الأربعاء، 13 ديسمبر 2017

هل كانت السعودية مملكة يهودية؟

حسين عبدالحسين

نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، مؤخراً، مقالة بعنوان "قبل الاسلام: يوم كانت السعودية مملكة يهودية"، أشارت فيها الى العثور في العام 2014 على نقش بالحرف العربي، مع رسم الصليب، في بلدة بئر حما القريبة من حدود السعودية مع اليمن. ويعود تاريخ النقش الى العام 470 ميلادية، وهو ما يجعله أقدم نقش عربي معروف.

واعتبرت الصحيفة ان النقش شكّل إحراجاً للسعوديين، اذ كيف يمكن أن يكون أول من استخدم الحرف الذي دُوّن به القرآن، من المسيحيين. وبسبب الإحراج السعودي المزعوم، لم تفرد الصحف العربية، ولا الأجنبية، اي اهتمام بفحوى النص المكتشف، واكتفت بالاشارة الى الاكتشاف الجديد كصلة وصل بين الحرفين النبطي والعربي. وتابعت الصحيفة بالإشارة الى مملكة حميَر اليهودية، معتبرة انها مملكة غطّت "معظم اليمن والسعودية"، من عسير الى نجد، وصولاً الى سواحل الخليج. 

وفي معرض حديثه عن يهود اليمن، يشكك الكاتب ارييل دافيد في مدى يهودية هؤلاء، إذ يشير التاريخ الى قيام ملوكهم باضطهاد المسيحيين. ولأن اليهود لا يضطهدون شعوباً أخرى بسبب تعاليم دينهم، وفق زعم الكاتب، فهذا ينتقص من يهودية مملكة اليمن. 

ولعل المقالة تستنفر في المرء رغبة في الرد وتسليط الضوء على الأخطاء، لا سيما في عدم فهم الكاتب الاسرائيلي للرؤية الإسلامية للإسلام واللغة العربية. فالإسلام لا يدعي حصرية اللغة العربية على غرار العلاقة بين اليهودية والعبرية. بل يعتبر المسلمون أن اللغة العربية متعددة اللهجات، وأن القرآن أنزل بلهجة قريش. كذلك، لا قدسية عند المسلمين للحرف العربي، بل ثمة إجماع على أن العرب كتبوا بحروف متعددة قبل الحرف الحالي، منه المسند والنبطي. وكذلك، لا حرج لدى المسلمين إن كان مسيحيون أو يهود كتبوا بالحرف العربي قبل بدء الرسالة الإسلامية في العام 610 ميلادية، بل إن المسلمين يعتبرون أن كتابهم هو النسخة غير المحرّفة من الكتاب نفسه المُنزل على اليهود والمسيحيين، وأن مشكلة "أهل الكتاب" من قبل المسلمين انهم حرّفوا الرسالة السماوية نفسها التي بعثت إليهم وللمسلمين بعدهم.

مشكلة ثانية تكمن في خلط الكاتب الاسرائيلي، شأنه شأن غالبية اليهود والمسلمين، بين الجذور الإثنية واللغوية من ناحية، والأصول الدينية من ناحية ثانية، وهو أمر مفهوم، طالما أن مصادر روايات تاريخ اليهود والمسلمين هي كتبهم الدينية، وهو أمر يختلف لدى المسيحيين الذين لا يعولون على القيمة التاريخية لأناجيلهم، بل ينحون إلى تغليب التمسك بالقيم الروحية الواردة في هذه الكتب.

باختلاط الدين بالتاريخ والسياسة، تغرق روايتا اليهود والمسلمين التاريخية في العداء القائم بينهما اليوم. مثلاً، يردد اليهود والمسلمون أنهم أولاد عم، وأنهم من سلالة النبي ابراهيم، وهو ما يعني فعلياً أن اليهود والعرب عبرانيون، نسبة الى عابر (هود في القرآن)، ابن سام، والجد العاشر لابراهيم. فابراهيم عبراني، وهو ما يعني أن ولديه، اسحق اسرائيل واسماعيل، هما من العبرانيين أيضاً. كما انه يمكن النظر الى التطابق الايتمولوجي بين كلمتي عبري وعربي، وفق مبدأ القلب والابدال، للاستنتاج بأن تبني اليهود اسم عبرانيين، وتبني المسلمين اسم عرب، هو تصنيف سياسي لاحق. 

والروايات العبرية، كما العربية، مرتبكة في التمييز بين الجد الإثني والرسول الديني. فاليهود يتحدرون من يهوذا ابن اسرائيل. في حين أن أعظم ملوك اسرائيل، داود ابن شاؤل وابي سليمان، لم يكن يهودياً، بل تحدّر من سلالة بنيامين، شقيق يهوذا.

أما العرب، فيصفون النبي ابراهيم أحياناً بـ"أبينا"، مع ان ابراهيم لم يتحدث العربية، بل كانت لغته في الغالب الآرامية. ثم يحاول العرب إعادة أصلهم الإثني الى يعرب ابن قحطان (يقظان في العهد القديم) ابن هود. أما اسماعيل، فلا يتحدّر من قحطان، بل من شقيق قحطان فالق. واسماعيل، الذي تعلم العربية بعد هجرته الى ديار العرب، هو جد نبي المسلمين محمد، وهو ما يعني أن العرب سابقون على اسماعيل، وأن النبي نفسه من العرب المستعربة، لا العرب العاربة الأقحاح أولاد يعرب.

هذه التفاصيل تفوت كاتب "هآرتس"، الذي يرى التاريخ من منظور الحاضر. ينظر الى كتابة عربية مع صليب في اليمن، فيَصِل إلى استنتاج مفاده أن العربية ليست لغة المسلمين، وأن جزيرة العرب كانت مملكة يهودية، وأن المسلمين والعرب اليوم يحاولون طمس الماضي لأنه ينتقص من أصالة روايتهم.

ثم أن الصليب علامة سابقة على المسيحية. إذ تعج القبور اليونانية، قبل المسيحية، بإشارة الصليب، والتي كانت في الغالب رمز قوة وتغلب على الموت، وهي دخلت المسيحية مع قسطنطين الكبير في القرن الرابع ميلادي، إذ تلقّى وَحياً سماوياً بأن "بهذه الإشارة تغزو". وبعد قسطنطين، بدأت إشارة الصليب تغزو النقود البيزنطية المسيحية، وصارت رمزاً لقهر الموت، وهو الفعل الذي قام به المخلص يسوع المسيح، بحسب الأناجيل. وهو ربما ما أدى الى الربط بين المسيح وإشارة الصليب، بعدما كانت الإشارة الأقدم للمسيح هي السمكة، رمز القيامة بعد الموت. وفي الأناجيل والقرآن، يعود يونس الى الحياة بعد أن يلفظه الحوت (أو النون) من باطنه.

هكذا، لا يمكن القفز إلى استنتاج بأن إشارة صليب، من القرن الميلادي الخامس في اليمن، تعني بالضرورة المسيحية بشكلها الحالي، بل ربما تعود الى طائفة كانت تتبنى رموزاً سائدة، مع تعاليم تتشابه مع المسيحية. كذلك، لا يمكن الاستنتاج بأن اليهود في القرآن هم يهود اليوم، فيهود القرآن قالوا ان عزيراً ابن الله، فيما يهود اليوم يوحدون كالمسلمين، ولا يشركون، لكنهم لا يقبلون محمد ورسالته.

والحال أنه لا يمكن الإحاطة بتاريخ العبرانيين، ولا من يتحدّر منهم من يهود ومسلمين، في مقالة صحافية واحدة. لكن لا بد من مطالبة الصحافيين بالابتعاد عن التأريخ الحزبي الذي يقودهم الى استنتاجات تنعكس في النقاش السياسي الدائر، كي لا يتحول التاريخ الى مادة دعائية سياسية... وكي لا "يَصدُق" كاتب إسرائيلي في قوله إن الكشف الأثري الجديد قد سبب إحراجاً فعلياً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق