الثلاثاء، 18 فبراير 2020

لما لا ينشغل رجال الدين الشيعة بالعبادة؟

حسين عبدالحسين

مقلق أن يتصدر رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر المشهد السياسي في العراق. اهتزاز الرجل فكريا وثقافيا وعاطفيا واضح. تصريحاته غامضة. مواقفه متضاربة. يقول الشيء وعكسه، ويفعل الشيء وعكسه. من غير المفهوم من مات وطوّب مقتدى ملكا على العراق: لم ينتخبه أحد، لم يعينه أحد في أي منصب حكومي، ولم يكن صوته مسموعا لولا أنه من عائلة الصدر. ولم تكن لعائلة الصدر أهمية لولا هوس عدد كبير من الشيعة برجال دينهم، وتطويبهم كقادة عظام.

آل الصدر ينحدرون من رجل دين من جنوب لبنان هرب من سجون والي عكا أحمد باشا الجزار إلى النجف، واستقر فيها، واستقر عدد من أبنائه في إيران. في العام 1959، انتقل موسى الصدر من إيران ليشغل منصب مفتي في جنوب لبنان، وأقنع غالبية شيعة لبنان أنهم مستضعفون مهمشون ماسحو أحذية، وأنه سيحصّل لهم حقوقهم من دولة لبنان. طبعا لم يختلف الشيعة عن باقي اللبنانيين في مستوى انتشار الفقر في صفوفهم، بل كانوا كغيرهم من الطوائف، فيهم من الإقطاع والثراء، وفيهم من النخبة، وفيهم كذلك من المعدومين، وخصوصا في الأرياف.

لم يؤيد الصدر الإطاحة بشاه إيران، ولا هو كان من أصدقاء الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، بل إن الصدر صادق جنرال سوريا الصاعد حينذاك حافظ الأسد (عدو عرفات)، ومنحه فتوى نصت أن طائفة الأسد العلوية هي مذهب إسلامي، ما سمح للأسد بالاستيلاء رسميا على منصب رئيس سوريا. والعلويون ليسوا من الشيعة ولا المسلمين في شيء، بل هي ديانة صوفية باطنية، تؤمن بتناسخ الأرواح، وبعض تعاليم الفلسفة اليونانية. وبعد سنوات من عمله ممثلا لشيعة لبنان، وإجهازه على زعامات الشيعة التقليدية، اختفى الصدر في ظروف غامضة في ليبيا في العام 1978.

تزامن صعود الصدر في لبنان مع صعود قريبه محمد باقر الصدر في العراق، وتأسيسه "حزب الدعوة الإسلامية". ولمحمد باقر مؤلفات في الفلسفة والاقتصاد يعتقدها أتباعه أعمالا ذات شأن، فيما هي فعليا ضحلة بمقاييس العلوم الإنسانية. صدر العراق لم يتحول إلى مرجعية دينية عليا، ربما لأنه كان منشغلا عن الدين بالسياسة، وهو كان أول من قدم "الحكومة الإسلامية" بصيغتها الأكثر بدائية، أي أن يلعب رجال الدين دور ناصحي الحكومة، لا أن يحكموا بأنفسهم.

تلقف الخميني هذه الفكرة أثناء سني نفيه في النجف، وطورّها إلى حكومة إسلامية بزعامة ولي فقيه واحد. ومثل فكر الصدر، جاء فكر الخميني عن شكل الدولة الإسلامية ضعيفا مفككا، فهي جمهورية، إذن تستمد شرعيتها من الشعب، وفي نفس الوقت يتربع على رأس الحكم فيها رجل دين بالنيابة عن إمام الشيعة الثاني عشر محمد بن الحسن، الذي يعتقد الشيعة أنه حي ومتواري عن الأنظار منذ 12 قرنا، وأنه سيعود في آخر الزمان، ويسمونه المهدي. هكذا، يصبح مصدر السلطات في "الجمهورية الإسلامية" غامضا: هل هو الشعب؟ أم الإمام الغائب؟ أم من؟

لم يتحمل رئيس العراق الراحل الطاغية صدام حسين محاضرات رجال دين النجف عن شكل الحكم والحكومات، فأراد تصفية الخميني، لولا أن أميركا أوعزت لشاه إيران محمد رضا بهلوي بعدم الموافقة على ذلك. ربما كانت واشنطن تخشى الشيوعية أكثر من الإسلام السياسي، واعتقدت أنه يمكن للشاه الاتكاء على الخميني والدين لمواجهة الخطر الشيوعي. وفي العام 1980، قامت استخبارات صدام بتعذيب محمد باقر الصدر بثقب جمجته بمثقب كهربائي، على غرار إعدامات تنظيم "داعش" الإجرامية.

وفي منتصف التسعينيات، برز صدر ثالث في بغداد هو محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى، وانشغل مثل قريبيه موسى ومحمد باقر بالسياسة أكثر من العبادة، وأفاد من الحصار الاقتصادي الدولي، الذي تسبب بفقر ومجاعة في العراق، ليجني شعبية عارمة في مدينة الثورة، ضاحية بغداد التي اتخذت اسمه بعد انهيار نظام صدام، الذي كان صفّاه في 1999.

وبعد سقوط صدام في 2003، برز مقتدى نجل محمد محمد صادق. منذ ذلك التاريخ والعراقيون مجبورون على مواكبة بهلوانيات مقتدى: يقيم "جيش المهدي"، ثم يحلّه، ثم يقيم "سرايا السلام"، فـ "القبعات الزرقاء". يزور طهران، ثم الرياض، ثم طهران مجددا، ويصدر تصريحا مع عروبة العراق، وآخر يرضي إيران، وبينهما تصريحات غير مفهومة.

لا أفكار تنويرية تذكر للصدريين الأربعة، ولا سبب لما على اللبنانيين أو العراقيين الاستماع لما يقولونه أو الاقتداء به. ومثل الصدريين، تبدو ضحالة فكر الخميني جليّة، وينقل معاصروه عنه تصريحات عجيبة، مثل قوله إن شعوره لدى وصوله طهران من منفاه الباريسي كان "هكذا"، أي لا شعور، وتعليقه على حوار مع الاقتصاديين الذين أرادوا استمزاج رأيه بقوله إن "الثورة الإيرانية لم تأت لتخفّض سعر البطيخ".

ومثل الخميني خلفاؤه: مرشد إيران الأعلى علي خامنئي غالبا ما يطلق تصريحات عجيبة: يريد إقامة "اقتصاد المقاومة"، الذي تبدو نتائجه "الباهرة" في انهيار اقتصادات إيران ولبنان واليمن، ويتحدث في العلاقات الدولية.

ومثل خامنئي زعيم "حزب الله" اللبناني حسن نصرالله، الذي يتعامل بعض اللبنانيين مع تصريحاته وكأنها الوصايا العشرة، فيما نصرالله يناقض نفسه باستمرار: يشن حربا "استباقية" على إسرائيل، ثم يعبّر عن ندمه لشنّها، ويصرّ أن إسرائيل قتلت رئيس حكومة لبنان السابق رفيق الحريري من دون أن يتوعد اسرائيل بالثأر، على عادته. ثم يحاضر في الاقتصاد، ويرى أن حلّ انهيار مخزون الاحتياطي النقدي الأجنبي هو بيع بطاطا لبنان للعراق.

يقول المثل "أعط خبرك للخبّاز ولو أكل نصفه"، وهكذا على الأحزاب الشيعية في العالم أن يخلعوا الهالة الإلهية عن أفكارهم ونقاشاتهم في الحكم والاقتصاد والسياسية، وأن يطلبوا من رجال دينهم أن ينشغلوا بالعبادة، وأن ينخرط الشيعة في دنيا الحاضر واقتصاد العالم، وأن يخرجوا من التاريخ، فكربلاء عبرة للمؤمنين حول الصبر على البلاء، لا درس في الاقتصاد والسياسة والعلاقات الدولية.

ربما حان الوقت أن ينشغل رجال الدين الشيعة بالعبادة، وأن ينشغلوا عن العباد، وأن يتركوهم يتدبرون شؤون الدنيا بعيدا عن الدين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق