة عقود متواصلة، هو نفسه الذي وقف يطالب بتطبيق قواعد الديموقراطية على المنظمة الاممية.

فالقذافي قدّم صورة متكاملة لما يجب ان تكون عليه الامم المتحدة العصرية. الجمعية العمومية، وفيها دول العالم كافة، هي بمثابة برلمان اممي ينتخب من بين اعضائه كل اعضاء مجلس الامن دوريا، ويكون الاخير بمثابة الحكومة العالمية التي تنفذ قرارات الجمعية العمومية، لا العكس كما هو منصوص عليه في ميثاق المنظمة.

ولمتابعي "الاخ قائد الثورة" عبر موقعه، فان فكرته عن اصلاح الامم المتحدة ليست بالجديدة، بل هو قدمها في محاضرة عبر الاقمار الاصطناعية لطلبة واساتذة جامعة كامبريدج منذ حوالى العامين.

ولأن القذافي غالبا ما يقدم نفسه على انه مفكر وباحث ودارس للتاريخ، ولأن من يقوّمون افكار القذافي هم اما من الليبيين ممن يهابونه فيغدقون عليه المديح الكاذب، او من مراكز الابحاث العالمية التي غالبا ما تستلم مساعدات مادية من شركات نفطية عاملة في ليبيا، او من مثقفي السلاطين من اعدائه ممن يكيلون له الشتيمة من دون الخوض في ما يقدمه. لذا لا بد من محاولة التعاطي مع "فكر القذافي" بطريقة اكثر موضوعية.

بادىء ذي بدء، من المفيد لفت نظر "الاخ القائد" الى ان تفسيره لكلمة ديموقراطية ولمفهومها كمنظومة حكم هو تفسير خاطئ. فالقذافي – في محاضرته المذكورة – ينفرد بالتعريف الآتي: " كلمة الديموقراطية (ديموكراسي) متكونة من كلمتين، كلمات عربية، ديمو يعني الشعب، وكراسي معناها (تشيرز)، معناها الشعب على الكراسي (ديموكراسي)، الشعب دائما على الكراسي، واذا اردنا ان نطبق هذه الكلمة، ندع الشعب يجلس على الكراسي".

لا نعرف كيف توصل القذافي الى ان كلمة "ديمو" هي كلمة عربية تعني الشعب. واذا اعتبرنا ذلك صحيحا، تصبح العبارة "الشعب كراسي". قد تعني الكلمة عربيا "الادامة او الدوام"، وفي هذه الحالة، تصبح العبارة "ديمو كراسي" اي "ابقوا كراسي". وكيفما تلاعبنا بالعبارة، لن تفيد التفسير الذي يقدمه السيد القذافي.

وبما اننا نصارح حاكم ليبيا، قد يكون من المفيد ان نذكر له، ان الاجماع على تفسير هذه الكلمة في العلوم السياسية مبني على انها من اصول اغريقية، وهي مركبة من كلمتي "ديموس"، اي الشعب، و"كراتوس"، اي الحكم، فتصبح كلمة ديموقراطية، بمعناها البدائي، "حكم الشعب".

ويستنتج القذافي من تفسيره لكلمة ديموقراطية انها تعني حكما مباشرا من الشعب. ويقول في محاضرته نفسها: "الشعب هو صاحب الحق في اصدار القوانين والتشريعات وخلق اي نظام يريد، الشعب هو السيد، لا يجوز ان نختزل سيادة الشعب ونضعها في مجموعة من البشر اسمها الحكومة او اسمها النواب". ويضيف: "لا نيابة عن الشعب، والتمثيل تدجيل... كيف شخص واحد يعبر عن مئة الف، من قال ان المئة الف يريدون ما يريده هذا الشخص؟".

المشكلة هنا ان القذافي يعتبر ان تفسيره "ديمو على الكراسي" هو حكم الشعب المباشر، ويفوته ان في الديموقراطية انواعاً، منها المباشر، ومنها التمثيلي. اما في عالم اليوم، فتغلب الديموقراطية التمثيلية نظرا الى الكثافة السكانية، واستحالة الأخذ برأي كل مواطن في كل مناسبة.

وهناك مفارقة اخرى في اصرار القذافي على حكم الشعب المباشر. فمن قال ان معمر القذافي يمثل رأي الثلاثة ملايين عضو في اللجان الشعبية الليبية؟ لماذا لم ينتقل الليبيون اعضاء اللجان الى نيويورك، جميعهم، فينصبون خيمهم في ارجائها، ويقدم كل واحد منهم افكاره وتطلعاته امام الجمعية العمومية؟ كيف يعتبر القذافي ان "التمثيل تدجيل" وهو يمثل بلاده في الامم المتحدة؟

القذافي يقول ايضا في محاضرته: "(هناك) 3 ملايين ليبي منتظمون في 30 الف كومونة، كل كومونة متكونة من 100 فرد فقط، هم يضعون جدول اعمال المجتمع وسياسة المجتمع الداخلية والخارجية لمدة سنة، وبعدها يجتمعون لمدة سنة، وهكذا... لا ديموقراطية من دون مؤتمرات شعبية، والمؤتمرات واللجان في كل مكان".

السؤال هنا، من ينفذ السياسات الاقتصادية والداخلية والخارجية في فترة عدم انعقاد الكومونات؟ وكيف يحكم المسؤولون الليبيون باسم الشعب في فترة عدم الانعقاد؟ وماذا يحصل في حال انقسام الرأي داخل الكومونة الى 50 مع و50 ضد؟

ثم اننا لو حاولنا استبدال الديموقراطية في الولايات المتحدة – على سبيل المثال – بنظام الكومونات هذا، بعملية حسابية بسيطة، ستحتاج اميركا الى مليون و200 الف كومونة.

ان رؤية القذافي للشعب منقوصة وتعتبر الشعب وحدة عضوية متكاملة. فالشعب، كل شعب، ليس من رأي واحد، ولا صاحب قول واحد، بل هناك اراء متعددة ومختلفة وقد تكون متناقضة داخل كل شعب، ونظرا الى استحالة الاخذ برأي كل الآراء المتناقضة، كان لابد من دعوة الاكثرية الى اختيار صاحب الخيار الأفضل برأيها لمدة معلومة، يقرر الشعب نفسه التجديد للشخص المختار او استبداله في الدورة الانتخابية المقبلة، وهذا ما يفرض مبدأ النيابة والديموقراطية التمثيلية.

ان على السيد القذافي احاطة نفسه بعدد من المستشارين – بدلا من المصفقين – ممن يمكنهم اجراء نقاشات جدية في الامور الفكرية التي يطرحها، ليصار تبني ما يثبت صحته، والتخلي عما يجافي المنطق، وهذا ليس عيبا او انتقاصا من صورة الزعيم، بل تزكية لصورة المثقف، فالفكر لا يستقيم بالعافية والاكراه وفرض اجهزة الاستخبارات.

ثم ان الديموقراطية لا تستقيم من دون حقوق الانسان وحرية الرأي، والا تتحول ديكتاتورية الاكثرية، وهذه معضلة تفوت معظم سياسيي وقادة العالم العربي. فالقادة في قليل من دول العرب التي تتمتع بنوع من الديموقراطية، غالبا ما يصرون على هرطقة الديموقراطية التوافقية، اي اعطاء الاقلية حق تعطيل الحكم في وجه الأكثرية. ان محاربة ديكتاتورية الاكثرية، داخل الديموقراطيات، مبنية على حفظ الحريات والحقوق لجميع المواطنين الافراد، بغض النظر عن رأيهم المعارض، لا على اعطاء كل الكتل البرلمانية حقوقا متساوية في ادارة شؤون البلاد.

وبما اننا بيّنا قصورا في فهم القذافي - وبعض السياسيين العرب - للديموقراطية الغربية، والتي يبدو ان القذافي يحصرها بكلمة واحدة ومبدأ بسيط، بدلا من الاحاطة بالانواع المختلفة للديموقراطيات وتاريخ نشوئها وقيام الجمهوريات، فلا ضير من لفت نظر "الاخ القائد" الى مغالطات اخرى يتبناها.

ان فكرة الوطن الواحد للعرب واليهود في فلسطين هي فكرة قديمة بقدم تاريخ بدء الصراع بينهما، وقد تبناها في الماضي مفكرون كبار ابرزهم ادوارد سعيد وآخرون. هذه الفكرة، والكتاب الابيض الذي الفه القذافي هو لتقديمها، ليست جديدة ولا مبتكرة، مع انه لا ضير في ان يتبناها الزعيم الليبي.

ان الزعيم الليبي مشكور على حرصه على اصلاح الامم المتحدة وجعلها اكثر ديموقراطية، ومشكور كذلك على خوضه في نقاشات فكرية، وبما انه حريص على النقاش الفكري والديموقراطي، فلا بد ان يكون صدره واسعا لما قد نراه تصويبا لفكره، او دعوة الى تعديل في ممارساته وممارسات قادة عرب آخرين، فقليل منا فقط ممن يعتقدون ان في ليبيا حكما شعبياً حرا، بل اجهزة استخبارية قمعية تشبه شقيقاتها في دول عربية اخرى وايران، ولا بد من فتح النقاش حول مصيرها جميعا، إن في وجود حصار امبريالي على ليبيا او غيرها، او من دونه.

( صحافي مقيم في واشنطن وزميل زائرفي معهد تشاتهام هاوس البريطاني)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق