الجمعة، 8 أغسطس 2014

التاريخ للتاريخ أو تبقى داعش

حسين عبدالحسين

النقاش المندلع بين الصديقين إيلي خوري وحازم صاغية حول تاريخ المشرق شيّقٌ ويستأهل التعليق بالقول إن البعض يقوم أحياناً بتصوير حضارات العهود السحيقة وكأنها دول حديثة تواجهت في حروب حاسمة غيّرت مسار التاريخ. لكن الواقع غير ذلك.


صحيح أنّ بعض معارك التاريخ شكّلت انعطافات، لكن تلك الانعطافات أكبر في كتب التاريخ منها في الحقيقة، فالتغيير في اللغة والثقافة والمعاش والهوية والاقتصاد لا تحصل في معركة او اثنتين، والفتوحات الإسلامية تلت التعريب الذي كان بدأ في المشرق وليس العكس، في وقت يسجل التاريخ الكثير من المعارك المصيرية التي لم تؤدِّ الى تغييرات مجتمعية جذرية، فلا هولاكو فاتح بغداد استطاع نشر المنغولية، ولا العثمانيون نجحوا في نشر التركية على إثر فتوحاتهم التي تلتها خمسة قرون من حكمهم.


الحضارتان موضوع النقاش هنا هي العربية والفينيقية، إذ يعتقد البعض أن العروبة اكتسحت الفينيقية وقضت عليها وعلى التنوع. لكن حضارتي العرب وفينيقيا لم تتزامنا، وعندما وصلت الجيوش الإسلامية أطراف البادية السورية لم تواجه فينيقيين بل جيش من روم بيزنطية ربما كان قادته يتحدثون اليونانية فيما مقاتلوه يتحدثون اللهجات المحلية المحكية كالآرامية والسريانية والعربية. وهذا طبعاً على اعتبار أن الجيوش الاسلامية تواجهت فعليا في معارك حاسمة مع البيزنطيين في اليرموك ومع الفرس في القادسية في وقت يتحيّر المؤرخون في تثبيت تاريخ هاتين المعركتين وأحداثهما.


الحضارات لا تتواجه مثل الدول في معارك، بل تمتزج. ربما تطغى واحدة على الأخرى، لكن من الصعب أن تقضي عليها كلياً، والنتيجة، في حالة العروبة، عروبات متعددة بنكهات محلية، ولهجات محلية، ومآكل خاصة، وأساليب تصرف اجتماعي متباينة، وأذواق في الهندام مختلفة. أنا شخصياً ابن بيت عربي يجمع جذوراً فينيقية وما بين نهرية، ما سمح لي أن أرصد التشابه والتباين بين الحضارتين، ذلك التباين الذي قد يصل الى حد انقطاع التواصل إذا لم يتنبّه المتحدث الى تلطيف عباراته ليفهمها مستمعه.


وذات مرة اعتقد قريبٌ عراقي لي أن عبارة "بكرا عبكرا" اللبنانية تعني بعد يومين من اليوم، فيما يردد اللبنانيون أغنية كاظم الساهر بالقول "عبرت الشط علموجك" لاعتقادهم أنه يغني عن شاطئ البحر وأمواجه فيما المغني العراقي يقصد بالشط ضفة النهر ويستخدم كلمة "علمودك" العراقية التي تعني "من أجلك".


من الاعتقادات الأخرى السائدة واحدٌ يصور الحضارات السحيقة وكأنها صورة متكاملة؛ مثلاً، عندما يتباهى فرعونيو مصر بحضارة عمرها بضعة آلاف السنوات يغفلون أن هذه مدة كفيلة بإحداث تغييرات عميقة، فالفراعنة الأوائل غير الأخيرين، إنْ في اللغة أو الثقافة أو المعتقد، على الرغم من التشابه الذي تحافظ عليه الأجيال.


والحضارات على شكل دول هي فكرة حديثة نسبية اقترنت بظهور فكرة الدولة القومية التي استندت في تأسيسها، وخصوصاً من دون الكنيسة والشرعية الإلهية، الى قصص القدماء، حيث بعضها واقعيّ وبعضها الآخر خيالي.


وعندما وصلت ريح الدولة القومية المشرق العربي، راحت كل من الدول، وفيما بعد الأحزاب العابرة لدولة أو اثنتين أو أكثر، تستنبط أساطيرها لتؤسس دولها عليها، وحلَّ في الصدارة اللبنانيون وفينيقيتهم، وتلاهم العراقيون وما بين نهريتهم. أما أكبر المفارقات فتتمثل في أن العروبيين الذين عارضوا التقسيم وسايكس بيكو وأصرّوا على الوحدة العربية، حوّلوا فلسطين، التي خلقتها اتفاقية سايكس بيكو نفسها، الى طوطما أرادوه جامعاً، لكنه في الواقع كرّس الاتفاقية والتقسيم.


الحضارة العربية لم تلغِ الحضارات التي سبقتها، بل تصرفت كما تصرف مَنْ قبلَها، انتشرت، اقتبست، وامتزجت.


آثار بعلبك قد تكون أحد أبرز الأمثلة على توالي الحضارات وامتزاجها، فما يُعرف اليوم بقلعة بعلبك هي بناء روماني قائم فوق بناء فينيقي أقدم منه. والبناء الحالي روماني بنكهة محلية إذ تزِّين بعض زواياه قصة أدونيس، أو أدوناي أو سيدي أو ربّي، الذي صرعه الخنزير وعاد الى الحياة من الموت، فيما يزدان مدخل معبد إله الخَمر باخوس، المشيد قبل المسيح، ببيض عيد الفصح، ويزدان سقف المعبد بالنجمة السداسية المعروفة بنجمة داود.


وبعدما انقلبت الإمبراطورية الرومانية الى المسيحية في عهد قسطنطين الكبير في القرن الرابع، شيد المسيحيون الأوائل كنيسة مازالت قائمة آثارها في الباحة المؤدية الى جوبيتر، وفي وقت لاحق، وصل المسلمون وشيدوا جامعاً ملاصقاً لمعبد الخَمر.


هكذا هي الحضارات، تتخالف وتتآلف وتتوارث. أما من يعيش منها ومن يموت فيرتبط بعوامل داروينية اجتماعية، فاللغة التي تستمر هي التي تساير العصر وتتطور وتفيد المتحدثين بها، والمجموعة التي تتوسع هي التي يزداد عدد أفرادها وتتراكم أموالهم فيتعاظم نفوذهم وتنتشر طرق عبادتهم وتسود عاداتهم وطبائعهم، من دون ان تستبدل ما سبقها، فتتلقفها وتجعلها جزءاً منها.


وهنا قد يفيد التذكير أنّ الحجّ الى مكة لدى المسلمين طقس سابق للدعوة الإسلامية، كما ممارسات أخرى كثيرة، بعضها رفد الإسلام رسمياً وبعضها أصبح جزءاً من الدين من خارج التعاليم مثل قصة المعراج.
الفينيقيون وأبجديتهم، والبيزنطيون ورومهم، والآراميون وأَلِفهم المحكية المكسورة، والعرب وأعرابهم، والمماليك وأشرفيتهم وحازميتهم ومنصوريتهم، والمصريون ومصرياتهم، كلهم يعيشون داخل العروبة بشكلها اللبناني.


والوطن اللبناني، مرحلياً كان أم نهائياً، لا يحتاج لأساطير مؤسِّسة، بل الى عقد اجتماعي واضح يمنح الحرية للأفراد ويضمن المساواة بينهم، لا بين مجموعاتهم، وهذا من شأنه أن يترك كل فرد أو مجموعة تحتفل بتراثها، الحقيقي أو المتخيَّل، على مزاجها، من دون أن يؤثّر ذلك في أمن البلاد أو اقتصادها أو تماسكها أو ثباتها.


هذه أوروبا، حاولت الوحدة، فيما بعض الأقاليم تسعى للانفصال. لكن هل تنفصل كاتالونيا بسبب التاريخ واللغة أم بسبب البحبوحة التي تتمتع بها والتي ترفض مشاركتها مع الأقاليم الأخرى داخل الوطن الاسباني الأقل غنى؟ ولو كانت كاتالونيا هي الأفقر والتي تعتاش من أموال الحكومة المركزية، هل كانت آثرت الانفصال كرمى لعيون التاريخ؟


أما داعش، فهو تجلٍّ للفشل في التمييز بين الاساطير المؤسِّسة للدول وبين الاعتقاد الخاطئ بأنه يمكن تكرار التاريخ والعيش داخله. داعش ستنجلي يوماً، ولكن من دون أن تسود فكرة "التاريخ للتاريخ" ستقوم داعش أخرى، إسلامية أو عروبية أو فينيقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق