الخميس، 9 مايو 2013

لماذا يخشى العرب التطبيع مع اسرائيل؟

بقلم حسين عبدالحسين - واشنطن

في الثقافة السياسية الاميركية تفادي الامور المعقدة يؤدي الى التعييب. ففي النقاش حول تضخم الدين العام، مثلا، يتحدث المسؤولون من الحزبين عن ضرورة تدارك المشكلة بدلا "من ركل القارورة الى اسفل الشارع"، اي تأجيلها للاجيال القادمة. 
في دنيا العرب، يكاد يكون هذا المفهوم الاميركي معكوسا. فالصراع مع اسرائيل، مثلا، مبني في الغالب على مفهوم صراع الاجيال، اي ان العرب ان لم يرموا اسرائيل في البحر اليوم، فيمكن الجيل القادم، او الذي يليه، او الذي بعده، ان يفعل ذلك. هكذا، لا مانع من بلوغ اول جيل فلسطيني من مواليد مخيمات اللجوء سن التقاعد. ولا مانع كذلك من ان هذا الجيل بأكمله، والاجيال التي تلته، تعيش في بؤس قل مثيله، وكأن الشقاء الفلسطيني قدر. 
في الاسابيع الماضية، عادت العملية السلمية الى الاضواء. وزير الخارجية الاميركي جون كيري يعتقد ان السلام فرصته لدخول التاريخ، كذلك قطر، التي تأمل ربما في دور قد يؤدي الى نقل مقر "جامعة الدول العربية" الى الدوحة. لكن هذا الاهتمام السياسي، المتكرر منذ عقود، يندر ان يقترن بنقاش عام عربي جدي حول المصالح العربية، خارج الخطابات الشعبوية، والشعارات، والمسلمات التي ترى ان اي سلام مع اسرائيل هو حكما في مصلحة الاسرائيليين، دون العرب.
في 65 عاما من الصراع، حصر العرب مصلحتهم باستعادة الارض. بساتين برتقال فلسطين، وعطرها، وشجر زيتونها وموزها، لم تكن ذات قيمة عاطفية فحسب، بل اقتصادية كذلك في زمن كانت معظم الدول تطمح لتحقيق الاكتفاء الذاتي. حتى الاسرائيليون بنوا تعاونيات زراعية. اما المطالبة بالقدس، فلم تكن لرمزيتها الدينية فقط، بل لاعتبارها نقطة مركزية في ربط المناطق الاقتصادية المختلفة. كذلك حيفا، كانت مرفأ اساسيا لا يمكن الاستغناء عنه.
لكن مع انتشار العولمة واستبدال معظم الاقتصادات فكرة التنويع والاكتفاء الذاتي بالتخصصية والتجارة، تراجعت اهمية الارض في الدول ذات المساحة الصغيرة نسبيا، حتى الاوروبية، وانحصر معظم الانتاج الغذائي العالمي بما يعرف بدول "سلال الخبز"، كأميركا والصين والبرازيل، وتخلت اسرائيل عن مزارعها التعاونية، واستبدلتها بصناعات غير ثقيلة وتكنولوجيا تعتمد على مواردها البشرية. 
ومع ان الارض لم تعد بنفس الاهمية المادية كما قبل عقود، لكنها تحولت الى غاية قائمة بذاتها لدى معظم الفلسطينيين والعرب، من جهة، ولدى المتطرفين من الاسرائيليين، كالمستوطنين، من جهة اخرى.
ومع مرور الوقت، تحول الصراع العربي الاسرائيلي بأكمله من مصلحي حيوي الى رمزي عاطفي، فبدلا من ان يسعى العرب الى تحسين وضع الفلسطينيين اينما وجدوا في معاشهم واقتصادهم، صاروا يصرون على بؤس الفلسطينيين في شتاتهم كثمن للتضحية في سبيل ارض لم تعد اهميتها مفهومة خارج المبادئ غير المادية مثل "الكرامة الوطنية"، و"العزة"، و"الكبرياء". ثم ادلت المفاهيم الشعبية بدلوها، فصار مطلوبا ان "لا ينسى" العرب مآسي الصراع، بدلا من العمل على تجاوز الماضي من اجل مستقبل افضل. 
كذلك ساهم الاسلام السياسي في تكريس اخراج الصراع مع اسرائيل من المادي الى المعنوي، فصارت اهم خطابات الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات تتمحور حول قيمة "الشهادة"، والثبات على طريق "الرباط"، فيما استعاد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين معركة حطين وصور نفسه على انه صلاح الدين آمر جيوش المسلمين. ولم يتخلف الاسلام الشيعي عن نظيره السني، فقال مرشد الثورة الايراني الراحل روح الله الخميني انه "اذا القى كل مسلم دلو ماء على اسرائيل ستزول من الوجود"، فيما تحدث السيد موسى الصدر عن ان "اسرائيل شر مطلق"، ودعا لقتالها بالاسنان والاظافر.
ولا شك في ان خلط الماورائي بالمادي، خصوصا في شؤون الدول، يحول المصالح الى عواطف، وشؤون الحكم الى خطابات، او حسب ما ينقل ولي نصر في كتابه عن ان احدهم ذهب ليناقش الخميني في تدهور الوضع الاقتصادي لايران بعد الثورة، فأجابه الاخير ان "الثورة لم تأت لتخفض سعر البطيخ". 
ولأن الصراع العربي - الاسرائيلي خرج من المعقول الى المتخيل، يندر ان يخوض العرب في نقاط الضعف والقوة عند الاسرائيليين، اوعندهم، في وقت تسود الخرافة في جوانب كثيرة، مثل تكرار الحديث عن "بروتوكولات حكماء صهيون"، واعتقاد ان اسرائيل تسعى للسيطرة على العالم بأكمله، او العربي منه على الاقل "من الفرات الى النيل"، في وقت بالكاد تقوى اسرائيل على تثبيت حدودها مع قطاع غزة واحتواء المليون ونصف مليون فلسطيني الذين يعيشون فيه.
ويغيب الحديث العقلاني العربي كذلك عن تقويم اسرائيل او الالتفات الى المؤشرات التي تجعل منها قوة بامكانها مواجهة العرب لفترة طويلة، في المدى المنظور، بسبب ارتفاع ناتجها المحلي، وتطور قطاعيها التربوي والعلمي، وتقدم صناعاتها التكنولوجية، والاهم من ذلك كله، مقدرة الاسرائيليين، على الرغم من تباين الثقافات بينهم بسبب شتاتهم، على بناء ديموقراطية تنظم اختلافاتهم بدلا من ان تفجرها في حروب أهلية متواصلة كجيرانهم الفلسطينيين والعرب الآخرين.
هكذا، من دون حسابات دقيقة، يتصور العرب ان عزلهم اسرائيل يصب في مصلحتهم، او ان عدم الاعتراف بوجودها، كاف لاخضاعها، من دون القيام بمراجعة جدوى المقاطعة القائمة منذ عقود، او جدوى عرقلة التطبيع كما في مصر والاردن.
ومعارضة التطبيع هي الاسوأ، فمعارضو التطبيع يعتقدون انه يمكن قبول سلام على مضض على مستوى الحكومات من دون الشعوب، وهذا يشي انهم لا يعتقدون ان حكوماتهم تمثلهم، اوانها منهم ولهم.
التطبيع بدوره يطرح السؤال التالي: لماذا يخشى 280 مليون عربي من تطبيع العلاقة مع خمسة ملايين اسرائيلي (يهودي)؟ وكيف يمكن الملايين الخمسة هؤلاء السيطرة، على اي صعيد ان كان ماليا ام ثقافيا ام سياسيا، على كل هؤلاء العرب؟ والاصح، ان من يجب ان يخشى التطبيع هم الاسرائيليون، فالحفاظ على طابع الاقلية ثقافيا ولغويا وحتى اقتصاديا، سيكون صعبا في حال ساد السلام على مستويين شعبي وحكومي بين اسرائيل والدول العربية.
لقد حان الوقت ليستبدل العرب مفاهيم "الكرامة" و"الاباء" و"حتى آخر شبر" بمفاهيم مثل "الحقوق المدنية"، و"الناتج المحلي" و"فرص العمل"، ووضع الصراع مع اسرائيل في ميزان المصالح بدلا من ميزان العواطف، فان كان حسم الصراع ممكن عسكريا في مدى قصير او متوسط، فليكن، وان كان مستحيلا، كما علمنا التاريخ، فلا ضير من سلوك الطرق الاخرى مثل السلام، حتى لو لم يكن مثاليا، لكنه قد يعطي العرب والفلسطينيين حياة فيها مقومات اكثر للعيش، وتاليا كرامة وشرف.

صحافي مقيم في واشنطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق