الثلاثاء، 17 ديسمبر 2019

فلسطين كأداة قمع

حسين عبدالحسين

كان آخر ما يحتاجه اقتصاد لبنان المتهاوي تصريحات مستشار قائد "الحرس الثوري الإيراني"، مرتضى قرباني، الذي قال، الأسبوع الماضي، إن إيران سترد على أي اعتداء عليها "بتسويتها تل أبيب بالأرض، انطلاقا من لبنان". تصريحات قرباني جاءت في وقت كان رئيس لبنان ميشال عون يستجدي الدول العربية تقديم مساعدات نقدية للبنان، وفي وقت كان صهره الطامح لخلافته جبران باسيل يهدد أوروبا أنها إن أحجمت عن تمويل الخزينة اللبنانية، سيغزوها اللاجئون السوريون والفلسطينيون، الذين يشتمهم باسيل أصلا في كل مناسبة.

اقتصاد لبنان ينهار، وعملته الوطنية تتدهور بسبب نفاد احتياطي العملات الصعبة من خزائن المصرف المركزي، وهو ما يعني أن البلاد بحاجة ماسة إلى النقد الأجنبي، والذي يأتي في الغالب على شكل استثمارات أجنبية وسياحة. لكن المستثمرين والسياح يبحثون عن الأمان والاستقرار، ومن المستحيل أن يأتوا وأموالهم إلى بلد مثل لبنان، معرّض لحرب في أي لحظة.

لبنانيون كثيرون يعلمون أن إخراج لبنان من حالة الحرب الدائمة، التي يبقيه فيها "محور الممانعة" بقيادة إيران، هو حجر الأساس في أي مشروع للتعافي الاقتصادي. لهذا السبب، عقد ثوار لبنان، في جلسات نقاشاتهم المتواصلة في "خيمة الملتقى" وسط البلد، جلسة حوارية عن ضرورة "الحياد الإيجابي"، وهي السياسة التي تتبناها دولة الكويت، وترتكز على حل الخلافات الإقليمية بصورة سلمية وعن طريق الحوار، وتفادي الحرب. والحياد الإيجابي لا يعني أن لبنان لا يتخذ موقفا في ديبلوماسيته أو سياسته الدولية، ولكنه يعني أن لبنان لا ينخرط في أية صراعات مسلحة، ولا حروب استباقية.

على أن الحياة بدون حروب أمر يزعج "حزب الله"، صاحب الكلمة العليا في سياستي لبنان الخارجية والعسكرية، إذ سبق لزعيم الحزب حسن نصرالله أن قال علنا إن حزبه "سيرد" في حال تعرضت إيران لأي هجمات أميركية، وهو نفس الكلام الذي كرره السيد قرباني في طهران.

ولأنه مكتوب على لبنان واللبنانيين العيش في "حال حرب دائمة"، ثار "حزب الله" ضد النقاش عن "الحياد الإيجابي"، وأطلّ مناصروه ليحاصروا "خيمة الملتقى"، وليهللوا للموت وللحرب ولفلسطين وللقدس، وهذا بيت القصيد: فلسطين تحولت إلى آداة قمع يستخدمها طغاة العرب والفرس والأتراك لإسكات معارضيهم.

وما يزيد في الطين بلّه هو موقف القيادة الفلسطينية، المؤيد للطغاة، منذ وقوف ياسر عرفات إلى جانب صدام حسين لاستعراض الجيش العراقي العائد من غزو الكويت، إلى توجيه محمود عبّاس برقية هنأ فيها "أخيه" بشار الأسد على "انتخابه" لولاية رئاسية ثالثة.

كان يمكن للبنانيين والعراقيين والسوريين تجاهل القيادة الفلسطينية لو أظهرت النخب الفلسطينية مواقف معاكسة لقيادتها، ولو اختارت النخب الوقوف إلى جانب المطالبين بالحرية والديمقراطية في دمشق وبيروت وبغداد. لكن الصمت الفلسطيني مزعج إلى درجة استفزت أكثر أصدقاء فلسطين من العرب، اللبناني الياس خوري، الذي كتب رسالة إلى الفلسطينيين سألهم فيها: "ألا تشعرون أيتها الرفيقات والرفاق أن اللغة القديمة ماتت، وأن فلسطين باتت تعيش في مقبرة لغوية وثقافية وسياسية؟".

وأضاف خوري: "فكرة الحرية تتخذ اليوم مسارات جديدة، عنوانها النضال من أجل المساواة والديمقراطية. كيف لا تكون فلسطين جزءا من هذا النضال؟ وإذا لم تكن كذلك فماذا تكون؟" وتابع أن فلسطين "صارت ساحة لصراعات المنطقة التي لا تريد من فلسطين سوى أن تكون غطاء لعهرها واستبدادها"، وأنه "ليس أمام شعوب المنطقة سوى طريق واحد اسمه بناء مجتمعات وسلطات ديمقراطية تسمح لشعوبنا باستعادة كرامتها، من أجل الخروج من هاوية الانحطاط والإفقار والإذلال".

حتى الفلسطيني الإسرائيلي المنفي في قطر عزمي بشارة، قال إن قضية فلسطين تم استخدامها "أداة في الصراع بين المحاور العربية في زمن الحرب العربية الباردة، ولتثبيت شرعية الأنظمة داخليا أيضا، إلى درجة وضعتها بشكل مصطنع في مواجهة التطلعات المشروعة للشعوب تحت دعوى لا صوت يعلو فوق صوت المعركة".

وقال بشارة إن "الأغراض الباطلة لمقولة (أن فلسطين) قضية العرب الأولى هي مقولة حق يراد بها باطل، وتتلخص في استخدامها لتهميش قضايا المظلومين الأخرى، واتهام كل من يثير قضايا أخرى في الوطن العربي غير قضية فلسطين بالتخلي عن الأخيرة".

وختم أن هذا المنطق يفترض "عدم التضامن مع المضطهَدين في أي دولة عربية. فعلى سبيل المثال، لا يجوز اتخاذ موقف من مذبحة الشعب السوري وعمليات الإبادة الجماعية التي تعرّض لها، لأن هذا سيكون على حساب قضية فلسطين. وهو منطق أقل ما يقال في وصفه إنه معتل".

خوري وبشارة هم من مفكري النخبة العربية ممن لا غبار على دعمهم للفلسطينيين، وهم ممن لا تنطلي عليهم هتافات عن القدس وفلسطين يصرخها مناصرو "حزب الله" وسط بيروت للتشويش على حوار حول ضرورة حياد لبنان كسبيل لخروجه من مأزقه الاقتصادي.

وخوري وبشارة يعلمان أن صراخ "فلسطين" وسط بيروت هدفه ترهيب أصحاب أي رأي مغاير لرأي الحاكم، وإجبار المغايرين على الحديث عن حروب ومعارك، أو الصمت المطبق في كل الشؤون الأخرى.

ونحن هنا لا نتفق بالضرورة مع خوري وبشارة حول ضرورة استمرار المواجهة العربية ضد إسرائيل، وإن بأشكال سلمية حصرا، لكننا نتفق معهما في ضرورة سماعنا رأيهما، وسماعهما رأينا، وحول ضرورة انتشار الديمقراطية في دنيا العرب، بغض النظر عمّا يجري في فلسطين، فإن كان خوري وبشارة ينشدان الديمقراطية من أجل مواجهة إسرائيل سلميا، فغيرهما من ينشد الديمقراطية من أجل التوصل لسلام مع إسرائيل، ولكل رأي من الطرفين نقاط ضعف وقوة.

لكن أن يخرس خوري وبشارة، ويخرس أصحاب رأي "الحياد الإيجابي" في بيروت، ويخرس من يطالبون بالسلام، ويصبح الرأي الوحيد "الحرب على من لا يريدون الحرب"، فهي سياسة تحوّل فلسطين إلى أداة قمع في أيدي الطغاة من طهران إلى بغداد فدمشق وبيروت، وهي سياسة تضر الإيرانيين والعراقيين والسوريين واللبنانيين، وهي حتما لا تنفع الفلسطينيين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق