الأحد، 3 فبراير 2013

مشكلة واشنطن التأرجح بين قوة بوش المجردة وثرثرة أوباما الدبلوماسية


حسين عبدالحسين

عندما هم الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر بالصعود إلى سيارة الرئاسة التي كان سيستقلها من البيت الأبيض إلى الكونغرس في ذلك الشتاء القارس من عام 1980، كان يعلم أن خطابه عن حال الاتحاد سيكون مفصليا لحظوظ فوزه بولاية ثانية.

كارتر، الذي يفاخر بأنه أثناء ولايته لم يقتل ولا حتى جندي أميركي واحد، قال في تلك الليلة بحزم إن الولايات المتحدة مستعدة لإرسال قواتها للدفاع عن منابع النفط في الخليج العربي في وجه أي تهديد عسكري سوفياتي. حزم كارتر المفاجئ جاء على أثر ثورة في إيران أطاحت بالشاه محمد رضا بهلوي، حليف أميركا، وفي أعقاب احتجاز 52 رهينة أميركيا وعملية عسكرية متعثرة فشلت في تحريرهم.

في ذلك العام، أطاح الأميركيون انتخابيا برئيسهم صاحب السياسة الخارجية الضعيفة والمترددة، وأخرجوا الحزب الديمقراطي من الحكم، وأحلوا محله منافسه المرشح الجمهوري رونالد ريغان، وهو ممثل سابق في هوليوود وحاكم سابق لولاية كاليفورنيا.

خلف ريغان جورج بوش الأب، الذي قاد أبرز انتصار عسكري أميركي في حرب الخليج الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، وأخرج من الذاكرة خسارات أميركا في كوريا وفيتنام، وعزز ثقة الأميركيين في قوتهم. لكن في عام 1992، أخرج الأميركيون بوش وحزبه الجمهوري من الرئاسة، واستبدلوا منافسه الديمقراطي بيل كلينتون به.

القاسم الوحيد المشترك بين كارتر الديمقراطي المهزوز دوليا وبوش الأب الجمهوري المتفوق خارجيا كان الاقتصاد المتعثر في حكم كل منهما، وهو ما حرم الرجلين من الفوز بولاية ثانية، وهو ما يثبت - من وجهة النظر الأميركية - أن الاقتصاد يتقدم على السياسة الخارجية بما لا يقاس، وهذا ما دفع كلينتون إلى التوجه خلال حملته الانتخابية إلى بوش الأب ومن خلفه أنصاره بتلك الجملة الشهيرة: «إنه الاقتصاد يا غبي».

الاقتصاد هو المحور الذي صب الرئيس باراك أوباما اهتمامه عليه في ولايته الأولى، فنجح في وقف الانهيار، وعاد الناتج المحلي إلى النمو، وانخفض معدل البطالة، وتقلص العجز السنوي في الموازنة، وانخفضت التكاليف المالية والبشرية الناتجة عن حرب العراق، التي أنهاها في عام 2011، وحرب أفغانستان، التي سينهيها العام المقبل، ففاز أوباما بولاية ثانية.

ومن يتأمل خطاب قسم أوباما الثاني يدرك أن الرئيس الأميركي يحكم بحسب استطلاعات الرأي، فالمحاور التي بنى خطابه عليها كانت كلها داخلية وتتمتع بتأييد غالبية الأميركيين، بينما ابتعد عن السياسة الخارجية، التي تظهر الاستطلاعات أن ثلاثة في المائة فقط من الأميركيين يتابعونها.

أوباما يدرك كذلك أن فترة حكمه تأتي بعد نهاية حرب، والأميركيون غالبا ما يتحولون إلى مزاج عزلة دولية بعد الحروب، وهو ما بدا جليا في حكمي الجمهوريين دوايت آيزنهاور الذي أنهى حرب كوريا خلال الخمسينات، وريتشارد نيكسون الذي أنهى حرب فيتنام في السبعينات.

أما الرؤساء الذين دخلوا في حروب تلت مباشرة حروبا سبقتها فساروا على عكس المزاج الأميركي القاضي بالانعزال في حينه، والأحدث بين هؤلاء الديمقراطيان هاري ترومان، الذي شن حرب كوريا في 1950 ولم تكد الحرب العالمية الثانية تلقي أوزارها، وليندون جونسون الذي توغل أكثر في حرب فيتنام. الأول خرج من الحكم وشعبيته في الحضيض، فيما الثاني أحجم عن الترشح لولاية ثانية في عام 1968 بسبب تدني شعبيته. في معترك السياسة الخارجية، يريد أوباما السير في ركب الجمهوريين آيزنهاور ونيكسون، لا الديمقراطيين ترومان وجونسون. لذا، نراه يرفض التدخل مع الفرنسيين في مالي، تماما كما رفض آيزنهاور التدخل مع الفرنسيين في فيتنام. وفي السياق نفسه يحجم أوباما عن التدخل في سوريا والشرق الأوسط عموما. لكن شعبية آيزنهاور الأميركية لا تتطابق مع ما خلّفه من أزمات عالمية، خصوصا شرق أوسطية، رافقت حكمه بين عامي 1953 و1959. ففي سوريا، شهدت الخمسينات انقلابات متوالية واضطرابات في الحكم لم تنته حتى بعد دخولها في وحدة مع مصر في عام 1958، وهو العام الذي شهد إطاحة العرش الهاشمي في العراق من قبل عبد الكريم قاسم المقرب من السوفيات، وهو العام نفسه الذي شهد اندلاع حرب أهلية وجيزة في لبنان بين حليف أميركا في حينه الرئيس السابق كميل شمعون من جهة وحلفاء عبد الناصر والسوفيات من جهة أخرى. بكلام آخر، شهدت فترة حكم آيزنهاور خسارة الغرب حلفاءه في لبنان وسوريا والعراق، وتقدم خصومه السوفيات، من دون أن يحرك ساكنا. وببقائه بعيدا عن أحداث الشرق الأوسط، تفادى آيزنهاور التكاليف الأميركية البشرية والمالية، وربما كسب ود الأميركيين، لكن انهيار الملكية في العراق جر في ما بعد حروبا لم تنته مضاعفاتها حتى اليوم. وكذلك في لبنان، حيث أدت التسوية المؤقتة في 1958 إلى حرب أهلية بعد أقل من عقدين. وفي سوريا، أنجبت سياسة قلة الاكتراث الأميركية في الخمسينات والستينات ديكتاتورية عسكرية ما زال السوريون يتناطحون مع طغيانها حتى اليوم، مع إمكانية نشوء تطرف ديني يحل مكانها في حال انهيارها.

هل إصلاح العالم وإدارته مسؤولية أميركا وحدها؟ على الأرجح لا. ولكن بصفتها صاحبة أقوى قوة عسكرية عرفتها البشرية فإنه «تأتي مع القوة مسؤولية»، بحسب التعبير الأميركي. ومشكلة أميركا مؤخرا هي أنها إما تذهب إلى حروب من دون خطة سياسية فتصبح وحشا كاسرا يدمر عشوائيا، أو تعتمد الدبلوماسية من دون التحضير ولو احتياطا لاستخدام قوتها العسكرية الجبارة، فتصبح مرجعية بليدة وثرثارة. أما رؤساء أميركا الذين يمجدهم التاريخ فهم من استخدموا القوة مقرونة بدبلوماسية، والعكس بالعكس. فأبراهام لينكولن حافظ على وحدة الولايات بقوة عسكرية كللها بمفاوضات سياسية مع الانفصاليين، وجون كيندي حرك صواريخه النووية في أزمة كوبا في الوقت نفسه الذي استقبل فيه دبلوماسيي السوفيات لنزع فتيل الأزمة، ورونالد ريغان زاد الإنفاق العسكري في «حرب النجوم» لكنه عقد أكثر من مؤتمر قمة مع نظيره السوفياتي ميخائيل غورباتشوف ووقع معاهدات تقليص الرؤوس النووية، وانتصر في «الحرب الباردة».

وهكذا، فإنه فيما ترتفع شعبية أوباما أميركيا، يبدو أن سياسته الخارجية تقتصر على كونها نقيض سياسة سلفه جورج بوش الابن التي كانت مبنية على القوة العسكرية وحدها. وفيما يتفق العالم أن سياسة القوة المجردة في زمن بوش كادت تكون كارثية، كذلك تبدو كارثية نقيضتها سياسة أوباما المبنية على الثرثرة الدبلوماسية وحدها، وهذا لسوء حظ العالم عموما، والشرق الأوسط خصوصا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق