الخميس، 19 مايو 2016

رد على رمزي الحافظ : ولّى زمن الأحزاب

حسين عبد الحسين - صحافي

أصاب الاستاذ رمزي الحافظ* في مطالبته حملة "بيروت مدينتي" للانتخابات البلدية بتخليها عن صفتها كهيئة مجتمع مدني، فالمجتمع المدني يتحول سياسيا لحظة انخراطه في اية انتخابات، لكنه أخطأ في مطالبته تحويلها حزبا سياسيا، معتبرا ان الأحزاب هي مستقبل الديموقراطية.
لا يمكن اي مراقب للديموقراطيات حول العالم الا ان يلاحظ ان زمن الأحزاب السياسية ولّى. الحزب الجمهوري الاميركي منقسم ومبعثر، ومرشحه للرئاسة دونالد ترامب نجم تلفزيون الواقع وتكاد تنعدم ثقافته السياسية. اما الحزب الديموقراطي، فغزاه مرشح للرئاسة من خارج الحزب، ونجح في تحفيز قواعد الحزب ودفعها الى تمويل حملته أكثر مما نجحت مؤسسة الحزب.
وكما في أميركا، كذلك في بريطانيا حيث "حزب العمال" مأزوم، وفي فرنسا يعاني اليمين من جنوح قواعده نحو التطرف، ما اضطره للاستعانة باليسار لوقف زحف اقصى اليمين نحو السلطة.
لقد قوّضت وسائل التواصل الاجتماعي الاحزاب، التي كانت تحتكر عملية تنظيم القواعد، واعداد الرأي العام وتوزيع الدعاية عبر ماكينة كانت مكلفة حتى الأمس القريب. وابان اندلاع الربيع العربي في العام 2011، شبّه بعض المراقبين انتشار وسائل التواصل الاجتماعي في الدول العربية بانتشار التلغرام الذي اشعل ثورات اوروبا قبل قرنين.
على ان انتصار قواعد الاحزاب على قياداتها دفع الى قلب المؤسسات من دون ان يقدم بديلا ناضجا، كما في الحالة المصرية، او قدم بديلا مطابقا للنموذج الماضي، كما في لبنان 2005 وسوريا 2011.
شكلت "بيروت مدينتي" محاولة تغيير قد تكون الاولى من نوعها عربيا بتقديمها بيانا واضحا لرؤيتها في الحكم. صحيح ان برنامج الحملة كان طموحا اكثر من الممكن، لكنه اظهر ان الناشطين ليسوا غوغاء فحسب، بل كوادر تحمل افكارا وخبرات، وانه يمكنها ان تشكل بديلا من الموت السياسي الذي فرضته الاوليغاركية اللبنانية على كل مؤسسات الدولة، من رأسها وحتى اخمص قدميها.
وافادت "بيروت مدينتي" من فرص لم تكن متوافرة لنظيراتها العربية في مصر او سوريا، فغالبية ناشطي "بيروت مدينتي"صاروا اليوم متمرسين في عملية التمرد على المؤسسة الحاكمة وحتى التغلب عليها، ومعظمهم ممن خاضوا في التسعينات تجارب على شكل ثورات طالبية ضد الاحزاب، واكتسحوا انتخابات جامعاتهم، وشكلوا اتحادات تجمع بين مجموعاتهم الطالبية، مثل "المجموعات اليسارية المستقلة" التي انتجت "حركة اليسار الديموقراطي"، قبل ان يستولي حزبيون قدامى على التجربة ويدخلوها في مماحكات السياسية اللبنانية، ويقضوا عليها بالكامل.
لكن إن كان الانقسام بين 8 و14 آذار، بصيغته اللبنانية، وبين السنة والشيعة، بصيغته الاقليمية، اعاق التجربة الشبابية اللبنانية المستمرة منذ التسعينات، فهو لم يقض على الناشطين، الذين عادت غالبيتهم من الانقسام الذي انعكس على صفوفهم، وبرزوا في الحملات ضد الاوليغاركية في تظاهرات الصيف الماضي، وفي انتخابات البلدية.
هؤلاء الناشطون انفسهم خاضوا معظم المواجهات من اجل التغيير على مدى العقدين الماضيين، كما في حملة تشريع قوانين ضد "العنف المنزلي"، وحملات تشريع "الزواج المدني"، وحملة منح اللبنانية الجنسية لاولادها، وغيرها كثير من التغييرات المطلوبة في لبنان، والتي تغيب عن الحوار السياسي الممل الذي لا يعكس اهتمامات اللبنانيين، ولا اولوياتهم، اذ غالبا ما يجد اللبنانيون انفسهم يتابعون مباريات في الشتائم بين السياسيين اللبنانيين حول لمن الاحقية في الحكم... في اليمن مثلا.
وكما اندثرت الاحزاب، تقلص تأثير التظاهرات او "التغيير في الشارع". لذلك، عانت حركات الصيف الماضي في شوارع بيروت بسبب غياب القنوات التغييرية المتاحة لأي عمل جماهيري، وضرورة اعتماده على "اجبار" الاولغاركية على التراجع، تحت طائلة اصطدامه مع القانون.
لكن الانتخابات تقدم قناة تغييرية تتضمن مواعيد محددة واهدافا واضحة هي الفوز في صناديق الاقتراع، لذا بدت خسارة "بيروت مدينتي" انتصارا لمؤيديها لأنها أظهرت ان احتكار اركان "مجلس الحوار الوطني" الجمهورية وكل أوجه حياتها العامة هو احتكار غير مبرر شعبيا.
اذن، تحتاج الحركات التغييرية مثل "بيروت مدينتي" الى جولات انتخابية متعددة وكثيرة، فالانتخابات تمتص النقمة الشعبية، وتفتح قنوات التغيير، وتمنح الناشطين حقل تجارب، وتبقي الاوليغاركية اللبنانية متحفزة خوفا من "البهدلة" في صناديق الاقتراع.
ولأن حكام لبنان يخشون "البهدلة"، فهم عمدوا اولا الى تقليص عدد الجولات الانتخابية وحصرها بالانتخابات النيابية والبلدية، وهذه تجري كل اربع او ست سنوات، وحتى عندما تجري الانتخابات، تجري غالبا بعيدا عن المنافسة، وللتصديق على ما اتفق حكام لبنان على تقاسمه مسبقا، فتجري حسب قانون انتخابي يناسبهم وحدهم ويسهل احتكارهم ويرفض التمثيل النسبي، وفي المناطق التي يخشون فيها اختراق اي تغييريين، يتحول الاخصام من حكام لبنان احباء فيخوضون المعارك الانتخابية في لوائح يسمونها "بوسطات" او "محادل".
"بيروت مدينتي" هي من التجارب القليلة للتغيير في صناديق الاقتراع، وهي قد تؤدي الى تحفيز تجارب مماثلة في المناطق اللبنانية. ليس مطلوبا من "بيروت مدينتي" ان تتحول حملة تجاري في حنكتها السياسية حنكة حكام لبنان، او ان تناور مثلهم، او ان تسعى للفوز بأي ثمن. المطلوب منها تقديم خيار بديل من الموت السياسي الذي تفرضه الاوليغاركية، عسى ولعل ان تدرك غالبية اللبنانيين قصور النظام الحالي القائم على القبلية الريعية، وان تدرك ان السبيل الوحيد لمستقبل أفضل يكمن في تطوير العمل السياسي، واجبار الطبقة السياسية على التخلي عن اسلوبها القروسطي، وعلى تبني اساليب اكثر حداثة، تحت طائلة تكرار "البهدلة" لحكام لبنان في الصناديق، او ربما إطاحتهم يوما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق