الجمعة، 27 يوليو 2018

انقسامات العراق السياسية… نعمة ونقمة

واشنطن: حسين عبدالحسين

لم يحقق العراق التوقعات التي كانت تنبأت له بها غالبية الخبراء في الأيام التي سبقت وتلت الحرب الأميركية فيه في العام 2003. حسب التوقعات، كان من المفترض أن ينقسم العراق إلى ثلاثة أقسام: شيعي في الجنوب، وسني في الغرب والشمال الغربي، وكردي في الشمال.
السياسة العراقية في باكورتها كانت تشبه هذه التوقعات، وربما هي تأثرت بها وعملت بموجبها، فسيطرت على «مجلس النواب» العراقي الأول في العام 2005 ثلاث كتل كبرى، واحدة تابعة لما اتفق أعضاء الكتلة على تسميته بـ«البيت الشيعي»، وثانية تابعة لحكومة كردستان العراق في الشمال، وثالثة «عربية سنية».
لكن الواقع في العراق اختلف عن التوقعات، فالمشهد السياسي العراقي اليوم قد يكون من الأكثر تفتتا في العالم، فيه السياسيون ينسجون تحالفات سريعا، ويفضّونها سريعا كذلك، وهي تحالفات في الغالب مبنية على مزاجات أو مصالح شخصية. وبما أن المزاجات تتقلب، كذلك التحالفات، وحتى الأحزاب، فـ«حزب الدعوة»، الذي كان يفترض أنه الحاكم قبل عقد، أعاد إنتاج نفسه اليوم على شكل أربعة أو خمسة أحزاب، كلها تسمي نفسها، أو على الأقل تحمل في بياناتها التأسيسية، العناصر المؤسسة لـ«حزب الدعوة».
ومثل الدعوة، انقسم التيار الصدري إلى ثلاثة، فكان «جيش المهدي»، الذي خرجت منه «عصائب أهل الحق» وأصبحت حزبا سياسيا. ومثلها، انقسم تيار عائلة الحكيم إلى «تيار الحكمة» بزعامة عمار الحكيم، وهادي العامري، قائد «ميليشيا بدر»، التي كانت تابعة للحكيم وأصبحت اليوم مستقلة وتقود كتلة «الفتح».
في المحصلة، انقسم «الائتلاف العراقي الموحد» من كتلة واحدة في العام 2005 إلى خمس كتل برلمانية في انتخابات 2018، بما فيها كتلة النصر، التابعة لرئيس الحكومة حيدر العبادي، و«دولة القانون» التابعة لرفيقه السابق في «الدعوة» وسلفه في رئاسة الحكومة نوري المالكي، وكتلة فتح بقيادة العامري، وكتلة «تيار الحكمة» بزعامة الحكيم، فضلا عن كتلة الصدر «سائرون».
واللافت في كتلة سائرون أنها تألفت من مرشحين من «الحزب الشيوعي العراقي» وليبراليين، إلى جانب مرشحي رجل الدين مقتدى الصدر، فانخرط «الرفاق»، و«الإخوان» في كتلة، تبدو متماسكة حتى الآن، وهي تتألف من 54 نائبا، وهي الأكبر في البرلمان العراقي، ولكنها بعيدة عن رقم 165 المطلوب لتشكيل غالبية برلمانية يمكن أن تنبثق عنها حكومة.
ولم يعان «البيت الشيعي» وحده من التفتت على مدى الأعوام الثلاثة عشر الماضية، فلائحة كردستان العراق تحولت إلى ثلاثة، واحدة للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود برزاني، وثانية تابعة لحزب رئيس العراق الراحل جلال الطالباني «الاتحاد الوطني الكردستاني»، وثالثة تحمل اسم «غوران»، أي تغيير، وهي انشقاق عن حزب الطالباني.
وفي الأوساط السنية، تحولت الكتلة الواحدة إلى اثنتين، واحدة بزعامة رئيس الحكومة السابق إياد علاوي وبمشاركة رئيس البرلمان سليم الجبوري، وثانية بزعامة سلفه في رئاسة مجلس النواب أسامة النجيفي، الذي يتمتع هو وأخوه أثيل بزعامة محلية في محافظة نينوى الشمالية الغربية.
هكذا، تفتتت كتل العراق البرلمانية الثلاث منذ العام 2005 إلى اليوم، ونجم عنها ما لا يقل عن عشر كتل، تتحابب وتتحارب، ثم تتحابب مجددا، في عملية سياسية لا أسس لها إلا المصلحة القصيرة الأمد، في كتل لا تدوم ما بعد التصويت الأول على الرئاسات الثلاث: الجمهورية والبرلمان والحكومة.
وأن لا تدوم الكتل أمر مفهوم في كل برلمانات العالم، ولكن أن تذوب الأحزاب وتتفتت بمثل سرعة الكتل، فظاهرة يتفوق فيها العراق على باقي الأنظمة البرلمانية حول العالم. 
الانقسامات السياسية العراقية حرمت العراقيين حكومات فعّالة، إذ بدلا من أن يفرد الساسة اهتمامهم لشؤون الحكم، ينهمكون في التآمر على بعضهم البعض، فيما يغرق العراق في فساد ليحل في المراتب العشر الأخيرة في العالم، من بين 180 دولة، حسب تصنيف منظمة الشفافية العالمية. ومع الفساد، تتدهور البنية التحتية في العراق والمرافق العامة، ويحجم القطاع الخاص عن الاستثمار، فتتقلص الدورة الاقتصادية وتتبخر الوظائف، فترتفع البطالة.
على أن هذه الانقسامات السياسية العراقية هي نفسها التي حرمت إيران السيطرة على العراق، فحتى يستتب الأمر للإيرانيين، كان من الأفضل لهم لو حافظ «الائتلاف الوطني العراقي» على وحدته تحت إشراف إيراني. لكن الوحدة هذه لم تدم، وكان أول من شتتها رئيس الحكومة السابق ونائب الرئيس الحالي نوري المالكي، الذي انشق عن الائتلاف، على الرغم من استجداء إيران له البقاء في اللائحة الموحدة.
ومع حلول العام 2014، حذا العبادي حذو المالكي، فأفاد من مقدرات الدولة لبناء زعامته الشخصية وكتلته الانتخابية، وبذلك، تحول ائتلاف العام 2005 إلى خمس كتل مع حلول العام 2018، حسبما سبق أن ذكرنا، وهو ما يجعل مهمة إيران مستحيلة في تجنيد زعيم واحد يتبعها ويمسك لها العراق.
ومنذ انتهاء الانتخابات العراقية قبل ثمانية أسابيع، حاولت إيران مرارا إقامة جبهة موحدة تابعة لها، لكنها في كل مرة تحاول دفع وتسويق أحد زعماء الكتل الخمس، يتكتل زعماء الكتل الأربع المتبقية ضده، وتدخل الكتل الكردية والسنية في السباق، فيصبح الأمر أكثر تعقيدا، وتجد إيران نفسها في وسط فوضى عراقية لا تقوى طهران على إنهائها وتوحيد الساسة العراقيين خلف زعامتها، كما فعلت في لبنان، حيث تشكيل الحكومة متعثر، ولكن لأسباب أبسط بكثير يمكن تذليلها في أية لحظة.
قد تكون انقسامات العراق السياسية نعمة ونقمة في الوقت نفسه، فبحرمان إيران السيطرة على العراق، تحافظ بغداد على استقلاليتها من جارتها الشرقية التي تسعى إلى الهيمنة على العراق وبعض دول المنطقة، وهذه قد تكون نعمة، لكن النقمة تكمن في أن الانقسامات تبقي العراق بلا حكومة، في وقت تغرق فيه البلاد في ظروف اقتصادية واجتماعية وبيئية صعبة وتحتاج فيها لانتظام الطبقة السياسية بشكل استثنائي.
لهذا السبب، خرج العراقيون إلى الشوارع ليتظاهروا. قادة العراق اتهموا إيران بقطع الكهرباء عن الجنوب لبثّ الفوضى وإجبار قادة الكتل على القبول بالإملاءات الإيرانية في تشكيل الحكومة. لكن لا يبدو أن المظاهرات أفادت إيران، إذ راح المتظاهرون يحرقون صور زعماء إيران، الخميني وخامنئي، المعلقة في شوارع مدن الجنوب العراقي وبلداته، وراحوا يهاجمون مكاتب الأحزاب والميليشيات المحسوبة على إيران.
المتظاهرون في العراق لم يخرجوا لأجل عيون إيران، ولا لعيون السياسيين العراقيين، بل هم خرجوا ليأسهم من الوضع القائم، الذي تحاول خلاله إيران إظهار زعامتها الإقليمية على حسابهم، والتي يحاول فيها السياسيون تحقيق مصالحهم الذاتية على حساب المواطنين العراقيين أنفسهم.
مشاكل العراق كثيرة ومتراكمة ومعقدة، وحتى يخرج حزب سياسي يقدم حلولا جدية، ويظهر مقدرة على التعامل مع الأزمات، من إعادة الإعمار المطلوبة غرب البلاد وشمالها، إلى حسم مسألة كركوك بين العرب والأكراد، إلى وضع أسس سليمة للفيدرالية والعلاقة بين المركز بغداد وباقي أجزاء البلاد، خصوصا الشمال الكردي المستقل ذاتيا، إلى مكافحة الفساد وإعادة بناء مؤسسات الدولة المترهلة، وتحديث وتطوير البنية التحتية المتهالكة، قد لا تستتب الأمور، وقد تتسارع وتيرة خروج العراقيين المعترضين إلى الشارع، في الجنوب والشمال والغرب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق