الجمعة، 13 يناير 2012

فوكوياما.. عود على بدء


حسين عبد الحسين
المجلة

يروي سياسي عراقي متقاعد أن الرئيس الراحل عبدالكريم قاسم، بعد انقلاب عام 1958، طلب من حلفائه الشيوعيين في الاتحاد السوفياتي ارسال خبراء في مختلف الميادين لتدريب نظرائهم العراقيين.
وقام احد المهندسين العراقيين بإقامة عشاء في بيته على شرف خبير سوفياتي.
بعد الطعام، بادر الأخير الى سؤال مضيفه: “من يملك هذا البيت؟” فأجاب المهندس العراقي: “انا”. وسأل الضيف: “ولمن هذه السيارة المركونة امام الباب”، فأجاب المهندس العراقي: “لي”. وسأل ايضا: “ولمن الثلاجة والتلفزيون والراديو”، فأجاب العراقي: “لي كذلك”. فتوجه الخبير السوفياتي الى مضيفه العراقي بالقول: “ولماذا قمتم بالثورة اذن؟”
فرانسيس فوكوياما، البروفسور الأميركي في جامعة ستانفورد، كتب في مقالة نشرتها مجلة “فورين افيرز” بمناسبة عيدها التسعين، عن نشوء الطبقات الاجتماعية وزوالها حول العالم في القرن الأخير، وتأثير ذلك على شكل الحكومات، وعلى انظمة الحكم، وعلى مسار الأحداث والتاريخ البشري عموما.
فوكوياما ذاع صيته في عام 1992 على اثر صدور كتابه “نهاية التاريخ”، وهو عاد اليوم ليكتب مقالة هي بمثابة مراجعة لنظريته القائلة انه على اثر نهاية الحرب الباردة في عام 1990، انتصرت “الديمقراطية الليبرالية” التي صارت تحكم العالم، وتحولت الى هدف بحد ذاته بعدما قدمت الرفاه لمواطنيها، وهي الغاية القصوى من تنظيم المجتمعات البشرية في كيانات سياسية وحكومات.
كتب فوكوياما بعنوان “مستقبل التاريخ”، وهو ما يشكل اعترافا ضمنيا من الأكاديمي الأميركي ان التاريخ لم ينته فعليا مع نهاية الحرب الباردة وانتصار المعسكر الغربي الديمقراطي.
فوكوياما اليوم يعتقد ان التاريخ مستمر، وان الديمقراطية في خطر نتيجة ضمور الطبقة الوسطى في العالم عموما وفي الدول الغربية خصوصا.
يقول فوكوياما ان نشوء الطبقة الوسطى هو الذي حطم نظرية كارل ماركس، القائلة بأن طبقة العمال ستثور في وجه الاقطاعيين واصحاب رأس المال، ممن يتحكمون في القرار المالي والسياسي في بلدانهم، فالعمال لم يبقوا عمالا معدمين، بل ادى عملهم الى تحسن وضعهم المعيشي والثقافي، وصاروا يمتلكون منازلهم وحاجات اخرى، ومن يمتلك لديه مصلحة في استمرار سلطة سياسية قادرة على حمايته وحماية ممتلكاته، اذن لم يعد لدى العمال في الغرب مصلحة في القيام بثورات لقلب حكوماتهم، بل اكتفوا بالحصول على حقوقهم المدنية والسياسية من حرية ومساواة ومشاركة في اختيار الحكام وصياغة القرارات.
يضيف فوكوياما ان طبقة من المعدمين تثير القلاقل اليوم، ولكن من دون اهداف سياسية، تتألف من مزيج اثني من المهاجرين الى الدول الغربية نشأت تحت طبقة العمال، الذين تحولوا بدورهم مع العولمة الى عاملين في اقتصادات تحولت من صناعية الى خدماتية. هذا التحول، والعولمة، اسهما في اضعاف قوة الغرب وبروز دول اخرى، الا ان فوكوياما يشكك في ثبات القوى الصاعدة مثل الصين.
ويكتب: “ان الحكومة الصينية تعتبر ان مواطنيها يختلفون ثقافيا، ويفضلون بقاء ديكتاتورية تؤمن النمو الاقتصادي على ديمقرطية فوضوية تهدد الثبات الاجتماعي”.
ولكن من غير المرجح، حسب فوكوياما، “ان تتصرف الطبقة الوسطى، التي تكبر في الصين، بطريقة مختلفة عن تلك التي تصرفت بها الطبقات الوسطى حول العالم”، اي ان تطالب بحقوقها السياسية بعدما تحسن وضعها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.
وبما ان ثبات النظام الصيني، الذي قدم نموا اقتصاديا كبيرا على مدى العقود الثلاثة الماضية، “ليس مضمونا”، فمن الصعب ان يشكل نموذجا للحكم يستبدل نموذج “الديمقراطية الليبرالية” الذي يسود في الغرب والذي تسعى الى اقامته معظم شعوب العالم.
فوكوياما البالغ من العمر ستين عاما، صار اليوم حكيما، وهو غير ذاك الاكاديمي اليافع الذي أكد قبل عقدين ان التاريخ انتهى.
فوكوياما اليوم لا يقدم اجابات نهائية ولا قاطعة، بل يحث مثقفي اليوم على ان تقديم فكر بديل عن الماركسية المتحجرة، وكذلك عن الليبرالية التي أدت الى توسيع الفجوة بين الاغنياء والفقراء لتقضي على الطبقة الوسطى، وتاليا تقضي على الديمقراطية كما عرفها العالم في القرن الماضي.
بعد “نهاية التاريخ”، يكتب فوكوياما اليوم عن المستقبل، وينتظر نشوء نظريات جديدة في الحكم تغير مسار الأحداث الجارية، ربما حتى يكتب عنها ـ ان قيض له ـ في الذكرى المئوية لصدور “فورين افيرز”، فيستمر البحث ويستمر النقاش، وهما الثابتان الوحيدان في ماضي البشر كما في مستقبلهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق