الجمعة، 3 يوليو 2015

إيران ونموذجها في الحكم: الميليشيات الشعبية مثالا

واشنطن - حسين عبدالحسين

ينقل الزميل غسان شربل عن أنيس النقّاش، انه ابان نجاح الثورة في إيران في العام ١٩٧٩، اقترح النقّاش على السلطات الثورية الايرانية انشاء مجموعة مسلحة لحماية الثورة من امكانية قيام ضباط في الجيش، كانوا يوالون الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي، بتنظيم صفوفهم والانقضاض على الثورة والثوار. ويروي النقّاش انه هو من أطلق تسمية “الحرس الثوري” على المجموعات التي تم تجنيد عناصرها من شباب مؤيدين للثورة من خارج القوات الامنية الايرانية النظامية. وبشكل مواز، تمت إقامة منظمة حشد المستضعفين” الميليشيا التابعة للنظام الإيراني والمعروفة بالباسيدج.
والسيد النقّاش سبق ان عمل في صفوف “الثورة الفلسطينية”، وهو كان الثاني بعد كارلوس في الفريق الذي قاد عملية اختطاف وزراء اوبيك في فيينا في العام 1975. وعلى الرغم من علاقته بكارلوس و”الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” بقيادة جورج حبش، كان النقّاش يعمل لدى الرجل الثاني في “حركة التحرير الفلسطينية” (فتح) خليل الوزير، أبو جهاد. وكان زعيم فتح ياسر عرفات كلف أبي جهاد بالإشراف على تدريب الفصائل الايرانية المعارضة، ويبدو ان الاخير كلّف النقّاش مهمة التنسيق مع الايرانيين، فنشأت صداقة بين الاثنين. ويقول البعض ان قائد “حزب الله” العسكري عماد مغنية، الذي اغتيل في دمشق، كان في فريق أبي جهاد والنقّاش كذلك. وأدت الصداقة بين النقّاش والسلطات الثورية الايرانية الى قيامه بتنظيم عملية اغتيال فاشلة في باريس ضد رئيس الحكومة الايراني السابق شهبور بختيار.
هكذا، ساهمت الفصائل الفلسطينية المسلحة في تشكيل القوة الثورية الايرانية الفتية، التي يبدو ان نموذج الميليشيات غير النظامية طاب لها، فاعتمدته اساسا للحكم في الجمهورية الاسلامية الايرانية، على حساب الجيش الايراني والقوى الأمنية النظامية، حتى بعد أكثر من ربع قرن على تسلم الثوريين الايرانيين زمام الحكم والحكومة.
في وقت لاحق، عمدت إيران الثورية الى تصدير نموذج الميليشيات الذي ورثته عن الفصائل الفلسطينية، فأشرفت على انشاء “حزب الله” في لبنان، ونقلت النموذج الى مجموعات عراقية معارضة للرئيس العراقي الراحل صدام حسين كانت تستضيفها إيران اثناء حربها مع العراق. وبعد انهيار نظام صدام، عادت الميليشيات العراقية الموالية لإيران وعملت على الاستيلاء على الحكم في بغداد، وهي عملية مازالت جارية منذ العام ٢٠٠٣.
كما عمدت إيران على نسخ نموذجها الميليشيوي في اليمن، فاجتاح الحوثيون صنعاء ليستبدلوا حكم الحكومة الرسمية بسيطرتهم وحكمهم غير النظامي. وكما في لبنان والعراق واليمن، تحاول إيران نقل تجربة القوة الميليشيوية الى سوريا.
ويقول المقربون من طهران عنها اعتقادها ان سبب تعويل إيران على الميليشيات غير النظامية، بدلا من القوات النظامية التابعة لحكومات وهيكلية علنية ومفهومة، هو ان “الميليشيات عقائدية”، ما يجعلها متفانية أكثر في اي مواجهات مسلحة وقتالية قد تخوضها. ويضرب المقربون من طهران المثال بما حصل في العراق، ويقولون ان الجيش العراقي الذي يأتمر بأوامر حكومة يسيطر عليها سياسيون شيعة متحالفون مع طهران، انهار اثناء المواجهات مع تنظيم “الدولة الاسلامية في العراق والشام” (داعش) في الموصل في حزيران (يونيو) الماضي، وفي الرمادي قبل اسابيع، فيما الميليشيات غير النظامية، مثل “الحشد الشعبي” الشيعية، أظهرت اداء أقوى في قتالها مع داعش في بلدات آمرلي وتكريت.
وتفضيل إيران للقوات غير النظامية على القوات الحكومية دفع طهران الى تقويض حلفائها، اذ انه من المفهوم ان تدعم إيران ميليشيات في لبنان واليمن، حيث الحكومات الرسمية غير حليفة لطهران، ولكن من غير المفهوم لماذا تقوم طهران بتقويض جيوش أقرب حلفائها، مثل في سوريا والعراق.
في سوريا، حيث نظام بشار الأسد حليف إيران الاول وحيث جيشه الروسي-التدريب والذي يتمتع بقوات نخبة وسلاح طيران وفرق مدرعة، عمدت إيران – منذ اليوم لاندلاع الثورة السورية المطالبة برحيل الاسد – الى خلق وتدريب وتسليح وتمويل ما أطلقت عليه اسم “الجيش الشعبي”، وهو فرق مقاتلة مؤلفة من علويين غالبهم كانوا من اللصوص وقطاعي الطرق في زمن قبل الثورة. ورفدت إيران “الجيش الشعبي” بوحدات من “حزب الله” اللبناني العالي التدريب.
لكن الشيعة يشكلون ربع سكان لبنان البالغ عددهم أربع ملايين، فيما يشكل العلويون مليونين من أصل ١٣ مليون سوري، ما يعني ان الشيعة والعلويين سوية في لبنان وسوريا يعانون من اختلال في العدد لمصلحة خصومهم السنّة.
ويبدو انه في المرحلة الاولى، اعتقدت إيران والأسد و”حزب الله” انه يمكن للتفوق في القوة العسكرية ان يرجح كفتهم حتى في ضوء تأخرهم عدديا، لكن مرور الاسابيع والأشهر اظهر ان الأسد و”حزب الله” صاروا يعانون من مشكلة في تجنيد شباب في عمر القتال، ما دفع طهران الى تجنيد شيعة عراقيين وافغان ودفعهم الى المحرقة السورية لتعويض النقص العددي الشيعي والعلوي في سوريا ولبنان.
وبعدما شهدت أول سنتين للثورة السورية دورا كبيرا لقوات النخبة التابعة للأسد، مثل الفرقة الرابعة التابعة لأخيه ماهر، انقلب المشهد في السنتين الاخيرتين، فراح الأسد يتقهقر ويتراجع، وأصبحت القوات المواجهة للثوار السوريين ميليشيات غير نظامية تشير تقارير صادرة عن وسائل اعلامية قريبة من طهران انها بأمره “قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الايراني” الجنرال قاسم سليماني.
وكما في سوريا، كذلك في العراق، أبدت إيران تأييدا أكبر لميليشيا “الحشد الشعبي” على حساب حليفيها، رئيس الحكومة السابق نوري المالكي وخلفه حيدر العبادي. وبدلا من ان تراهن إيران على الجيش العراقي، ذو الغالبية الشيعية والذي انفقت الولايات المتحدة مليارات الدولارات على تدريبه وتسليحه، آثرت طهران تدريب وتسليح وتمويل “الحشد الشعبي”، بل أوعزت للحكومة العراقية فتح مخازن اسلحتها الاميركية للميليشيا المذكورة.
وبدلا من يكون في الصورة كبار الضباط العراقيين، صارت صور استعادة الحكومة العراقية لمناطق من ايدي مقاتلي داعش تتصدرها صورة الجنرال سليماني نفسه، الذي يبدو انه صار يمضي ايامه متنقلا عبر مساحة جغرافية واسعة تتراوح بين طهران وبيروت لمنع انهيار هنا او الإشراف على استعادة مساحات هناك.
ومع انحسار صورة القوات النظامية في سوريا والعراق، تماما كما انحسرت قبل زمن طويل صورة ضباط الجيش اللبناني النظامي مقابل سيطرة “حزب الله” على كل مرافق الامن في لبنان، الداخلي والخارجي، مترافقة مع هيمنة الحزب على السياسة الخارجية للبنان، بدأت صورة ضباط الجيشين السوري والعراقي تختفي من الاعلام ومن دوائر القرار، مفسحة في المجال امام قادة الميليشيات في البلدين.
هكذا، لم يعد لبشار الأسد أهمية في سوريا واحداثها، بل صارت الامور في ايدي ابو شهد، قائد “لواء ذوالفقار” العراقي في دمشق. وفي العراق، تراجعت اهمية “السيد رئيس مجلس الوزراء”، وصار “ابو جعفر” قائد ميليشيا “جند الامام” وابو مهدي” الرجل الثاني في قيادة الميليشيات العراقية بعد سليماني، هما صاحبا الحل والربط في البلاد.
فات إيران هو انها عندما تقوض دور الدولة والحكومة الشرعية، فهي بذلك تطلق العنان، لا للميليشيات الشيعية وحدها، وانما لكل انواع الميليشيات، وفي طليعتها داعش. كذلك، من غير المفهوم لماذا تعتقد إيران ان ميليشياتها هي الوحيدة التي تقاتل بدافع عقائدي، فان كان “الحشد الشعبي” مدفوعا برواية دينية ما، فكذلك لداعش روايتها.
وفي وقت تعتقد طهران ان اداء القوات غير النظامية يتمتع بـ “خفّة” تسمح لها الاختباء بسرعة بين السكان ثم الظهور فجأة والقتال، فان هذا التفوق مشروط بالمناطق التي تقاتل فيها هذه الميليشيات، فان كانت تقاتل على أرضها وبين أهلها، فهي لا شك تتمتع بأفضلية على جيش نظامي غاز، ولكن هذه الميليشيات نفسها عندما تغزو مناطق بعيدة عن مناطق نشأتها، مثل “حزب الله” في سوريا او “جند الله” في صنعاء، فهي تتحول الى جيش نظامي بحاجة الى خطوط تموين وامداد واماكن اقامة للمقاتلين، وتعاني من حربها في مواجهة سكان محليين يتمتعون بأفضلية القتال على أرضهم وبين اهلهم.
لم يفطن المسؤولون الايرانيون ان الحكومات التي تتمتع بشراكة حقيقية بين المكونات السكانية هي الضمانة الأقوى لأمن كل السكان، وانه لا يمكن لأي فئة من هؤلاء السكان الهيمنة على اخرى عبر نموذج “الميليشيات” غير النظامية، الذي غالبا ما يتباهى به المسؤولون الايرانيون ويتباهون انهم نجحوا في نقله الى عواصم عربية أربع يعتقدون انهم صاروا يسيطروا عليها.
ولم يفطن المسؤولون الايرانيون ان اقامة حكومات وانشاء جيوش نظامية منضبطة ذات تراتبية قيادية تخضع لمسؤولية محددة ومعروفة هو أمر أصعب بكثير من انشاء ميليشيات تأتمر بأمر زعماء عصابات يغطون وجوههم هربا من المسؤولية.
ولم يفطن المسؤولون الايرانيون انهم عندما يقوضون الدولة، ويسعون لاستبدال سيادتها وسلطتها بسيادة وسلطة ميليشيات، فان بعض هذه الميليشيات سيكون مواليا لإيران وبعضها الآخر معاد لها. كذلك، لا يبدو ان المسؤولين في طهران يدركون انه عندما تنفلت الامور وتتحول الى قتال ميليشيوي من دون قوانين، يصبح ضبط المعركة أو وقفها أصعب، وتتحول الحرب من وسيلة للكسب في السياسة الى ملحمة ذات نتائج دموية، يسيرها حقد اعمى قد يصل إيران نفسها مستقبلا، فيجد ملالي طهران أنفسهم في موقف يصعب عليهم السيطرة عليه، او القضاء على وحش دموي خلقوه، او تدمير نموذج سيء في الحكم تباهوا به يوما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق