الثلاثاء، 27 أغسطس 2019

إيران وجها لوجه مع إسرائيل

حسين عبدالحسين

في خضم الحرب الإيرانية ـ العراقية في الثمانينيات، لم يعلن "مرشد الجمهورية الإسلامية" الراحل روح الله الخميني "يوم النجف"، لتحرير مدينة مرقد إمام الشيعة الأول ـ علي بن أبي طالب ـ من سيطرة رئيس العراق الراحل صدام حسين. ولم يعلن الخميني "يوم كربلاء"، المدينة العراقية التي تأوي مرقد إمام الشيعة الثالث الحسين بن علي. لم يعلن الخميني نيته "تحرير" أقدس المدن لدى المسلمين الشيعة، بل هو أعلن "يوم القدس"، حيث "مسجد عمر"، الخليفة الثاني.

يصعب تفسير نوايا الخميني في تقديمه "تحرير مدينة القدس"، ذات الغالبية السنية، على "تحرير" مدن شيعية. بعض الخبراء اعتبروا أن الخميني رأى في استغلال موضوع فلسطين والقدس فرصة لتوسيع زعامة إيران خارج إطارها الشيعي، ولاستقطاب مسلمين سنة، داخل إيران وخارجها، وهو استغلال سبقه إليه كثيرون، منهم رئيس مصر الراحل السني جمال عبدالناصر، وخصم الخميني صدام حسين، الديكتاتور الدموي و"أسد السنة" لدى بعض العرب اليوم.

ومن كتبوا عن الخميني، من أمثال الأكاديمي الإيراني الأميركي فالي نصر، أشاروا إلى أن مؤسس "الجمهورية الإسلامية" في إيران لم يكترث غالبا للتفاصيل، وأنه يوم حضر نفر من مستشاري الخميني لمشاورته في شؤون الاقتصاد، أجابهم أن "الثورة لم تأت لتخفيض سعر البطيخ". وكما في الاقتصاد، كذلك في شؤون الحرب والسياسة الخارجية، أصرّ الخميني على مواصلة الحرب ضد العراق على الرغم من التكلفة المرتفعة، وهو كان يردد أن "تحرير البصرة والنجف وكربلاء" ما هي إلا الخطوة الاولى على طريق "تحرير القدس". لكن التكلفة ارتفعت إلى حدود حرّمت على إيران الاستمرار بالحرب، فخرج الخميني على الإيرانيين بخطابه عن تجرعه السم ووقفه الحرب.

منذ رحيل الخميني، تغيرت الدنيا، وشاءت الظروف ـ بسبب حرب أميركا في العراق والثورتين اللبنانية في 2005 والسورية في 2011 ضد الأسد ـ أن وجدت إيران نفسها تمسك بسيادة لبنان، وجنوب سوريا، وغرب العراق، عن طريق ميليشيات تابعة لها. هكذا، كان لإيران ما تمنت، فهذه المرة، لم يعد صدام عائقا بينها وبين "تحرير القدس"، بل صارت إيران وميليشياتها في مواجهة إسرائيل، وجها لوجه. مع هذا، لم تنهمر الصواريخ الإيرانية على الدولة العبرية.

ربما تعلّمت إيران ما تعلّمه العرب قبلها بعقود: أن للشعبوية حدود، وأن تهديد إسرائيل ووعيدها في خطابات "يوم القدس" مجاني، فيما تكلفة الحرب الحقيقية ضد إسرائيل بفلوس، الكثير الكثير منها.

أول من تعلّم الدروس من تكلفة الحرب مع إسرائيل كان أقوى تنظيمات إيران عسكريا، أي "حزب الله" اللبناني، الذي خاض حربا شرسة في العام 2006 أظهر فيها قدرات قتالية أعلى من المعتاد، بالمقاييس العربية. لكن على الرغم من قدرته في إيقاع خسائر بشرية ومادية في صفوف الإسرائيليين، لم ينجح الحزب الموالي لإيران في منع إسرائيل من إلحاق دمار شبه شامل بمناطق مؤيديه، المناطق التي تأوي ما يسميه "حزب الله" بيئته الحاضنة. هكذا، تراوحت ردود فعل الأمين العام لـ "حزب الله" حسن نصرالله على الحرب بين إعلان "نصر إلهي"، والتعبير عن ندمه للدمار الواسع الذي لحق بمناصريه وعيالهم وأملاكهم.

حاول نصرالله امتصاص غضب مناصريه بتوجيهه ضد خصوم الداخل، لكن للسياسة اللبنانية حدود، وهو ما اضطر إيران لإنفاق ما تملك وما لا تملك من أموال لإعادة إعمار مناطق "البيئة الحاضنة".(تكفلت الدول العربية بالفاتورة الأكبر لإعادة إعمار المناطق المدنية المتضررة.. أما تمويل إيران فتركز على إعادة بناء بنية حزب الله العسكرية) ولأن إعادة الإعمار كلفت الغالي والنفيس، صار "حزب الله" يصرخ بصوت أعلى مما يقاتل، وتحول "انتصار 2006" على إسرائيل إلى شبيه لـ "انتصار أكتوبر" لدى مصر وسوريا: نجاح عسكري متواضع وخسائر بالغة صارت تمنع تكرار الحرب.

إسرائيل هي أول من استخلصت الدروس من آخر حروبها مع "حزب الله"، فإذا كان الحزب يختبئ خلف بيئته الحاضنة، فلا مانع لدى الإسرائيليين من استهداف البيئة وحزبها، وهو ما يرفع تكلفة الحرب إلى مستويات تجعل تكرارها أصعب.

ولأن جبهة لبنان تجمّدت، راحت إيران تبحث عن بدائل، فوجدتها في جنوب سوريا وغرب العراق. لكن إسرائيل هذه المرة عاكفة على منع الإيرانيين من إقامة بنية عسكرية في الخفاء، فراح الإسرائيليون يستخدمون تفوقهم التكنولوجي والناري ـ الذي لا يقاس ـ باستهداف إيران وحلفائها في هذه المناطق.

أما إيران، فأقصى ما يمكنها هو تنفيذ عمليات ضد الداخل الإسرائيلي تعيد للإيرانيين بعض ماء الوجه. أما "تحرير القدس"، فسيبقى العنوان الأول والوحيد، في "يوم القدس" و"يوم الشهيد" وأيام "النصر" الكثيرة، وستستمر ضوضاء "تحرير القدس" في التشويش على الحديث عن كل المواضيع الأخرى، مثل انهيار اقتصادات إيران وسوريا ولبنان، وانعدام الحرية فيها، وهجرة مواطنيها ـ بل فرارهم ـ إلى أي بقع في العالم تأويهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق