الخميس، 31 يناير 2013

هكذا قضت الطائفية على الديموقراطية في لبنان

بقلم حسين عبدالحسين -واشنطن

في ديموقراطيات العالم البرلمانية، عندما يتعذر الاتفاق، تذهب الحكومة الى انتخابات. في لبنان لا تُجرى الانتخابات قبل التوصل الى اتفاق. هذا التباين قد يبدو طفيفا، لكنه يعكس عمق الاختلاف في فهم الديموقراطية بين الغرب والعرب.
يبدو ان اساس الاختلاف هو مبدأ "الحرية الفردية" (Liberty) الحاضر في الغرب، والغائب عند العرب.
مفهوم الحرية الفردية بدأ مع الثورتين الاميركية والفرنسية نهاية القرن الثامن عشر. ويعتقد البعض انه نتيجة الثورة الصناعية، التي اعطت الفرد استقلالا ماليا عن الجماعة، وتاليا استقلالا في الرأي، فتحول العقد الاجتماعي، او دستور الدولة، من علاقة بين حاكم ومجموعة من الاقطاعيين من مالكي الارض والبشر، الى علاقة بين الحاكم والافراد المستقلّين ماديا ومعنويا. 
وبسبب الطفرة السكانية الناتجة عن النهضة الصناعية والاقتصادية، صار متعذرا على الاقطاعيين الامساك بالكتل السكانية الضخمة، بل صار المطلوب استفتاء شعبيا يحصي الرأي العام، ويمنح الحاكم تفويضا زمنيا محددا، ويجعله مسؤولا في اعماله امام ناخبيه، حتى لو جاء التفويض غير مباشر ومن طريق نواب كما في الديموقراطيات البرلمانية.
ومسؤولية الحاكم الاوروبي لم تعد مطلقة كما كانت عليه من قبل، بل صارت تقتصر على ادارة امور معينة في الشأن العام، وتمييزها عن الحيز الخاص، فيما كان للحاكم قبل الثورة الصناعية وقبل ظهور مبدأ "الحرية الفردية" الحق في املاء ما يرغب حتى في الشؤون الشخصية مثل الزواج والمعتقد الديني، وكان الناس حكما على مذاهب ملوكهم، وهذا ما دفع الى هجرة اوروبية واسعة في اتجاه العالم الجديد، اي القارة الاميركية، هربا من الاضطهاد الديني وغياب الحق في تملك الاراضي وانعدام الحقوق الانسانية والسياسية.
ولعبت النوادي والجمعيات النخبوية، العلنية والسرية كالماسونية، دورا كبيرا في نشر فكر فصل الدين عن الحكم، وهو ما يظهر بارزا في معتقد الماسونيين الذين ينظرون الى الافراد كاحجار متساوية، بغض النظر عن دينهم، فيما من المفروض ان يلعب الانتساب الى هذه الجمعيات دورا في صقل هذه الاحجار فكريا وحضاريا، مع ان الماسونيين تعثروا في تبنيهم المتأخر للمساواة العرقية والجندرية.
اذن "الحرية الفردية" هي في صميم العقد الاجتماعي الديموقراطي، وهي تسمح بتحويل الرعايا مواطنين، متساوين امام القانون، ويتمتعون بحرية فكرية ومادية ومعنوية، ويختارون الحاكم الذي يتناسب مع آرائهم ومصالحهم. هكذا انحلت العصبية الاثنية والعرقية والدينية القبلية، وتم استبدالها بعصبية حزبية قائمة على افكار ومبادئ ومصالح، والاحزاب الغربية - على عكس العربية - ليست مبنية على جماعات، بل في الغالب على افراد يتشاركون في الرؤى والطموحات.
وفي الولايات المتحدة فئة من غلاة "الحرية الفردية" تعرف بـ (Libertarians)، ابرزهم المرشح الجمهوري الى الرئاسة رون بول، وهؤلاء يتمسكون بهذا المبدأ الى حد انهم يعادون مبدأ الحكومة نفسه ويطالبون بحكومة اصغر، او لا حكومة بالمطلق.
هكذا، فيما تؤدي المغالاة في "الحرية الفردية" الى القضاء على الحكومة المنتخبة وتاليا حكم الاكثرية او الديموقراطية، يؤدي غياب "الحرية الفردية" كذلك الى القضاء على مبدأ المواطن، الذي يذوب في الجماعة، وهي لدى العرب تأخذ اشكالا دينية وعرقية، وتنظم نفسها بطريقة قبلية. 
هذا ما يجعل من العقد الاجتماعي للدول العربية، مثلاً في لبنان والعراق، عقدا بين حكام الجماعات، يتقاسمون بموجبه واردات الدولة، الضريبية او النفطية او بالاستدانة، ويستخدمونها لانشاء شبكة من الموالين، ظاهرها مذهبي اوعرقي وواقعها نفعي ريعي.
وفي الماضي، كان من الاسهل ان تغطي الشبكة الريعية الطائفية معظم الرعايا، ولكن بدءا منذ نصف القرن الاخير و الانفجار السكاني العربي، صار يتعذر اشراك ابناء المذهب الواحد في شبكة واحدة، وصار من الصعب لزعيم الشبكة الانفراد بزعامته نظرا الى بروز منافسين، فكان لا بد من ابقاء العصبية قائمة حتى مع تضخم حجم القبيلة. اما الوسيلة الاسهل للابقاء عليها فهي استخدام عنصر "التخويف من الآخر".
سياسة التخويف هذه يستخدمها حتى بعض الساسة الغربيين. في اوروبا هناك تخويف دائم من الوافدين المقيمين، خصوصا من الدول الاسلامية، وكذلك في الولايات المتحدة، على ان خطاب بث الذعر العنصري ما زال هامشيا، ولا يحوز على اكثر من حفنة مقاعد برلمانية يختلف عددها باختلاف الدول الغربية وتجاربها مع الهجرة.
اما في دنيا العرب، فخطاب بث الذعر الطائفي او العنصري هو في صميم "الديموقراطية" العربية. وحتى يستمر هذا التخويف، وبالتالي العصبية القبلية التي تنتج عنه، لا بد من الحفاظ على الاساطير المؤسسة لهذه الجماعات. 
من هذا القبيل، تتم استعادة اسباب الخلاف السني - الشيعي، على سبيل المثال، وهو خلاف عمره قرابة الفية ونصف، ولكن هذا الانقسام غالبا ما يعلو ويخفت، حسب حاجة ارباب القبائل، فهذا الخطاب تراجع كثيرا ابان صعود المشاعر القومية للدول العربية وايران وتركيا بداية القرن الماضي، ثم ما لبث ان عاد مع نهاية القرن لاسباب مختلفة.
والمفارقة في خطاب التخويف انه لا يلحظ اي انقلاب في الصورة. مثلا يحافظ الشيعة في لبنان على ادبيات المظلومية والمحرومية، على الرغم من انهم في طليعة المجموعة الحاكمة اليوم. كذلك يحاول التيار التابع للنائب ميشال عون الحفاظ على خطاب "الاحباط او التهميش" المسيحي، وغالبا ما يحاول الثأر لهذا "التهميش" من المجموعة السنية في لبنان، مع العلم ان لدى عون 10 وزراء في الحكومة منذ سنتين، فيما التيار السني التابع لرئيس الحكومة السابق سعد الحريري خارج الحكم، والحريري خارج البلد قسرا.
ان غياب المواطنين المتمتعين بالحرية الفردية مسخ الديموقراطيات العربية، ومنها اللبنانية، التي تسمي نفسها احيانا "ديموقراطيات توافقية"، وفي هذا تناقض لان الديموقراطية هي حكم الاكثرية فيما التوافقية هي الحكم بالاجماع. 
وغياب الحرية الفردية في لبنان قوّض مفهوم الانتخابات والبرلمان، الذي صار هامشيا مقارنة بالمجالس القبلية، كطاولة الحوار او لجنة مناقشة قانون الانتخابات، ما جعل الاتفاق القبلي شرطا لحصول الانتخابات البرلمانية او لاي عملية تصويت داخل مجلس النواب، وما جعل الخلاف القبلي سببا لعدم حصول الانتخابات، او حتى لاغلاق مجلس النواب بالكامل مثلاً في الاعوام 2006 و2007 و2008.
هذا الغياب للحرية الفردية قضى على الديموقراطية اللبنانية، ان وجدت، فالانتخابات وحدها في لبنان لا تحدد وجهة البلد سياسيا او اقتصاديا او استراتيجيا، بل صارت تحددها مجموعة عوامل قبلية مثل تعداد افراد القبيلة الطاغية، ونفوذها المالي، وقوتها المسلحة، التي تتقدم على مبادئ الديموقراطية البرلمانية.
وغياب الديموقراطية البرلمانية غيّب بدوره الخطاب الانتخابي المطلوب، والذي من المفترض ان يتركز على تقديم المرشحين المختلفين، فرادى او مؤتلفين، لرؤيتهم وخطتهم لمستقبل لبنان في المديين المتوسط والبعيد، والخطوات المطلوبة لادراك هذه الرؤى. كذلك انقلب الحوار في الجمهورية اللبنانية حفلات عتاب واتهامات وتخوين وتخويف وتحفيز طائفي ابتلع الدولة ومؤسساتها، كما المجتمع ومؤسساته، وصار يصعب معرفة كيف يمكن كسر الحلقة القبلية الطائفية والخروج منها الى ديموقراطية فعلية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق