الثلاثاء، 21 يوليو 2020

"ثقافة الإلغاء" والإسلام السياسي وفلسطين

حسين عبدالحسين

في رسالة تضمنت نقدا لاذعا لصحيفة نيويورك تايمز، استقالت الكاتبة باري وايز من منصبها في الصحيفة، وعزت استقالتها إلى "ثقافة الإلغاء" السائدة في صفوف العاملين في الصحيفة، وهي ثقافة التمسك برأي سائد بين مجموعة، ورفض نقاش أي آراء مغايرة، بل اعتبار الآراء المغايرة عنصرية لا تستأهل حتى التعبير عنها أو مناقشتها، تحت طائلة اقتطاعها من الصحيفة وتعيير من يعبّرون عنها، بل شتمهم وتقذيعهم، خصوصا عبر مواقع التواصل الاجتماعي، والدعوة لمقاطعتهم، أو دعوة من يوظفهم إلى طردهم من مناصبهم، أو دعوة الشركات المعلنة إلى الامتناع عن الاعلان في مواقعهم أو برامجهم التلفزيونية.

قبل وايز بأسبوع، وقّع 150 من أشهر الكتّاب والمثقفين في العالم — مثل سلمان رشدي ومؤلفة سلسلة هاري بوتر جاي كاي راولينغ — على عريضة أثنت على إعادة فتح موضوع العدالة العرقية في الولايات المتحدة، ولكنها أعربت عن قلقها من أن النقاش العرقي أفضى إلى "خنق النقاش المفتوح"، وأدى لانتشار ثقافة التعييب العام والإقصاء، والتمسك بمواقف يصرّ أصحابها، بشكل أعمى، أنها أخلاقية حتما.

"ثقافة الإلغاء" في الولايات المتحدة والغرب تأتي غالبا من صفوف المعروفين بأقصى اليسار، أي الجناح الذي يسمي نفسه "تقدميا" في الحزب الديموقراطي، من أمثال السناتور بيرني ساندرز وأعضاء الكونغرس إليشا كورتيز وإلهان عمر ورشيدة طليب. وهذا الجناح لا يواجه اليمين، أي الحزب الجمهوري، فحسب، بل هو يواجه يسار الوسط، أي باقي الحزب الديموقراطي، بمن في ذلك الرئيس السابق باراك أوباما، والمرشح للرئاسة جو بايدن، ورئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي، وهو ما دفع أوباما نفسه الى مهاجمة هذه الثقافة علنا.

لم يكن الآباء المؤسسون للدولة الأميركية غافلين عن الفارق بين الهوية والمصلحة، فشيدوا الولايات المتحدة بناء على مصلحة مواطنيها، أي الحياة والحرية والسعي للسعادة، وأبقوا الدين خارج الدولة. لم يمنعوا الدين أو ممارسته، اذ أن حرية العبادة في صلب الحريات، لكنهم رفضوا اقامة وطن بناء على أي هوية دينية او عرقية.

أما اليسار الأميركي، فيبدو أنه يهوى مناكفات الهويات، وهو أمر ينافي مبادئ اليسار، الذي ينظر الى الشأن العام من زاوية المصلحة والتنافس بين الطبقات، لا من زاوية التنافس بين القبائل والأعراق. لهذا السبب، رفض ساندرز مقترح تعويض سليلي العبيد عن عبودية أجدادهم، وأصر تخصيص الإنفاق الاجتماعي الحكومي لمن هم أكثر حاجة، بيضا كانوا أم سودا أم من أعراق أخرى. لكن حتى ساندرز، الذي يقدم نفسه كعقائدي يحكي ضميره، تراجع — أمام "ثقافة الإلغاء" الجارفة — عن رفضه تعويضات العبودية.

المثقف المشهور بمقالته "نهاية التاريخ"، فرانسيس فوكوياما، نشر بحثا في دورية "فورين أفيرز" تعجّب فيه كيف دار الزمان وصار الناس يعلون هويتهم على مصالحهم. في الماضي، كان الموظف يتلون بحسب السائد ليحقق نجاحات، واليوم، صار الموظف يضحي بوظيفته للحصول على امتيازات تناسب هويته، وهو أمر جيد أحيانا، ولكنه سيء في أحيان كثيرة اخرى. مثلا، اشتكت موظفة مسلمة أميركية محجبة من تمييز عانت منه حرمها عملها في محلات ثياب "ايبر كرومبي فيتش"، فحكمت المحكمة العليا بوجوب منحها الوظيفة. لكن من يعرف محلات الثياب هذه يعرف أن "الموضة" فيها ترتكز على بعض العري، وهو ما يجعل من عمل محجبة في محل لا تتناسب موضته وزيّها الديني مواجهة هوياتية سياسية أكثر منها منطقية مصلحية.

للمنحدرين من جذور شرق أوسطية، تبدو "ثقافة الإلغاء" مألوفة. مثلا، يستحيل أن يفهم بعض الشيعة كيف يمكن لمن هم مثلي، من المولودين في عائلات شيعية، أن يتخذوا مواقف سياسية معارضة لإيران وميليشياتها، مثل "حزب الله" اللبناني، وكأن رأي الناس بالوراثة. أما من يعثرون على إجابة لهذه الأحجية المحيرة لهم، فغالبا ما يعتبرون أن مواقفي مصالحية مبنية على خطب ود آراء أرباب عملي. في مخيلة هؤلاء الشيعة، يستحيل أن يتوصل المرء إلى رأي خارج عن رأي الجماعة، وإن حصل ذلك، يكون صاحب الرأي المخالف إما مرتزقة، أو يعاني من عقدة نقص وكاره لجذوره.

ومن نافل القول أنني فخور بجذوري الشيعية العراقية واللبنانية، وأني على الرغم من نصائح أهل وأصدقاء، رفضت توقيع مقالاتي باسم مستعار بدلا من اسمي الذي يشي فورا بجذوري الشيعية. والى فخري بهذه الجذور، أفخر كذلك بهويتي العربية، التي حرصت على منحها لأولادي، فصاروا يعربون بطلاقة في بلاد لغتها إنجليزية. لكن فخري لا يعني انحيازي لأي مجموعة شيعية أو عربية أو غيرها، بل يعني حرصي على أن يتبنى الشيعة والعرب الأفكار التي شكّلت هويتي، وهي مبادئ عصر الأنوار، المبنية على الحرية، والعدالة، والمساواة، وهو ما يفضي الى مواطنية تستبدل الهوية القبلية البدائية، ان شيعية عربية، أو أفريقية، أو أميركية لاتينية، حسب المجموعات العرقية الفاعلة في الولايات المتحدة.

لا بأس في أن يتباهى المرء بإرث ثقافي أو ديني، أو أن يشارك في مجموعات تحتفل بتراث ما، ولكن لا حاجة لتحويل الهويات العرقية والثقافية والدينية إلى أحزاب سياسية، وتحويل التنافس السياسي إلى سباق بين الهويات بدلا من التنافس حول المصالح، فالهويات العرقية والدينية ثابته لا تتغير، وقد لا تناسب مصالح بعض أفرادها أو مصلحة وطنهم، فيما المصلحة عابرة للهويات العرقية والدينية، وتناسب الوطن.

أبناء العرب يعرفون تماما كيف تكون "ثقافة الإلغاء"، غالبا على شكل قضايا مقدسة تحيل النقاش كفرا، إذ لا سبيل لمخالفة ولي فقيه أو مرشد عام يدّعون أن سياستهم هي الدين. كما لا جدوى من نقاش قضايا فلسطين، التي حولتها غالبية العرب والمسلمين إلى طوطم يمكن التصفيق والهتاف له حصرا، ولا يمكن الانخراط في أي نقاش حوله بدون التعرض للتخوين والتعييب. 

في "ثقافة الإلغاء"، سبق العرب والمسلمون أميركا بعقود، واليوم يبدو أن بعض الأميركيين يظنون أن "ثقافة الإلغاء" التي يمارسونها هي تحرر أو حرية، ويحاولون اللحاق بتخلف يعتقدونه تقدما.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق