الجمعة، 3 يوليو 2015

“سايكس – بيكو “.. إلى دائرة الضوء

واشنطن - حسين عبدالحسين

اعادت الخطوة المهزلة التي أقدم عليها تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” (داعش) بحذف السواتر الترابية الفاصلة على الحدود العراقية – السورية النقاش الى الواجهة حول سايكس-بيكو، الاتفاقية الفرنسية البريطانية التي أسست لرسم دول المشرق العربي في حدودها الحالية بعد الحرب العالمية الاولى. لكن كما في الماضي، كذلك اليوم، مايزال النقاش حول الحدود الكولونيالية وتعارضها او توافقها مع الواقع مفعما بالاخطاء.
ابرز الاخطاء هي تلك التي تعتبر ان المنطقة العربية كانت وطنا واحدا موحدا لا حدود داخله الى ان قام الكولونياليون برسم الحدود الحالية، فبلاد الشام والجزيرة والفرات الاوسط والاهوار والجزيرة العربية تسكنها قبائل وعشار منذ القدم.
وفي العرف القبلي، لكل عشيرة ديرتها المعروفة مضاربها وحدودها. وبين العشائر، وخصوصا التي تنحدر من اجداد مشتركين، مناطق مشتركة، أي انها في الغالب مهجورة ولكن تتفق عشيرتان او أكثر على الاقامة فيها والسماح لماشيتها بالرعي في موسم الزرع.
وفي العرف القبلي ايضا، عندما تغزو عشيرة أخرى، ويبايع من تم غزوهم الغازين، غالبا ما تحصل مصالحة بين العشيرتين ومصاهرة، في تلك الحالة، تصبح ديرة العشيرة التي تعرضت للغزو جزء من ديرة العشيرة الغازية.
وعندما أرادت بريطانيا وفرنسا تقاسم المناطق التي غنمتها من السلطنة العثمانية على اثر الحرب العالمية الاولى، حاول الكولونياليون مراعاة شروط ثلاثة. أولى الشروط كان يتمحور حول الحفاظ على مصالح كل من الامبراطوريتين، وفي صدارة المصالح كان ايصال نفط البصرة الى بريطانيا عن طريق مرفأ حيفا، ونفط الموصل الى فرنسا عن طريق مرفأ طرابلس. هكذا، حدد خطي انبوبي النفط هذين رسم منطقتي نفوذ ما عرف بالمنطقتين ألف وباء، حسب المؤرخ اللبناني الراحل كمال الصليبي.
وحتى تضمن كل من بريطانيا وفرنسا أمن انبوبيهما النفطي، كان لا بد من اقامة دول او دويلات صديقة لكل من هاتين الدولتين تضمنان أمن تدفق النفط.
الشرط الثاني الذي حاولت كل من الامبراطوريتين مراعاته هو مكافأة الحلفاء العرب ممن قاتلوا الى جانب دول المحور ضد السطنة العثمانية، والحلفاء هؤلاء لم يكونوا دائما اصدقاء فيما بينهم، وكان بعض الحلفاء من الاقليات ممن يصعب ان يشكلوا غالبية في دول ليحكمونها.
فرنسا اعتقدت انه – بالنظر الى التنوع المذهبي الكبير في مناطق نفوذها في كردستان العراق والجزيرة والشام ولبنان، كان لا بد من مصادقة أكبر الاقليات على حساب الغالبية السنية، التي لم تكن كتلة واحدة هي الآخرى. هكذا، اقامت فرنسا ست دويلات في مناطق نفوذها هي دولة لبنان المسيحية، ودولة جبل العرب الدرزية جنوب سوريا، ودولة اللاذقية العلوية شمال غرب سوريا، ودولة حلب السنية (من ضمنها الموصل) شمال سوريا، ودولة دمشق السنية وسط سوريا. وكانت المنافسة بين حلب ودمشق السنيتين منافسة قديمة بنى عليها الفرنسيون تقسيماتهم. وفي اقصى الشمال الغربي السوري، اقامت فرنسا لواء الاسكندرونة الذي شكل فيه الترك أكبر الاقليات، ولكن كان يمكن تشكيل تحالف غالبية من الاقليات الباقية ضدهم.
اما بريطانيا، فأقامت ثلاث دول كبيرة نسبيا كافأت فيها حلفاءها: الحركة الصهيونية في فلسطين، والأسرة الهاشمية في العراق والأردن. وربما بسبب نزعات الهاشميين العروبية، اضافت بريطانيا محافظات كانت ديارا لعشائر متحالفة مع لندن، مثل محافظة الدليم العراقية، التابعة لعشيرة الدليم، والتي حول اسمها البعثيون لاحقا الى محافظة الانبار لضعضعة هذا التماسك العشائري غرب البلاد.
والدساتير التي اشرفت على كتابتها بريطانيا، مثل في العراق، أعطت بموجبها صلاحيات واسعة ونفوذا للعشائر، ربما لانشاء توازن في وجه حلفائها الآخرين من الحكام في بغداد وعمان.
لكن على الرغم من كل هذه الخطط، اصطدمت فرنسا وبريطانيا بعقبات على أرض الواقع اجبرتاها على تعديل خططهما الاساسية، اذ ثبت انه يصعب اخضاع عشيرتي شمر والجحيش الى حكم حلب، فتخلت فرنسا عن الموصل واصبحت منابعها النفطية في عهدة البريطانيين. وفي الاسكندرونة، أظهر الاتراك تنظيما سياسيا وديبلوماسيا دوليا تفوق على الاقليات الاخرى صديقة فرنسا، فانتزعت تركيا “اللواء السليب” الذي تبلغ مساحته نصف مساحة لبنان.
وفي سوريا، رفض الدروز كم دولتهم وقاموا بانتفاضة امتدت الى دمشق، واجبروا الفرنسيين على قبول الوحدة بين الدويلتين. ثم انضمت حلب الى حوران ودمشق، ولم تنجح فرنسا في الدفاع عن استقلالية العلويين، فتحولت الدوليات الاربعة الى سوريا بشكلها الحالي.
واختلفت فرنسا مع بريطانيا حول رسم حدود لبنان مع فلسطين، فالحركة الصهيونية حاولت جعل نهر الليطاني حدودا فاصلة، فيما رفض موارنة لبنان ذلك واصروا على رسم الحدود مطابقة للخط الذي يفصل الغالبية السنية شمال فلسطين عن غير السنة جنوب لبنان. حتى بعدما رسمت سلطتا الانتداب الحدود اللبنانية – الفلسطينية، أبقت سبعة قرى شيعية في فلسطين، ما جعل هذه القرى تتميز مذهبيا، وما جعل الحكومة اللبنانية تصر على المطالبة بها حتى اليوم على انها جزء من لبنان.
ولم تكن مهمة البريطانيين في مناطقهم أكثر سهولة من الفرنسيين، فمؤسس السعودية الملك الراحل عبدالعزيز كان أخذ مبايعة عشيرة شمر في حائل شمال السعودية، وديرة هذه العشيرة تمتد حتى الحدود العراقية والسورية مع تركيا. وحسب العرف القبلي، كان يفترض ان تكون الاراض غرب العراق وشرق سوريا تحت سيادة سعودية، لكن الكولونياليين عارضوا ذلك لانه يضع انبوبي نفط الموصل والبصرة خارج سيطرتهم، فلم تحصل السعودية على اراض شمر ومنحت جوازاتها لكثيرين من افراد هذه القبائل المتحالفة معها عوضا عن ذلك، حتى لو بقي هؤلاء السعوديوة يعيشون في العراق وسوريا.
وفي مناطق اخرى، اجبرت الترتيبات العشائرية البريطانيين على الدخول في تسوية مع السعودية، فكان انشاء المنطقة المحايدة بين السعودية والعراق البريطاني، وتمت اقامة منطقة مشابهة بين السعودية والكويت البريطانية كذلك، ورفض البريطانيون ترسيم بعض اجزاء الحدود السعودية – الاردنية.
التاريخ الطويل الذي رافق رسم حدود دول المشرق العربي، والتعديلات المتعددة التي طالت تلك العملية التي فرضتها وقائع سياسية وعشائرية وعسكرية على الأرض، فضلا عن موازين قوى ديبلوماسية دولية (مثل في حالة لواء الاسكندرونة)، هو تاريخ لا يجوز تقزيمه واختصاره على انه كان نتيجة رغبات – او حتى نزوات – حفنة من الموظفين او الديبلوماسيين البريطانيين او الفرنسيين.
ان الوصول الى الحدود الحالية لدول الشرق الاوسط كان نتيجة عوامل كثيرة، بعضها عشائري قديم وبعضها الآخر كولونيالي مستحدث وبعضها الآخير حديث.
بريطانيا وفرنسا، كامبراطوريات قبلها وبعدها، ساهمت في نشوء الدول العربية في شكلها الحالي، ولكنها لم تنفرد في عملية خلق هذه الدول. اما الاصرار على أن الكولونياليين هم وحدهم من تفردوا برسم حدود العرب والتلاعب في مصيرهم فهو أمر ينتقص من العرب أنفسهم ومن دورهم في عملية تحديد مصيرهم ورسم حدودهم. صحيح ان العرب لم ينفردوا في عملية تشكيل دولهم، لكنهم لم يكونوا غائبين عنه كذلك.
اما من يعتقد ان اراض العرب كانت صحراء قاحلة اكتشفها الغربيون ورسموا حدودها واقاموا دولها، فهم المستشرقون الكولونياليون أنفسهم ومن يصدقهم من الأميين العرب ممن تمسكوا بروايات معاداة الامبريالية، وهي روايات خشبية جاءت كردة فعل على روايات امبريالية احادية الرؤية وناقصة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق