الأربعاء، 21 أغسطس 2019

تريدون حرية؟!

حسين عبدالحسين

سادت القرنين الماضيين ثورات شعبية على الملكيات والإمبراطوريات، تلاها سباق بين الرأسمالية والاشتراكية. لكن في ذروة صراعات المعمورة، أجمع العالم على ضرورة الديمقراطية في الحكم، حتى تسمت بها دول استبدادية، مثل جمهورية كوريا الديمقراطية الشعبية، أي كوريا الشمالية، وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، أي اليمن الجنوبي الشيوعي المندثر.

كانت كل الحكومات تسعى لكسب ود شعوبها، واحترام العالم، بالتظاهر أنها ديمقراطية، لكنه تظاهر أفضى إلى سخرية، فخلعت دول الاستبداد قناعها، وأوعزت لأجهزة دعايتها، وللموالين لها في الغرب وحول العالم، بمهاجمة الديمقراطية، وتسخيفها، وتصويرها على أنها أداة تستخدمها الرأسمالية للسيطرة على ثروات الناس البسطاء. وربطت دعاية الاستبداد العالمي الديمقراطية بالكولونيالية "البغيضة"، وبالرجل الأبيض، "الشرير حكما".

ويتظاهر أنصار الأنظمة الاستبدادية ـ الروسية والصينية والإيرانية وغيرها ـ أن الديمقراطية هي خدعة للتعمية على مبدأ أكثر أهمية، وهو العدالة في توزيع الثروات، ويتساءلون حول فائدة حرية الرأي للمواطنين من المعوزين، ممن يبحثون عن قوتهم اليومي أو السكن أو الطبابة. ويعتبر أنصار الاستبداد أن الأجدى بحكومات الدول، والنخب المساندة لها، أن ترفع العدالة الاجتماعية إلى صدارة أولوياتها، على حساب الديمقراطية والحريات على أنواعها.

وفي النصف الثاني من العقد الماضي، صادفت دول الاستبداد سنوات سمان أفادت خلالها من فورة اقتصادية عالمية، وارتفاع أسعار المواد الأولية، وخصوصا الطاقة، ما أنعش اقتصادات ميتة واقعيا، مثل في روسيا وإيران اللتين تعتمدان على وارادات مبيعات الطاقة، فبنت أنظمة الاستبداد شرعيتها في الحكم حول التحسن الاقتصادي الملموس لمواطنيها.

لكن الاقتصادات ـ كل الاقتصادات عبر التاريخ ـ تنمو وتضمر، وتتأرجح بين بحبوحة وعوز، وهو ما يدفع حكومات الاستبداد، في السنوات العجاف، إلى تشديد قبضتها الحديدية والتشدد أكثر ضد حرية تعبير الناس عن معاناتهم وفقرهم. كذلك يخوض الاستبداد في مغامرات عسكرية خارجية لتشتيت الانتباه عن مشاكل الداخل، ولنسج ملاحم وطنية خيالية عن الكرامة الوطنية، وتحقيق انتصارات وهمية على الكولونياليين الأشرار وديمقراطيتهم.

والانتصارات العسكرية المزعومة تؤكد صحة الاستبداد وزيف الديمقراطية، حسب دعاية الاستبداد. على أن رفع الكرامة الوطنية إلى مراتب أسمى من العيش الكريم يعيدنا إلى نفس سؤال الاستبداد وأنصاره عن فائدة الكرامة لمواطنين لا يجدون قوتهم، ولكنها مفارقة تفوت أعداء الديمقراطية من أنصار الاستبداد، بشقيه القومي والإسلامي.

ويوم تفشل كل محاولات الاستبداد في تشتيت الانتباه عن فساده، ويوم تندلع التظاهرات المحلية المطالبة بالحرية، والديمقراطية، وتداول السلطة لانتخاب حكومات يمكن محاسبة سياساتها الاقتصادية إن فشلت، يبلغ الاستبداد ذروته، من سوريا إلى إيران ومن روسيا إلى الصين، وتمضي دعاية الاستبداد في اتهام المتظاهرين بالعمالة للكولونيالة والغرب والديمقراطية، ما يتطلب تكميم أفواههم ورميهم في السجون، واتهامهم بالإرهاب، الذي يتطلب حكما استخدام العنف الجماعي ضدهم، أو على حد قول أحد بلطجية الرئيس السوري بشار الأسد، أثناء ضربه متظاهرا سوريا في أولى سني الثورة السورية: "بدكن (تريدون) حرية يا ولاه؟".

لا تتقدم العدالة الاجتماعية على الحرية، ولا صلاح في استبدال أي حكومة ديمقراطية ـ وإن فاشلة في توزيع الثروات بشكل عادل ـ بمستبد، مهما كان عادلا، فالديمقراطية تسمح للمواطنين بتحديد مصيرهم بأنفسهم، وتلقي عليهم مسؤولية اختيار الحكام والسياسات، أما الاستبداد، فإما يصيب أو يخطئ، وهو إن أخطأ، لا بديل عن استمراره في الحكم، مع أخطائه وفساده وإمعانه في القمع والاستبداد.

ليست الديمقراطية ترفا فكريا، ولا هي تناسب شعوبا دون أخرى، ولا هي ترتبط بخصوصيات ثقافية. أما الحرية، فليست منّة الحاكم على المحكوم، بل إن الحكم هو منّة المحكوم على الحاكم، وإن خسر الحاكم ثقة المحكوم، يخرج من الحكم، ويتم استبداله بخادم آخر للشعب، فالشعب سيد نفسه ومصيره، والحاكم موظف عند الشعب، لا وصي عليه.

عن الحرية ينجم اختلافات وضوضاء، وعن الديمقراطية تنجم نقاشات واختلافات في السياسات وطرائق الحكم. أما الاستبداد، فيبدو هادئا، منتظما، متجانسا، لكنه نار تحت الرماد. لهذا تتأرجح الديمقراطية بين حكومات ناجحة وأخرى فاشلة، فيما تتراوح أنظمة الاستبداد بين القمع والحروب الأهلية، وعلى قول المثل الغربي "من استبدل حريته بقوته، خسر الاثنين معا".

يمكن لرئيس روسيا فلاديمير بوتين اتهام وزيرة خارجية أميركا السابقة هيلاري كلينتون بتحريض الروس ضد استبداده، ويمكنه اتهام سفير أميركا السابق في روسيا روبرت ماكفول بإدارة عملية تخريبية ضد حكمه. وبعد خروج الاثنين من الحكومة، يمكن لبوتين اتهام "يوتيوب" بتظاهر عشرات الآلاف في موسكو ضد الديكتاتورية الروسية. كما يمكن لبوتين تهديد الروس بـ "ربيع عربي". يمكن لبوتين أن يقطف كل الزهور في روسيا، لكن ذلك لن يوقف زحف الربيع، الذي سيأتي يوما على موسكو، كما على طهران، وهونغ كونغ، ودمشق، والقاهرة، وغيرها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق