الثلاثاء، 6 سبتمبر 2011

في رحيل كمال الصليبي

حسين عبد الحسين

عندما طلب مني المؤرخ اللبناني الكبير كمال الصليبي، الذي وافته المنية عن 82 عاما يوم الخميس الماضي، ان اكتب مقدمة آخر كتاب اصدره، تملكتني فرحة عارمة. كان الكتاب عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي ادلى بها عن نظريته في ان احداث العهد القديم وقعت في منطقتي الحجاز وعسير، لا فلسطين كما هو متعارف عليه.

في اليوم التالي، تحادثت معه عبر سكايب، كعادتنا، وحاولت اقناعه ان كتابا كالذي كان ينوي طبعه يحتاج الى مقدمة يضعها اكاديمي لا صحافي مثلي، فقال لي: “العلم لا يسير بالالقاب، وانت من المتابعين لتفاصيل نظريتي وافضل من يمكنه الدفاع عنها”. في ذلك اليوم، احسست اكثر بتواضع ذاك الرجل صاحب العقل المعقد والقلب البسيط.

لم يكن الصليبي، صاحب كتب “التوراة جاءت من جزيرة العرب”، و “تاريخ (الجزيرة) العربية”، و “منطلق تاريخ لبنان”، و “بيت بمنازل كثيرة” عن تاريخ لبنان ايضا، و “تاريخ سورية تحت الاسلام”، و “تاريخ الاردن”، و “حروب داود”، و “من كان يسوع”، معلما لي ولكثيرين فحسب، بل كان حكيما. احب التقاليد الاجتماعية وعاش بموجبها، ولكنه كان دوما ثائرا في فكره ومجددا في كتاباته.

اكسبته كتاباته عداوات كثيرة ترواحت بين الحركة الصهيونية ومؤيديها من المؤرخين، الى كنيسة المشرق المارونية وبعض الحكومات العربية. كان مثقفا بما في الكلمة من معنى، لم يرتزق على باب سلطان ولم يتصرف بشعبوية ولم يطلب شهرة. “التاريخ للتاريخ”، كان يقول لي دائما، وهذا ما يعني انه كان دوما يكتب ما يعتقده صحيحا من دون مجاملة للقوي او ملاطفة للضعيف.

كان موسوعيا في معرفته، يتحدث في التاريخ والشعر العربي كما في الطب او العلوم الاخرى، ويتقن لغات محكية كالانجليزي والعربي والفرنسي والالماني، وقديمة شبه مندثرة كالآرامي والسرياني والعبراني واليوناني القديم.

في شبابه، سافر الصليبي الى ارجاء دول منطقة الشرق الاوسط، وعاشر قبائلها، وتحدث الى مسنّيها. كانت خارطة المنطقة بجغرافيتها وساكنيها مطبوعة في ذهنه المتقد دوما حتى آخر يوم من حياته.

كنت قبل ان اهجر بيروت ازوره يوميا، وابقيت على هذه العادة حتى بعد هجرتي واثناء زياراتي الى لبنان، وفي المهجر كنت اتحدث معه عبر سكايب وفايسبوك، الموقع الذي انتسب اليه وهو في الثمانين من عمره. في كل حوار، كان لي دروس كثيرة. غالبا ما كان يقف ويستدير الى مكتبته ليتأكد من معلومة اسأله عنها. كنت ارسل اليه مقالاتي قبل وبعد النشر، غالبا ما كنا نناقشها.

بعد اندلاع الثورات في الجمهوريات العربية، ارسل الي يحثني على الكتابة عن الموضوع. قال لي: “ان ما يحدث في العالم العربي ذو ابعاد تاريخية.. انا قد لا يكون لي فرصة كبيرة في ان اشهد على نتائجها، ولكن فرصتك قد تكون اكبر”. اذ ذاك طلبت منه ان ادون رأيه في تلك الاحداث في مقابلة للمجلة، فوافق بسرور، وكانت آخر مقابلاته.

مات الصليبي، معلمي وصديقي، ولكن فكره سيعيش في داخلي وفي داخل كثيرين.

.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق