الجمعة، 3 يوليو 2015

القتال حتى آخر عربي: إيران وحلم “الخليج الفارسي الأوسع”

واشنطن - حسين عبدالحسين

الأقليات المذهبية في الشرق الأوسط تتشابه في سلوكها السياسي. في العام 2008، شن “حزب الله” اللبناني حملة عسكرية تأديبية ضد خصومه من السنة في بيروت والدروز في جبل لبنان. ومع أن الدروز أظهروا بأسا في القتال والحقوا بمقاتلي الحزب خسائر لم تكن متوقعة، أطل زعيمهم النائب وليد جنبلاط يرجوهم ان يتوقفوا عن القتال. منذ ذلك التاريخ، عقد جنبلاط صلح مع شيعة لبنان تخلى بموجبه عن أي قدرة له على التأثير في سياسات لبنان الأمنية والخارجية، مقابل احتفاظ الدروز ببعض الحرية الذاتية في مناطقهم، واحتفاظ جنبلاط بحرية الادلاء بمواقف سياسية متنوعة، مثل معارضته للحزب في مواقفه الإقليمية وخصوصا تجاه سوريا.
وعندما اندلعت الثورة السورية في ربيع العام 2011، اعتقد باحثون – منهم كاتب هذه السطور – ان الأسد زعيم الأقلية العلوية الحاكمة في سوريا، سيظهر دموية هائلة في الأشهر الأولى، فاذا لم ينجح في وقف التظاهرات، يتراجع ويدخل في تسوية سياسية مع الغالبية السنية. لكن الأسد لم يفعل ما فعله قبله جاره جنبلاط، زعيم الأقلية الدرزية، بل أخذ العلويين نحو حرب استنزاف مع السنة، وهذه حرب تكرهها الأقليات عادة وتحاول تفاديها.
بعد فترة، انشق الرجل الثاني في السفارة السورية في واشنطن بسام بربندي، وكشف في مقالة نشرها على موقع مركز أبحاث “مجلس الأطلسي” انه في الأشهر الأولى التي تلت اندلاع الثورة السورية، أيقن الأسد انه ليس في مصلحة الأقلية العلوية الاستمرار في لعبة الثأر والدماء مع غالبية السوريين من السنة، حسبما سبق ان توقع البعض. لكن على عكس التوقعات، لم يتراجع الأسد، اما السبب، يقول بربندي، فهو وصول مستشار مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي سعيد جليلي الى العاصمة السورية ولقائه مسؤوليها. وكان بربندي وقتذاك ما يزال ديبلوماسيا عاملا في وزارة الخارجية السورية.
ربما كان الأسد كان على وشك الدخول في تسوية إقليمية كانت مطروحة امامه، يتخلى بموجبها عن بعض صلاحياته ويتقاسم بعض الحكم مع معارضيه السنة. وكان الأسد أبدى في هذا السياق بعض الليونة، وأرسل نائبه فاروق الشرع ليرعى مؤتمر ما يسمى “معارضة الداخل”.
ربما كان الأسد يناور، لكن تلك الليونة التي أظهرها في بادئ الأمر اختفت بعد ذلك، وتزامن ذلك مع بدء دخول طلائع مقاتلي “حزب الله” اللبناني سوريا، ومشاركتهم بداية في قمع المتظاهرين السلميين. وبعد ذلك بقليل، بدأ المقاتلون العراقيون يفدون سوريا ويشاركون في الاعمال القتالية التي كانت تسير في منحى تصاعدي متسارع.
ويقول بربندي أن جليلي طلب من الأسد ان لا يتراجع أبدا، وان لا يقدم أي تنازلات لأي معارضين. ووعد المسؤول الإيراني مضيفه السوري بأن طهران يمكنها ان تتكفل بعملية انهاء التمرد السوري، وإعادة الأمور الى ما كانت عليه قبل آذار (مارس) 2011.
ربما اعتقد جليلي وقتذاك انه يمكن تكرار سيناريو قيام السلطات الإيرانية بقمع الثورة الخضراء، التي اندلعت في إيران في صيف العام 2009، من دون ان تقدم حكومة إيران أي تنازلات، ومع تمسك النظام الإيراني بإعادة انتخاب الرئيس السابق محمود احمدي نجاد، على جثث واشلاء متظاهرين إيرانيين تمت تصفيتهم في الشوارع وامام أعين العالم.
لكن سوريا ليست إيران. ففي سوريا، يختلف الميزان الديموغرافي والمذهبي ويتنوع، وفيها يعتمد حكم آل الأسد، حسبما شيده والد بشار الراحل حافظ، على اتفاق النظام الحاكم مع الجزء الأكبر من غالبية المجموعات المذهبية والعشائر المختلفة، وإرهاب الأقلية القليلة التي لا تمتثل لحكم الأسد.
في العام 2011، في الغالب بسبب رعونة الأسد الابن، “انكسرت الجرة” بين السوريين وآل الأسد، حسب التعبير العامي المستخدم. لكن جليلي، ومن أرسله من طهران، لا يبدو انهم أدركوا ماهية الأسس التي كان النظام السوري يقوم عليها، واعتقدوا انه يمكن تقويضها واستبدالها بنموذجهم المفضل، والقاضي بإنشاء قوات غير نظامية، أي ميليشيات شعبية على نموذج الباسيدج الايراني، يمكنها ممارسة العنف ضد من يحلو لها وفرض سلطة الحاكم على محكوميه.
هكذا، بدلا من دخول النظام السوري في تسوية مع معارضيه، دفعته إيران الى مواجهة معهم على طراز “اما قاتل او مقتول”، وهذا طراز لا يصلح أبدا خصوصا في الثقافة العشائرية العربية، التي لا تمتثل لموازين القوى، وتطلب ثأر الدم الى ان تدركه او الى ان تتم مصالحة وتسوية دية الدم.
لكن في طهران رأي آخر، فإيران صاحبة طموحات امبراطورية في منطقة الشرق الأوسط، وهي كما دفعت الأسد الى خوض مواجهة على عكس ما تفعله الأقليات عادة، أجبرت “حزب الله” على دخول معركة حاول قادة الحزب تفاديها لعلمهم بكيفية عمل الأقليات وضرورة تجنب المواجهة مع الأكثرية.
وكما في سوريا ولبنان، حيث اقحمت إيران الأقليات الحليفة لها في مواجهة دموية غير مضمونة نتائجها في وجه الغالبية، أوعزت الى الأقلية الحوثية في اليمن بفعل الشيء نفسه، ثم رمت الغالبية الشيعية في العراق في آتون مواجهة مع الأقلية السنية، في مناطق الأخيرة، في حرب تبدو مفتوحة الأمد ومرهقة ومكلفة للأطراف كلها ولإيران نفسها.
ربما لا تعرف إيران ذلك، لكن لا يمكن لأي قوة الحاق هزيمة بأهل الأرض. هذا درس تعلمه الإسرائيليون من “حزب الله” في جنوب لبنان، وهو درس يبدو انه فات إيران في العراق وسوريا ولبنان، فراحت ترسل حلفاءها لغزو شركائهم في عقر دورهم، وهو غزو مكلف ولا يبدو انه ممكن او مجد.
على ان الطموح الامبراطوري الإيراني يبدو انه يعمي التفكير العقلاني. هذا الطموح كان واضحا في مقالة في صحيفة “نيويورك تايمز” في نيسان (ابريل) الماضي، كتب فيها وزير الخارجية الايراني جواد ظريف انه “لا يمكن للعالم ان يقف متفرجا من دون معالجة جذور الاضطراب في منطقة الخليج الفارسي الأوسع”، وانه يجب عدم اهدار الفرصة النادرة للانخراط والحوار بين إيران والعالم حول وضع ومصير المنطقة المذكورة.
وتاريخيا، تطلق إيران تسمية “الخليج الفارسي” على المنطقة المائية الممتدة من مضيق هرمز الى مصب نهري دجلة والفرات، وهو المصب الذي يطلق العراقيون عليه اسم “شط العرب”، والذي كان محط النزاع العراقي -الايراني في الحرب الدامية بينهما بين 1980 و1988.
جواد ظريف وسّع “الخليج الفارسي” هذا في مقالته ليشمل اليمن وسوريا والعراق، وكتب المسؤول الايراني انه، بعدما نجحت طهران في احراز تقدم في المفاوضات النووية، “حان الوقت لإيران والمعنيين الآخرين البدء بالتعامل مع مسببات التوتر في منطقة الخليج الفارسي الأوسع”.
وكرر ظريف الدعوة الايرانية الى دول “مجلس التعاون الخليجي”، من دون ان يسميه، الى “انشاء منتدى جماعي للحوار”، وقال ان من شأن منتدى من هذا النوع ان “يسهل عملية الانخراط” بين إيران وجيرانها. ودعوة ظريف ليست حديثة، فمجموعة لا بأس بها ممن سبقه من المسؤولين الايرانيين دعت في الماضي الى توسيع “مجلس التعاون الخليجي” ليشمل إيران، وربما ليعطيها الفرصة رسميا للهيمنة على الخليج وقرارات حكوماته.
وبرأي ظريف، انه بعدما نجحت إيران في التغلب على المجتمع الدولي في المفاوضات النووية، لا بد لها من لعب دور الشريك في تثبيت امن واستقرار المنطقة. ولما لا؟ فإيران، حسب مقالة ظريف، تحرص على “عدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين”، والى “التوصل الى تسويات سلمية وعدم السماح بالتهديد باستخدام القوة او استخدامها”.
لكن تصريحات المسؤولين الايرانيين، حتى الأعلى مرتبة من ظريف، تشي بعكس اقوال الوزير الايراني، اذ حينما يتحدث عدد منهم – بمن فيهم مرشد الثورة علي خامنئي – عن نجاح نموذج ايران “للميليشيات الشعبية” و”المقاومة”، وعندما يتبجح مسؤولون ايرانيون بسيطرتهم على اربع عواصم عربية، وعندما تضطر أميركا باراك أوباما المنسحبة من العالم الى ارسال سفنها الحربية على وجه السرعة لاعتراض شحنات الأسلحة الايرانية المتوجهة بحرا الى الحوثيين في اليمن، كل هذه التصريحات والاحداث تقدم صورة مغايرة تماما لتلك التي يحاول ظريف تقديمها للجمهور الاميركي والدولي.
هكذا، تبدو مهمة ظريف وكأنها قلب الصورة، فروسيا تعلن نيتها تزويد إيران بمنظومة اس ٣٠٠ الدفاعية الجوية، وظريف واللوبي الايراني في واشنطن يتهمون اي مشكك بالمفاوضات النووية بالساعين الى الحرب. وإيران تزود الحوثيين بالسلاح، ويتهم ظريف العرب بزعزعة الاستقرار بالمنطقة. وإيران ترفض التعاون مع المفتشين الدوليين، ويحذر المسؤول الايراني الغرب من عدم التعاون.
اما النقطة الوحيدة التي يجمع عليها المسؤولون الايرانيون، بمن فيهم ظريف، هي إطلاق تسمية “الخليج الفارسي” على دول العرب، والدعوة الى توسيع هذه التسمية لتشمل البحر الاحمر والمشرق تحت اسم “الخليج الفارسي الأوسع”، وربما يوما حتى تشمل مصر وبعدها سائر المغرب، فيصبح “الخليج الفارسي” خليجا كبيرا ممتدا من “المحيط الى الخليج”.
الطموح الامبراطوري الإيراني لا يعرف حدودا، والمشكلة الوحيدة انه بدلا من ان يغطي هذا الطموح “الخليج الفارسي” المزعوم، سيغطي منطقة الشرق الأوسط بأكملها بالدماء، وما المانع، فإيران تبدو مستعدة للقتال لإقامة إمبراطورتيها حتى آخر عربي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق