الثلاثاء، 22 أكتوبر 2019

لبنان ينتفض

حسين عبدالحسين

جاع اللبنانيون، فانتفضوا. هم لا يعرفون أسباب جوعهم بالضبط، ولا أفكار لديهم لمعالجتها. كل ما يعرفونه أن العيش ضاق، فخرجوا إلى الشوارع يصرخون.

واللبنانيون ظرفاء في ثوراتهم، فالاختلاط الجندري في تظاهراتهم من الأعلى بين الدول العربية، ويندر أن يتعرض النساء لأي تحرّش من مثل الذي تعرضت له النسوة، مثل في "ربيع مصر".

واللبنانيون أنيقون بغالبيتهم، بغض النظر عن دخلهم، ويتظاهرون بفرح، وغالبا ما يعقدون حلقات الرقص المحلي المعروف بالدبكة، وهو ما يجعل اتهام المتظاهرين بالإرهاب الاسلامي صعبا. كما اتسمت التظاهرات، التي اندلعت الأسبوع الماضي، بالعفوية، وبغياب تابعين الزعماء وأحزابهم، وغياب أعلام هذه الأحزاب أو شعاراتها.

وبسبب العفوية وغياب التنظيم، صارت الانتفاضة اللبنانية بلا أهداف سياسية ولا مطالب، وصار من غير المعروف ما الذي يرضي المتظاهرين ويخرجهم من الشارع. بعضهم يطالب باستقالة حكومة سعد الحريري، وبعضهم يضيف إليها استقالة رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس البرلمان نبيه بري.

على أن ما يجمع عليه منتفضو لبنان هو شتم قادتهم، خصوصا وزير خارجيتهم جبران باسيل، صهر عون الذي يستعد لخلافته في الرئاسة، الذي نال الحصة الأوزن من الشتائم، يليه زعيم "حزب الله" حسن نصرالله، الذي يحاول دائما إسباغ هالة من القدسية على نفسه تجعل من التعرض له بمثابة الكفر الديني، إذ ردد المتظاهرون أن "كلهم (السياسيين) يعني كلهم، نصرالله واحد منهم". وإقحام نصرالله لم يكسر قدسية رجل إيران في لبنان فحسب، بل عكس اعتقادا لدى اللبنانيين أن "حزب الله" ليس حزبا متفرغا للحروب فحسب، بل هو راع للفساد اللبناني الذي يتسبب بالجوع والشقاء.

وأمام الانتفاضة الشعبية التي تجري في ساحات المدن الكبرى كما في أزقة البلدات الصغرى، سارع بعض زعماء لبنان إلى الالتحاق بها، وتصوير أنفسهم منها، فأعلن باسيل أن الانتفاضة مكملة للإصلاح المزعوم الذي بدأه عون، الذي يسمي تكتله البرلماني "الإصلاح والتغيير". ومضى رئيس حزب "القوات اللبنانية" المسيحي الماروني سمير جعجع، وزعيم الدروز وليد جنبلاط، أبعد من باسيل، فأعلن الأول استقالة وزرائه من الحكومة، وأعلن وزراء الثاني ورقة إصلاح مالي، ومثله الحريري اقترح تخفيض رواتب الوزراء وأعضاء البرلمان بواقع النصف، فضلا عن خطوات اقتصادية إصلاحية أخرى. لكن إعلان حكام لبنان، الذين أوصلوه إلى ما هو عليه، الإصلاح هو مثل تكليف الذئب بحماية القطيع.

ثم أن الإصلاحات، حتى لو تمت، لن تدفع الاقتصاد اللبناني إلى النمو. فالفساد يفاقم من الأزمات، ولكنه لا يمكنه إفقار شعب بأكمله، والغالب أن الخروج من الأزمة اللبنانية يحتاج إلى تدفق عملات أجنبية، وهذه بدورها تحتاج إلى استقرار وإلى التخطيط على المدى الطويل، وهو أمر متعثر في دولة مثل لبنان حوّلها "حزب الله" إلى معسكر في حالة حرب دائمة، تارة للقضاء على إسرائيل، وطورا للثأر لأي حرب على إيران، أو للانغماس في الحرب السورية المجاورة، أو لشتم دول الإقليم، مع ما يكلّف ذلك لبنان من عداوات إقليمية تقلّص من إمكانيات التعاون التجاري والسياحي والمالي، وتعيق تاليا نمو الاقتصاد اللبناني.

يوم انتهت الحرب الأهلية في لبنان في 1992، باشرت الحكومات بناء البلاد على أساس التوصل إلى سلام إقليمي مع إسرائيل، فيما واصل "حزب الله" حربه مع إسرائيل بسبب احتلالها الجنوب اللبناني.

هكذا، سارت إعادة إعمار لبنان والحرب مع إسرائيل جنبا إلى جنب، وأدت الحرب إلى رفع تكلفة الإعمار بسبب ارتفاع نسب الفائدة على الدين المطلوب لتمويله. واستفاد نظام وصاية آل الأسد في سوريا على لبنان، فكان يمكن استخدام "حزب الله" لابتزاز الغرب أمنيا، وفي الوقت نفسه الإثراء من الفساد اللبناني.

وبعد اغتيال رئيس الحكومة رفيق الحريري في 2005، أصرّ نصرالله على العودة إلى الترتيب السابق، أي أن ينغمس قادة لبنان بالفساد، وأن يتركوا السياسة الدولية والإقليمية والأمنية لـ "حزب الله". لكن بعد زوال الاحتلال الإسرائيلي، لم يعد تزاوج الإعمار و"المقاومة" مقبولا، وأجبر العالم لبنان على الاختيار، فاختار نصرالله عن اللبنانيين: لبنان بلد في "محور المقاومة" مع إيران وسوريا والعراق، أي الدول التي انهارت عملتها الوطنية ويموت ناسها من الجوع.

القضاء على الفساد واجب في لبنان، ومن المفيد أن يعرف باسيل والحريري أن اللبنانيين ليسوا أغبياء، وأنهم يعرفون أن باسيل لم يرث ثروة تبرر أسلوب حياته الباذخ، وأن ليس لباسيل ولا للحريري مواهب سياسية تؤهلهما ترؤس البلد، بل أن الرجلين ورثا زعامتها، الأول عن حميه والثاني عن أبيه، ومثلهما عدد كبير من ورثة الزعامات في لبنان، مثل جنبلاط وفرنجية والجميل.

واللبنانيون يراقبون ويعرفون، منذ زمن، أن لا برّي ولا زوجته ولا صهره ورثوا طائرات خاصة، ولا عقارات ثمينة وأرصدة في بنوك العالم، بل إن جلّ أموال بري وعشيرته هي من جيوب اللبنانيين، خصوصا "المحرومين" الذين تسلّق بري السلطة على ظهورهم.

ومن المفيد أن يعرف نصرالله أن اللبنانيين يعلمون أن مغامراته العسكرية الإقليمية مكلفة، وأنها دفعت المجتمع الدولي إلى نبذ لبنان وإقصاء اقتصاده، وهو سبب نفاذ العملة الصعبة في البلاد، وسبب بدأ انهيار سعر صرف العملة الوطنية، وأنه حتى لو أبدل لبنان كل قادته وقضى على الفساد، سيبقى اقتصاده متهالكا بسبب العزلة الدولية التي اختارها "نصرالله" للبنانيين باختيار "محور الممانعة" على باقي العالم.

ربما على غرار مصر والعراق وسوريا، لن تفضي انتفاضة لبنان إلى التغيير المنشود. لكن من المفيد أن يعرف باسيل والحريري ونصرالله وبري أن اللبنانيين ليسوا أغبياء، وأنه يمكن استغلال العصبية الطائفية لدى الناس وتحريضهم على بعضهم البعض ليوم، أو لأسبوع، أو لسنوات، لكن الناس ستعي يوما أن سبب شقائها هو زعماء لبنان لا المتظاهرين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق