الثلاثاء، 23 يوليو 2013

بلاد النفط أوطاني

حسين عبدالحسين

يروي معلمنا الكبير المؤرخ الراحل كمال الصليبي أنه في العام 1914، أنشأ رجل أعمال أرمني يُدعى كالوست غولبنكيان "شركة النفط التركية" لاستخراج وتصدير النفط من الولايات العثمانية الثلاث في العراق. وكانت نحو نصف اسهم الشركة ملكاً لبريطانيا، وربعها يعود لشركة بريطانية - هولندية، والربع الاخير لـ "دويتشه بنك" الالماني. واحتفظ غولبنكيان بـ 5 في المئة لنفسه. 

شكلت اتفاقية الشركة الخطوط العريضة لاتفاقية سايكس بيكو في العام 1916، وتم تعديلها في مؤتمر "سان ريمو" باستبدال الالمان بالفرنسيين، مع ابقاء الاميركيين خارجها، ما دفع واشنطن الى رعاية موجة القومية العربية والاستقلال في وجه الانتداب، كما كان واضحاً في عمل لجنة "كينغ - كراين"، الى ان تراجعت بريطانيا في العام 1922، ومنحت اميركا نحو ربع الاسهم في الشركة. 

العام الماضي، صدر كتاب بعنوان "حرب الشفق" تحدث فيه الاميركي دايفيد كريست، ابن المؤسسة الدفاعية، بالتفصيل عن ثلاثين عاماً من العلاقة الاميركية الايرانية. يظهر الكتاب، بشكل واضح، أن المحرك الرئيسي لردة فعل اميركا نحو الثورة في ايران، في العام 1979، كان حماية منابع نفط الخليج من اي غزو سوفياتي محتمل على اثر انهيار الشاه ونشوء نظام اسلامي ضعيف عسكرياً وغير متوقعة ردة فعله سياسياً.

وبالاستناد الى وثائق رُفعت عنها السرية، بسبب مرور الزمن، يصوّر كريست ادارة الرئيس الاميركي السابق جيمي كارتر وكأن الثورة أخذتها على حين غرة، فراحت ترسم على وجه السرعة مخططات لتدخل عسكري سريع، وانشاء قوة من أجل ذلك، وهو ما عرف بـ "عقيدة كارتر". وتضمنت المخططات الاميركية استخدام اسلحة نووية تكتيكية، إن اقتضى الامر، لقطع طريق السوفيات شمال إيران.

مطلع الشهر الماضي، نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريراً أظهر أن الصين تستورد اكثر من نصف الانتاج اليومي العراقي للنفط البالغ ثلاثة مليون برميل. لفت التقرير النظر إلى البرامج التهكمية والسياسيين غير الجديين، من امثال المتمول الجمهوري دونالد ترامب، الذي اطل على شاشة فوكس نيوز ليقول: "أنفقنا ترليون ونصف تريليون دولار، وخسرنا الاف الارواح، ودمرنا بلداً، لكن الصين هي التي تأخذ النفط ونحن لا نأخذ شيئاً".

لكن التقرير لم يؤد الى اي نقاش جدي في الاوساط الاميركية، ما يدل على تغيير جذري، لا في السياسة الاميركية الخارجية والجيوستراتيجية فحسب، وإنما في العلاقات التجارية العالمية ككل، بما فيها السوق النفطية.

وما يؤكد التغيير الكبير في دور النفط جيوستراتيجياً هو تخلي شركة "اكسون موبيل" الاميركية عن عقد استخراج نفط، وهو الوحيد الذي فازت به شركة اميركية في العراق، والتزامها بدلاً منه بعقد مع حكومة كردستان العراقية. اما سبب تصرف "اكسون موبيل"، فمرده الى هامش الربح المتواضع، الذي يمنحه عقد الحكومة المركزية العراقية، مقابل الهامش الأكبر في كردستان، ما يشي بأن معظم شركات النفط العالمية تسعى الى الربحية، وتتعامل مع عقود الانتاج والتصدير من ناحية تجارية ربحية، لا من ناحية جيوستراتيجية، كما في الماضي.

كذلك فإن في انتاج النفط وتصديره مصلحة للجميع. الدولة المصدّرة تستخدم الاموال لتمويل موازناتها، والدول المستوردة تحتاج الى النفط لمواصلة وصناعاتها، والدول الصناعية لم تعد في الغرب فحسب، بل صارت في كل العالم، وصارت تتصدرها الصين في الاستهلاك البترولي. 

ختاماً، تشير معظم التقارير إلى انه بسبب تكنولوجيا استخراج النفط والغاز الصخري، من المرجح ان تتحول الولايات المتحدة الى اكبر منتجة ومصدرة لهاتين المادتين مع نهاية العقد الحالي، وإن اضفنا هذه المخزونات البترولية الاميركية الى احتياطات كندا، والبرازيل وفنزويلا، والآن القطب الشمالي، يتبين أن واشنطن باتت في غنى عن النفط الشرق اوسطي. فعلى الرغم من انخفاض تكلفة استخراج هذا، الا انه يأتي مع "وجعة رأس" يبدو ان واشنطن لا تريدها. 

لكل هذه الاسباب، لم ير الرئيس الأميركي باراك اوباما سبباً في ابقاء قوة اميركية، حتى لو صغيرة في العراق، بعد انسحاب قواته في نهاية 2011، واعتقد انها ستكون مكلفة سياسية من دون فوائد واضحة. بدلاً من ذلك، صادقت واشنطن رئيس الحكومة العراقي نوري المالكي، على الرغم من مؤشرات تدل على علاقة متينة يتمتع بها الاخير مع طهران.

وفي معرض دفاع الادارة عنه، قبل حوالي سنة، قال انتوني بلينكن، وهو كان يعمل حينذاك مستشاراً للأمن القومي لدى نائب الرئيس الأميركي جو بايدن ومكلف "ملف العراق" إن "المالكي يضخ النفط، ما يبقي السعر العالمي منخفضاً، ويسمح باخراج ايران من السوق النفطية (بسبب العقوبات)".

لطالما كان الاعتقاد السائد في دنيا العرب ان نفط المنطقة هو الذي يحدد سياسات القوة الكبرى تجاهها، والارجح ان هذا الاعتقاد كان صحيحاً الى ما قبل انتشار عولمة العرض والطلب. لكن اليوم، مع تحول النفط الى سلعة كباقي السلع في السوق العالمية، ومع وجود مصلحة لدى الجميع في ابقاء هذه السوق تعمل، لم يعد النفط عاملاً أساسياً في تحديد السياسات الكبرى، ما يعني ان الاهمية الجيواستراتيجية لبعض الدول العربية قد تتراجع، وهو ما قد يفسر برودة التعامل الاميركية مع وضع سوريا، وحتى العراق، على الرغم من حماوة المعركة في الإثنين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق