الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018

العدالة لجمال خاشقجي

حسين عبد الحسين

فيما تتباحث عواصم العالم في كيفية التعامل مع مقتل الصحافي جمال خاشقجي، لابد من تصحيح بعض الآراء التي انخرطت في النقاش، ربما من باب التشويش.

إن العدالة في قضية خاشقجي وإنزال العقاب بالمسؤولين عن مقتله، هي الهدف الوحيد؛ لا لأنه كان صحافيا ولا لأنه كان سعوديا ولا لأنه كان مقيما في الولايات المتحدة، بل لأنه مظلوم ولأن تغاضي البشر عن مقتل أبرياء ينتقص من حضارتنا الإنسانية، وينتقص من ثقتنا ببعضنا البعض وبحكوماتنا، وبالأنظمة البشرية التي أقمناها وطلبنا بموجبها من الناس التخلي عن استخدامهم العنف ضد بعضهم البعض، والوثوق بأن النظام البشري يحميهم، ويقتص ممن يعتدي عليهم.

لا يهم إن كان جمال خاشقجي من "الإخوان المسلمين"، ولا يهم إن كانت آراؤه متعاطفة مع آرائهم البائسة. لا يهم إن كان هو حسن البنا نفسه، كما لا يهم إن كان خاشقجي معاديا لإسرائيل أو للسامية. طالما أن حكما لم يصجدر بحقه، فهو بريء، وأمنه وأمانه من أمننا وأماننا، فردا فردا على هذا الكوكب. حتى أعتى قادة النازية من المجرمين الذين اصطادتهم الدول، لم تقتلهم اغتيالا ولا انتقاما، بل أحضرتهم أمام محاكم استمعت لأقوالهم في دفاعهم عن أنفسهم.

لا يهم إن كانت العدالة لجمال خاشقجي ستنهي عقودا تسليحية بقيمة مئات مليارات الدولارات بين الولايات المتحدة والسعودية؛ ولا يمكن أن تكون الإجابة حول الاقتصاص من المسؤولين عن موت خاشقجي إجابة فيها أرقام عن الدولارات أو عن عدد الوظائف الأميركية، إذ أننا عندما نربط العدل بالمصالح، تنتهي العدالة وتصبح الأرزاق مجبولة بدماء الأبرياء.


لا يهم إن كانت العدالة ستؤدي إلى زعزعة التحالف الدولي القائم ضد إيران، فنحن ضد النظام الإيراني لأنه يقتل من يعارضونه حول العالم، ولا سبب لاستمرار التحالف ضده إن كان هذا التحالف سيتبنى أساليبه وألاعيبه. نحن في تحالف دولي ضد إيران لأن مبادئنا أقوى من مبادئها، ولأننا نتمسك بالحرية والعدالة، فيما هي تنافق.

نحن ضد حكومات وحكام إيران وروسيا والصين، لأننا نريد إخضاعهم لنفس المحاسبة التي نخضع أنفسنا وحكوماتنا لها، فإن تعذر إخضاع أنفسنا لقوانين العدالة، كيف نفرضها على الآخرين؟

نحن مع العدالة لخاشقجي، بغض النظر عما تبثه "قناة الجزيرة" القطرية، وبغض النظر عما يسربه مسؤولو الحكومة التركية.

خاشقجي مات، والقصاص لمن تسبب بمقتله هو الهدف. أما الأزمات العالمية والأميركية والخليجية، ورئيس روسيا فلاديمير بوتين، وصعود الصين عالميا، فهذه من باب الثرثرة السياسية، وهي ثرثرة يجب أن تبقى بعيدة عن العدالة، وأن تصمت في حضرة الموت.

إن رمز العدالة هو سيدة تحمل ميزانا وترتدي عصبة على عينيها. هدف العصبة هو عدم الانحياز، وعدم التأثر بالتشويش السياسي والتجاري والمصالحي وغيره.

من عايش "انتفاضة الاستقلال" في لبنان، قبل عقد أو أكثر، قد يتذكر الشعور بالفاجعة الذي كان يصيب كثيرين في ما كان يعرف بـ"تحالف 14 آذار"، وهو قد يكون واحدا من الحركات السياسية التي تعرضت لأكبر عدد من الاغتيالات في التاريخ المعاصر. اغتيل رفيق، ثم سمير، ثم جورج، ثم جبران، ثم بيار، ثم وليد، ثم انطوان، ثم فرنسوا، ثم وسام، فوسام آخر، ثم محمد. تنظر إلى وجوه أقرباء المغدورين وأصدقائهم بعد كل اغتيال، تراها صفراء لا دماء فيها. الأمهات والأرامل يبكين، وأعدادهن تتزايد. شعور بالعجز أمام قاتل يقتل ويرحل. بلا رسالة، ولا بيان. لم نعرف لم قتل من قتلهم، ولم نعرف من الذي كان سيقتله بعد كل اغتيال. كل ما عرفناه هو أن رسالة القاتل كانت واحدة: اخرسوا!

اقرأ للكاتب أيضا: رأي الجماعة والرأي الآخر

على عكس كثيرين ممن كتبوا في رثاء خاشقجي، أنا لم ألتقه يوما، ولم أكن من المعجبين بكتاباته العربية. لكني أريد العدالة في قضيته، ليس من أجله وأجل عائلته وأحبابه فحسب، وإنما من أجلنا جميعا، فلا حكمة ولا حكومة بلا عدالة، ولا عدالة بلا حساب للمرتكبين.

هذه السطور ليست اتهاما للسعودية، ولا لتركيا، ولا للولايات المتحدة؛ فالاتهام يكون في المحكمة، لا في المقالات. هذه السطور هي دعوة إلى تحقيق عدالة تسمح لنا أن نعلّم أولادنا أن الشر لا يمر من دون حساب، وأن عليهم أن يتواصوا بالحق، وأن يتمسكوا بالعدل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق