الثلاثاء، 15 أكتوبر 2019

بين دموية الطغاة وفوضى الثوار

حسين عبدالحسين

أعلنت إيران نشر آلالاف من جنودها داخل الأراضي العراقية لضمان أمن مراسم الأربعين التي يقيمهاالمتدينون الشيعة لذكرى إمامهم الثالث، الحسين بن علي. يشبه هذا الإعلان العذر الذي اتخذه زعيم "حزب الله" اللبناني الموالي لطهران حسن نصرالله، يوم برّر تدخل مقاتليه في الحرب السورية ـ لمصلحة رئيس النظام بشار الأسد ـ بالقول إن هدف حزبه هو حماية مقام السيدة زينب، ابنة الحسين، جنوبي دمشق.

على أن الاحتلال الإيراني للعراق لا يهدف حماية أربعين الحسين، بل هدفه مواصلة تقويض أي مجموعات عراقية معارضة للسيطرة الإيرانية التامة على العراق، مثل السنّة، الذين لفّقت لهم طهران، جماعيا، تهمة الانتماء لحزب البعث العراقي، على الرغم أن إيران ترعى بسرور حزب البعث السوري.

وفي الشمال، استفادت إيران من غلطة فادحة ارتكبها مسعود البرزاني، الذي حاول إعلان استقلال الإقليم الكردي، فاجتمعت عليه دول الجوار، لا لأن دولة بلا منافذ بحرية تشكل خطرا على أي منها، بل لأن معاداة الكرد هي جزء من الخطاب القومي الشعبوي الذي يلجأ إليه بعض حكام الجوار.

وبعد إبادة السنّة العراقيين، وإبقائهم في الخيم بدون أموال حكومية تذكر لإعادة إعمار مدنهم، ومع إضعاف الكرد، راحت إيران وميليشياتها تتصيد العراقيين المعارضين لها فردا فردا، صحافي هنا، ممثل هناك. وبلغت وقاحة إيران أن مؤسساتها راحت تتحدث باسم دولة العراق، فأصدر الإيرانيون تصريحات وصفت التظاهرات العراقية ضد الفساد الحكومي العراقي بالإرهابية التي تعمل بإمرة الإمبريالية.

أما مرشد إيران علي خامنئي، فبات مثل رئيس سوريا الراحل حافظ الأسد، الذي تحدث عن اللبنانيين والسوريين كشعبين في بلد واحد. راح خامنئي يتحدث باسم الإيرانيين والعراقيين سوية؛ وعلى قول المثل الإنكليزي: من مات ونصّب خامنئي ملكا للعراق؟

ومع انتشار قوات إيران وميليشياتها في الدول التي صارت تشكل "هلال الولي الفقيه"، أي إيران والعراق وسوريا ولبنان، تنتقل منطقة الشرق الأوسط إلى مرحلة "ما بعد الربيع"، أي أن هذه الدول تعود من الفوضى إلى الطغيان. مع فارق وحيد أن طغيان ما قبل الربيع العربي كان طغيانا قوميا مارسه العسكر من أصحاب الشوارب والبزات العسكرية، وصار اليوم طغيانا إلهيا يمارسه الملالي من أصحاب اللحى والعمائم.

أما النتيجة فمتطابقة، وفيها منع دموي للحريات، والقبض على ثروات ومقدرات البلدان، ووضعها في تصرف مجموعة صغير تحيط بالإمام الحاكم وأزلامه، وتمول آلة القمع وشراء الذمم التي يديرونها.

مؤسف هو الحال الذي وصلت إليه الأمور في إيران والعراق وسوريا ولبنان، التي يبدو أنها تعيش بين خيارين لا ثالث لهما: دموية الطغاة أو فوضى الثوار. ولا شك أن فوضى الثوار، في الفترات التي سادوا فيها بعض الحكومات أو المناطق، ساهمت بشكل كبير في عودة الطغيان.

نبدأ في العراق، أولى الدول التي انهار استبدادها بالقوة العسكرية الأميركية، وأظهر مواطنوها انعدام الثقافة المدنية والسياسية. أول ما فعله العراقيون كان إقامة مراسم الحسين واللطم، ثم الثأر من السنّة عموما بسبب طغيان صدام، على الرغم أن غالبية السنة كانوا ـ مثل الشيعة والكرد ـ عرضة لدموية الرئيس الراحل صدام حسين، الذي لم يتوان حتى عن قتل ابن خاله وشقيق زوجته وصديق طفولته خيرالله طلفاح، أو نسيبيه صدام وحسين كامل.

بعد الثأر الشيعي العراقي للتاريخ وللمستقبل، تفرّغ حكام العراق الجدد للفساد. وبسبب عائدات النفط العراقية الضخمة، تحول العراق إلى أكبر بؤرة للفساد على وجه المعمورة، وراح الحكام يشتتون الانتباه عن فسادهم بالتحريض الطائفي، فكان أول ما قام به رئيس الحكومة السابق نوري المالكي، في اليوم الذي تلا انسحاب أميركا من العراق نهاية 2011، هو إرسال دباباته لمحاصرة دار نائب الرئيس السني السابق طارق الهاشمي بتهم الإرهاب. أما الهاشمي والسنّة، فبادلوا العنف بالعنف، وتحول عنف صدام الأحادي إلى فوضى من العنف العشوائي.

وبعد العراق، ثار لبنان على استبداد حكام سوريا من آل الأسد، وأجبر بشار الأسد على سحب قواته من لبنان. لكن كما في العراق، الذي تحول ضحايا عنفه إلى جلادين، انقلب ثوار لبنان على بعضهم البعض، وعلى مبادئهم، فتحوّل ميشال عون من ضيف في واشنطن لدى دانيال بايبس، أحد أصدقاء إسرائيل الأميركيين، إلى ضيف في طهران لدى خامنئي، وحليف لآل الأسد، الذي كانوا اقتلعوا عون أثناء ترأسه حكومة عسكرية وأرسلوه إلى منفاه الفرنسي. أما من تبقى من ثوار لبنان للعام 2005، فانشغلوا في القشور وصغائر الأمور، فكان خلاف على كرسي برلماني محلي في دائرة الشوف الانتخابية كفيلا بتحطيم تحالف سياسي يتنافس في صراع إقليمي.

وبعد لبنان، ثارت إيران، على الفساد والملالي، لكن جنود "الجمهورية الإسلامية" لم يتوانوا عن قتل الإيرانيين العزّل في وضح النهار، وفي الشوارع، بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، فقتلوا "الثورة الخضراء"، ونقلوا التجربة الدموية نفسها إلى سوريا، وبعدها إلى العراق.

وفي سوريا، عندما لم يف قتل المتظاهرين العزّل في الشوارع بالمطلوب، راح الأسد يرمي عليهم صواريخ سكود، وأغار عليهم بمقاتلاته، ثم ببراميل متفجرة وأسلحة كيماوية، واستهدف مدنيين، وبيوت، ومخابز، ومستشفيات، حتى أن الأسد نفسه تحدث عن "التجانس السكاني" الذي حققته دمويته، فوق أنقاض سوريا وركامها.

ومثل في العراق ولبنان، كذلك في سوريا، بالكاد قدم الثوار أي بارقة أمل تشي بقدرتهم على الوقوف كبديل لحكم جائر، فتحولت تنسيقيات التظاهرات العفوية إلى مجموعات ثوروية فوضوية، تطلق النار على بعضها البعض أكثر منها على الأسد.

أما الضحالة الفكرية، فظهرت فداحتها جلّية لدى الثوار، إذ باستثناء بعض المثقفين السوريين وكتاباتهم، تصدّر المشهد السوري قادة العصابات، الإسلامية في الغالب، وانشغلت هذه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأن مشكلة سوريا كانت سفور نسائها في مساحاتها العامة لا دموية وطغيان آل الأسد.

الطريق نحو الديمقراطية لم يكن يوما خطا مستقيما، بل لطالما كان متعرجا محفوفا بالحروب الأهلية، مثل في أميركا، والنكسات والعودة إلى الاستبداد، مثل في فرنسا، لكنه طريق يصل حتما إلى الديمقراطية والحرية والعيش الكريم، ربما ليس في حياتنا أو حياة أولادنا، ولكنه سيصل يوما ما، حتما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق