الجمعة، 18 ديسمبر 2015

عندما يخطئ الحريري

حسين عبدالحسين

من يعرف السياسة اللبنانية يعرف ان كل من يقوم بخطوة سياسية غير مبررة، يلجأ الى تعليل خطوته بالقول انه أقدم على فعلته تفاديا لحتمية "وصول الدم للركب".

في العام ٢٠٠٢، أبطلت الوصاية السورية نيابة غبريال المر في المتن، فاقتنص غسان مخيبر الفرصة لاستعادة "مقعد عمه". كان مخيبر مستقلا ومحسوبا على المعارضة، التي انتقدته لقبوله السير في الاعيب السلطة وقبوله المقعد بما يشبه التعيين. أطل مخيبر تلفزيونيا، وقال انه قبل مقعد المتن النيابي "كي لا يصل الدم الى الركب".

بعد ذلك بقليل، تصاعدت مطالبة اللبنانيين للرئيس السوري بشار الأسد بسحب قواته من لبنان، فجاء الرد منه ومن حلفائه ان اي انسحاب يؤدي الى اندلاع حرب اهلية و"وصول الدم الى الركب". وابان الانسحاب السوري من لبنان، وقعت سلسلة من التفجيرات كانت بمثابة حرص من البعض على اثبات صحة تلك التنبؤات.

ومع نهاية العام ٢٠٠٩، زار رئيس الحكومة السابق سعد الحريري دمشق، والتقى الاسد، وادلى بتصريحات اعتبر فيها انه أخطأ بتوجيهه "اتهاما سياسيا" بحق الأسد في جريمة اغتيال والده رفيق. وقتذاك، تحرك فريق مستشاري الرئيس الحريري، وحاولوا اقناع معارضي خطوة مصالحته مع الأسد بالقول انها كانت تهدف الى "حقن الدماء"، واطلقوا مقولة ان رفيق الحريري كان اكثر من ضحى وساوم من اجل مصلحة لبنان وتفاديا للفتنة.

والقول ان رفيق الحريري تنازل فحقن الدماء مجاف للحقيقة، فالحريري الأب تنازل فعليا ووقع مرسوم التمديد لولاية الرئيس السابق اميل لحود، وكان ثمن موافقته خروجه من الحكومة، وفي وقت لاحق غرق هو نفسه بدمائه، على الرغم من تنازلاته. 

في كتاب الأسد وحلفائه، يغيب مفهوم المساومة لحقن الدماء، فهم لا يمانعون استخدام العنف المفرط واهراق الدماء، ولا يقبلون وقف عنفهم من دون تنازل كامل واذلال الخصم. من هنا جاء شعار "الأسد او نحرق البلد"، وفعلا أحرق الأسد البلد الذي ما زال يصر على حكمه حتى وقد اصبح ركاما.

في ترشيح النائب سليمان فرنجية للرئاسة، لجأ فريق الرئيس السابق سعد الحريري الى التبرير نفسه القائل ان لبنان يمر بمرحلة خطيرة، وان تجاوزها يحتم موافقة الحريري على انتخاب الشخص، الذي كان وزيرا للداخلية يوم اغتيال والده، رئيسا.

طبعا لبنان ليس في مهب الريح ولا خطر عليه، والدليل التوافق الاقليمي على فرنجية للرئاسة، الذي لم يعرقله الا رفض أكبر تكتلين مسيحيين.

والتبرير المسيحي لرفض رئاسة فرنجية لا يقل سطحية عن تبريرات الحريري لانتخابه، اذ دأب الزعيمان ميشال عون وسمير جعجع على "بهدلة" الدنيا وتحميل الجميع مسؤولية الفراغ الرئاسي، وتصوير المسلمين وكأنهم يسعون لاضعاف "موقع الرئاسة" فيما الواقع ان السبب الاول للفراغ الرئاسي هو تضارب في شخصانية عون وجعجع واستحالة عبور احدهما للرئاسة دون اما موافقة الآخر، او الحصول على اجماع المسلمين لقهر الآخر.

وتزداد بشاعة التبرير المسيحي عندما تختلط مصلحة لبنان في ذهنهم بمصلحة المسيحيين، فتراهم يتمسكون بالتعايش المسيحي الاسلامي للاستقواء على بعضهم البعض، ثم يتمسكون بمصلحة المسيحيين ويختبئون خلف البطريركية المارونية، مثل في اصرارهم على قانون الانتخاب العنصري الارثوذكسي.

في ترشيح فرنجية، كان على الرئيس الحريري وفريقه ان يبتكروا تبريرات جديدة واكثر اقناعا، خصوصا ان غالبية مناصريه لايتمتعون بالعصبية نفسها التي يتمتع بها الشيعة او الدروز، فالسنة لا يستديرون خلف زعيمهم برشاقة، ولا يمكن لانتخاب فرنجية الا ان يعزز شعورهم بالاحباط المزمن الذي يعانون منه منذ اغتيال رفيق الحريري.

على الرئيس الحريري وفريقه ان يدركا ان الجزء الاكبر من مناصريهم يتبعونهم لتمسكهم بمبادئ. لذا، عندما يقرر الحريري ان يطل بتبرير مصلحة لبنان وحقن الدماء، عليه ان يشرح لماذا لم يكن ممكنا حقن الدماء بابقاء عمر كرامي في الحكم على اثر اغتيال رفيق الحريري، ولماذا لم يكن ممكنا حقن الدماء بالتخلي عن المحكمة الدولية في بلد لا تسعى غالبية مواطنيه للعدالة، بل للتغلب على الآخر واكتساحه.

لا يمكن للحريري حقن الدماء يوما والوعد بالانتصار للعدالة يوما آخر، فالسياسة والعدالة نقيضان، وجمعهما يزيد التناقض تناقضا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق