الأربعاء، 22 يوليو 2020

إنهيار لبنان قد ينهي "الجامعة الأميركية في بيروت"

حسين عبدالحسين

في المنتصف الثاني من التسعينات، عقدنا في "لجنة الطلاب والاساتذة"، وهي الحكومة الطلابية في "الجامعة الأميركية في بيروت"، اجتماعاً في غرفة اجتماع الشيوخ في ماركواند هاوس، وهو بيت الرئيس داخل حرم الجامعة، وكان مهجوراً منذ مقتل الرئيس مالكوم كير في العام 1984. محور اللقاء كان الرئيس المعين حديثاً جون واتربري، الذي كان أول رئيس أميركي للجامعة يعود للاقامة في حرمها منذ اغتيال كير. 

نحن الطلبة المناضلون في صفوف العمّال والفلاحين، بحسب مخيلتنا في ذلك الزمان، لم نعط الرئيس الجديد، عميل "وكالة الاستخبارات المركزية" (سي آي ايه)، حسب مخيلتنا كذلك، الفرصة لالتقاط أنفاسه، وانهلنا عليه، وبوقاحة، بسلسلة من الأسئلة حول زيادة عشرة في المئة كانت الجامعة فرضتها على الأقساط حتى قبل تعيينه رئيساً. أبدى واتربري تعاوناً وشفافية لم نعتد عليها. قال ان جزءاً من الزيادة يرتبط بالتضخم العالمي، والجزء الثاني لتغطية عجز المستشفى لأن الحكومة اللبنانية تعالج مرضى على "حساب الضمان الوطني الاجتماعي" و"تعاونية موظفي الدولة" ولا تسدد ديونها. أما التبرعات في ذلك الزمان، فكانت مخصصة لاعادة بناء "كولدج هول"، الذي تم تفجيره وتدميره بالكامل قبل سنوات. 

في الاستراحة، وقف نفر منا مع مخلوف حدادين، وهو بروفسور أردني كان قام بدور رئيس الجامعة بالوكالة لسنوات. أخبرنا أنه بعد تفجير "كولدج هول"، ترأس وفداً من الجامعة وذهب للقاء رئيس الجمهورية الراحل الياس الهراوي. وضع حدادين في جيبه ورقة بيضاء، وجلس قريباً من الهراوي، وقال له وهو يهم لاخراج الورقة من جيبه أنه يريد أن يريه رسالة من مجلس أمناء الجامعة في نيويورك تدعو لاقفال الجامعة تماماً. أمسك الهراوي بيد حدادين، وقال له: "خلي الرسالة في جيبك وقل للأمناء أننا لن ندعهم يقفلون، وسنحمي الجامعة". 

بعد سنوات على اللقاء مع الهراوي، وبعد أيام على اعلان الجامعة انتقال واتربري اليها، ألقى مجهولون قنبلة يدوية فوق سياج الجامعة البحري. بروفسورة تسكن في الجامعة رأت المرتكبين يفرّون بسيارة بيجو بيضاء، وهذه كانت المفضلة لدى الاستخبارات السورية. قال لنا حدادين أن القنبلة اليدوية رسالة للأميركيين أن الجامعة هي في ضيافة الاخوة السوريين الذين يحكمون لبنان.

نحن الطلبة الثوار، لم تعننا تبريرات ادارة جامعتنا الامبريالية. أعدنا الصحيفة الطلابية "أوتلوك" الى العمل بعد توقفها ابان اندلاع الحرب الاهلية اللبنانية، وترأست أنا تحريرها، ما فتح لي ولزملائي أبواباً واسعة للاستقصاء عن الفساد الذي كنا نبحث عنه وعن المؤامرات التي كنا نتخيلها، حول ارتباط الادارة بالاستخبارات العالمية والماسونية وباقي التفاهات. لم نعثر على الكثير من الفساد، ولا أي من المؤامرات. 

في مكتبة يافث، جلست أطالع عقوداً من أرشيف "أوتلوك". الراحل جورج حبش، مؤسس ورئيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وخريج كلية الطب في الجامعة، أعلن اقامة وحدات طلابية لجيش الانقاذ العربي لتحرير فلسطين أمام مبنى "وست هول". جنّد حبش طالب طبّ آخر في الجامعة، وكان اسمه وديع حداد، الذي جنّد بدوره كارلوس. 

وفي الجامعة، التقيت المؤرخ الراحل أمجد غنما، وهو كان حما استاذي في التاريخ. غنما كان نشر لتوّه كتاباً عن جمعية "العروة الوثقى"، وحركة القوميين العرب في "الجامعة الأميركية في بيروت"، ودور البروفسور الراحل قسطنطين زريق، الذي التقيته وكان بصحبة ابنته هدى، التي كانت عميدة "كلية الصحة العامة في الجامعة".

وحتى لا نتأخر، نحن الطلاب الثوريون، قمنا بدورنا للتشويش على الامبريالية. يوم زارت وزيرة الصحة الأميركية دونا شلالا (وهي من أصل لبناني واليوم عضو في الكونغرس عن ولاية فلوريدا) بيروت، واستضافها نظيرها كرم كرم، عقدت الوزيرة لقاء مع القيادات الطلابية، فشاركت في اللقاء وعلى كتفي الكوفية الفلسطينية، وسألتها بوقاحة عن سياسات بلادها المنحازة والحصار على العراق. 



هكذا هي "الجامعة الأميركية في بيروت"، معقل لمعاداة الامبريالية وأميركا ولنصرة فلسطين. لا شيء في الجامعة الأميركية أميركياً باستثناء اسمها، وبعض تمويلها، والأهم، مساحة الحرية التي وفرتها لنا. لكن الجامعة منعتنا من انتقاد "الوجود السوري" الذي كان "شرعياً وضرورياً وموقتاً". في أوتلوك، استضفت قادة الاحزاب الطلابية، وتحاورنا حول ذاك الوجود. عادت صحيفتنا من المطبعة فأمرتنا الادارة بعدم التوزيع، فقمنا بشق الصفحة وتوزيع العدد ناقصاً بسبب الرقابة. هذا الدرس حملته معي منذ أيامي في "الجامعة الأميركية في بيروت": مسموح شتم الولايات المتحدة والامبريالية، وممنوع التعرض للممانعة وقوى الأمر الواقع وانظمة الاستخبارات الحاكمة. 

اليوم في واشنطن، نخوض معارك في وجه المطالبين بوقف دعم واشنطن المالي والمعنوي للجامعة الأميركية في بيروت، بحجة أن هذه الجامعة معادية للسياسة الخارجية الأميركية، وأنها تنجب اجيالاً من المعجبين بالاكاديمي الفلسطيني الراحل اداور سعيد، وأنها تقاطع اسرائيل. نردّ عليهم بالقول بأن "الجامعة الأميركية في بيروت" ليست معسكراً للتثقيف العقائدي، بل هي واحة تمنح الطلاب الحرية، وتدربهم على الفكر النقدي وعلى حرية الحوار والاختيار. 

أما في بيروت، فمجموعة من الأصدقاء الثوريين منذ زمن زمالتنا في الجامعة، صاروا اليوم أساتذة فيها ولا يبدو أن ثوريتهم نضجت، إذ بقيت مرتبطة بالمشاغبة والمعارضة، وبأفكار متناقضة. هؤلاء الأصدقاء عارضوا مشاريع الجامعة التوسعية لاعتبارهم أن الوضع الاقتصادي في لبنان والمنطقة لا يسمحان بذلك، ثم عارضوا قيام الجامعة بتسريح عاملين فيها وطالبوا بابقاء هؤلاء وخفض رواتب كل العاملين في الجامعة، وذلك بعد توقيعهم عريضة لمطالبة الادارة برفع مرتباتهم او تسديدها لهم بالدولار. أي خيار يريده هؤلاء؟ تخفيض رواتب الجميع وعدم التوسيع، أو زيادة رواتبهم والابقاء على الموظفين المسرّحين؟ أم الصراخ من أجل الصراخ؟

لكن "الجامعة الأميركية في بيروت" في مأزق، بغض النظر عن سياسات ادارتها وصراخ الاساتذة الثوريين ومحاولة الممانعة استغلال القضية لتشتيت الانتباه عن المشكلة الأساس، وهي تحوّل لبنان الى فنزويلا، أي دولة فاشلة ذات اقتصاد منهار. 

رأس المال البشري بدأ يترك لبنان. الصديقان منذ زمن المدرسة خليل وسمر، درسا الطب في الجامعة، ثم في الولايات المتحدة حيث أقاما، وعادا ليعملا في"الجامعة الأميركية في بيروت"، خابراني الاسبوع الماضي ليعلماني أنهما عادا الى أميركا لأن العيش في لبنان متعذر. البروفسورة في القانون وحقوق المرأة لمى، تركت جامعة جورجتاون العريقة وانتقلت للتعليم في "الجامعة الأميركية في بيروت"، ثم كسرت عقدها وعادت لأنه تعذر عليها تحويل دولارات من بيروت لتسديد اقساط منزلها في واشنطن. "الجامعة الأميركية في بيروت" تنزف، مع أو بدون فلوس، لأنه صار مستحيلاً وقف نزيف الموارد البشرية من لبنان.

"الجامعة الأميركية في بيروت" لا تنهار بسبب رعونة ادارتها الحالية. كل الادارات المتعاقبة كان فيها بعض الفساد والرعونة والكثير من المناكفات والشخصانية. الجامعة تنهار لأن البلد الذي يستضيفها ينهار من تحت قدميها. بعض الاصدقاء من اساتذة الجامعة ابتلعوا طعم الممانعة وصدّقوا أن مشكلة الجامعة هي ادارتها. الحقيقة هي أن المشكلة هي في الممانعة ونموذج "الدولة المقاومة" غير القابل للحياة، لا في الجامعة التي عاشت 154 عاماً، وعاصرت حروباً عالمية ومحلية بدون أن تغلق أبوابها يوماً، لكنها قد تغلقها قريباً. هذه المرة، لن تكون رسالة الاقفال ورقة بيضاء للمناورة، بل بياناً فعلياً من الأمناء ينعي بيروت وجامعتها الأميركية.

*كاتب سياسي مقيم في واشنطن

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق