الخميس، 22 أكتوبر 2015

الصراخ كـ"دليل تاريخي" على موقع الهيكل

حسين عبدالحسين

لأن السبب الظاهر لاندلاع المواجهات بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي خشية فلسطينية من اقدام الإسرائيليين على فرض سيطرتهم على المسجد الأقصى في القدس، ثم السماح لليهود بزيارة حرم المسجد وربما الصلاة داخله، وفي وقت لاحق تكريس مساحات مخصصة لليهود لا يدخلها المسلمون قد تؤدي في ما بعد الى سيطرة إسرائيلية كاملة على الموقع الذي يقع حاليا تحت سلطة الأوقاف الدينية الأردنية، يسود اعتقاد في الغرب مفاده أن السلسلة الأخيرة من المواجهات سببها الأقصى.

لذا، انبرت صحف عالمية، مثل "نيويورك تايمز"، لتحري الأمر، ونشرت مقالة اعتبرت فيها أن لا دلائل تاريخية تثبت أن موقع الأقصى هو المكان الذي قام فيه هيكل سليمان يوماً. ولم يكد حبر المقالة يجف حتى انبرى لها اليهود الاميركيون عبر وسائل التواصل الاجتماعي والمواقع الإعلامية التابعة لهم في محاولة لتفنيدها. واتهموا كاتبها بالجهل.

ولم تكد تمرّ أيام، حتى قدمت الكتلة العربية داخل المجلس التنفيذي للاونيسكو، التابع للأمم المتحدة، نصاً طالبت فيه بضم "الحائط الغربي"، المعروف أيضا بـ"حائط المبكى" اليهودي، الى مجمع المسجد الأقصى. هذه المرة، كفّرت "نيويورك تايمز" عن ذنوبها امام اليهود، فنشرت الخبر عن الطلب العربي من دون الوقوف على أي رأي عربي، بل اكتفت بالحديث الى مسؤولي منظمات يهودية أميركية ممن أبدوا سخطهم ضد القرار، الذي تعثر أصلا.

على أن مراجعة بسيطة تظهر أن اليهود، الذين يكررون الحديث عن تمسكهم بـ"الحقائق التاريخية" للموقع، يحاولون فعلياً تثبيت وجهة نظرهم عن طريق الصراخ.

وقبل أن نخوض في ردود اليهود حول تاريخ موقع الأقصى، لا بد من تكرار القول بأن إقحام السياسة في التاريخ يؤذي الإثنين، فالسيادة على أي رقعة من الأرض لا ترتبط بتاريخها بل بمشيئة غالبية السكان فيها. ولو كان التاريخ هو الفيصل، لكان يمكن للإيطاليين، مثلاً، مطالبة تركيا باستعادة إسطنبول القسطنطينية، عاصمة المسيحية التي انبثقت عن روما في القرن الرابع، قبل 11 قرناً من وصول الأتراك وفرضهم سيادتهم على المدينة.

مجلة "تابلت" اليهودية الأميركية تصدت لمقالة "نيويورك تايمز" بمقالتين. الأولى، نقلت فيها عن عالمة الآثار جاين كاهيل التي شاركت في أعمال تنقيب في القدس. ومما قالته كاهيل انه بعد "150 عاماً من التنقيب عن الآثار في القدس، لا يعني غياب الدليل (على وجود هيكل سليمان) شيئا". وكاهيل تضم صوتها الى الأصوات القائلة انه على الرغم من غياب الدليل الحسي، يمكن للنص وحده، الديني اليهودي والمخطوطات المعاصرة، أن تشكل دليلاً قاطعاً على مكان تواجد الهيكل.

ومن نافل القول إن تفضيل النص على الآثار يتنافى مع أبسط مبادئ كتابة التاريخ، وفي حالة كاهيل، لا يسع المرء الا التساؤل: لو كانت كاهيل لا تؤمن بأهمية الآثار لكتابة التاريخ، فلماذا أمضت حياتها تنقب في القدس؟ اما الإجابة الأرجح فهي أن كاهيل نقبت على أمل العثور على دليل حسي للهيكل ولم تجده، اذ ذاك قللت من أهمية الآثار وتمسكت بالنص الديني وحده.

على أن النصوص، الدينية او المعاصرة، ليست أفضل حالاً من غياب الآثار، فاليهود يتمسكون بنص للمؤرخ فلافيوس جوزيفوس، الذي عاش في القرن الأول، وفيه يشير الى ان الملك هيرود وسّع الهيكل بإضافة جدران للفصل بين أماكن عبادة اليهود عن أماكن عبادة غير اليهود. تصريح فلافيوس هذا يشير الى ان الموقع لم يكن يهودياً بحتاً، وأن مجموعات من غير اليهود كانت تتعبد فيه أيضاً. ولكن من هي هذه المجموعات التي كانت تتعبد في القدس، الى جانب اليهود، قبل خمسة قرون على ظهور الإسلام؟

في مقالتها التفنيدية الثانية، أوردت "تابلت" أن كاتب مقالة "نيويورك تايمز"، جاهل، وأنه لو كان صاحب دراية بتاريخ الأديان، "لا تاريخ اليهود بل تاريخ المسلمين"، لعرف أن قبة الصخرة شيّده في موقعه الخليفة الأموي (عبدالملك بن مروان، لكن "تابلت" لا تسميه) في العام 692 ميلادية، لأن الموقع كان مقدساً "ولأنه كان الموقع السابق للمعبد اليهودي". ويستعين مؤلف مقالة "تابلت" بالإسلام لتأكيد تاريخ اليهودية، بالقول ان قدسية موقع الأقصى هي قدسية "الكعبة في مكة، التي أصبحت مقاماً بسبب الاعتقاد... المؤكد في القرآن، أن بانيها هو (النبي) إبراهيم".

التفسير التاريخي الملتوي، الذي قدمته "تابلت" اليهودية، هو بالضبط ما يقوم به الإعلام الحزبي. فلو اعتبرنا ان الخليفة عبدالملك شيد قبة الصخرة في موقع سابقة قدسيته لظهور الإسلام، لوجدنا – هذه المرة بدليل حسي – أن عبدالملك كان يتصدى للمسيحيين ومعتقداتهم، حسبما يبدو جلياً من النقوش الداخلية للأقصى، والتي تحاول نفي ألوهية المسيح وتأكيد نبوته. ولو كان في بال الخليفة الأموي انه يشيد على أنقاض هيكل اليهود، لربما خصهم ببعض الآيات الإسلامية المنقوشة، لكن لا نقوش تشير الى أي وجود يهودي سابق او صراع إسلامي مع اليهود حول الموقع في القرن السابع، بل يبدو ان الصراع الإسلامي حينها كان مع مسيحيين، وهؤلاء على الأرجح هم من قصدهم جوزيفوس في نصه عن غير اليهود من المتعبدين في الهيكل.

لندع جانباً التداعي في الرواية اليهودية لإثبات أن الأقصى، القائم منذ 14 قرنا في موقعه، تم تشييده مكان هيكل سبقه بمئات السنين، وذلك بشهادة نصوص. حتى النص الديني اليهودي لا إجماع حوله، فطائفة السامريين اليهودية تعتقد ان موقع الهيكل هو في جبل جرزيم في الضفة، ولهذه الطائفة نصوصها، التي تؤيدها مخطوطات قمران العائدة الى زمن الميلاد وقبله وبعده، ما يعني ان الخلاف حول موقع هيكل سليمان، بحسب النصوص اليهودية الدينية، هو خلاف داخل اليهودية نفسها، وسابق للإسلام.

إن الاستناد الى النصوص الدينية لاستنباط الاحداث التاريخية ومواقعها الجغرافية هي عملية تقع في حيّز التناكف الديني والسياسي ولا تفيد الأبحاث التاريخية. اما الصراخ اليهودي حول "جهل" كل من لا يوافق على ان هيكل سلمان قام يوماً مكان الأقصى، فهو صراخ سياسي حزبي لا مكان له في الأبحاث الاكاديمية الرصينة.

ختاماً، لا ضير من تصنيف مواقع مثل الأقصى في لائحة الاونيسكو والسماح لغير المسلمين بالزيارة، إن كان بداعي الحشرية التاريخية او المعتقد الديني كاليهودية. لكن مشكلة السماح لليهود بزيارة الأقصى والتعبد داخله هي أن اليهود، حسب المؤرخ فلافيوس قبل ألفيتين، غالباً ما يطالبون بفصلهم عن غير اليهود، وتخصيص مساحات حصرية لهم، ما يعني أن عند اليهود صعوبة في المشاركة في التعبد مع غير اليهود في المواقع الدينية التاريخية، إذ يبدو ان بعضهم يسعى إلى محاكمة التاريخ، وربما الانتقام منه، وهو انتقام ان حصل، قد يعني هدم الأقصى وإعادة بناء الهيكل، وهذه هرطقة تاريخية بأي معيار، وتضع اليهود المطالبين بذلك في مصاف الدواعش المُمعنين في هدم تدمر أو أي معلم تاريخي تقع عليه أيديهم. - See more at: http://www.almodon.com/culture/43ac6a2d-4d94-495b-8496-b09939ca0be5#sthash.4zy7FZNB.dpuf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق