السبت، 5 سبتمبر 2020

ماذا يريد الأميركيون من لبنان؟

واشنطن - من حسين عبدالحسين

تغيب لدى غالبية اللبنانيين المعرفة اللازمة لفهم الموقف الأميركي تجاه لبنان، وتراوح آراؤهم بين من يعتقد أن للبنان أهمية استراتيجية للأميركيين، ومن يرى أن الولايات المتحدة تكره اللبنانيين - ككرهها المفترض لكل العرب والمسلمين - وأنها تتآمر ضد لبنان كجزء من انحيازها الجائر لإسرائيل.

في الحالتين، تتصور غالبية لبنانية دور الولايات المتحدة في لبنان أكبر من دورها الفعلي، ويذهب البعض للاعتقاد أن لواشنطن رأياً في كل شاردة وواردة، وأن لديها رغبة أو قدرة على ممارسة النقض، الفيتو، على تعيين رئيس حكومة أو وزير أو مسؤول، وكل ذلك غير صحيح، إذ يندر أن تتدخل أي إدارة أميركية في تفاصيل السياسة اللبنانية.

السياسة الأميركية الخارجية لا تأخذ التاريخ بعين الاعتبار، ولا العواطف، بل المصالح، ويمكن النظر الى سياسة واشنطن تجاه مصر لاستخلاص العبر. منذ الثورة التي أطاحت الرئيس الراحل حسني مبارك في 2011 وحتى وصول عبد الفتاح السيسي الى الرئاسة عام 2014. انقسم الرأي في واشنطن حول الموقف من مصر: دعم الديموقراطية أم التمسك بالحلفاء؟ بعدما فشل الأميركيون في التوصل الى قرار، نزعوا الوجه الدبلوماسي وقدّموا الوجه الأميركي الحقيقي تجاه مصر، والذي وصفه وزير الخارجية السابق جون كيري في جلسة استماع في الكونغرس بالقول إن مصالح أميركا في مصر ثلاث: أمن الحدود مع إسرائيل، وحرية الملاحة الدولية في قناة السويس، وحق تحليق الطائرات العسكرية الأميركية. ومقابل استمرار ضمان القاهرة لهذه المصالح الأميركية الاستراتيجية، تمنح واشنطن المصريين مساعدة سنوية بأكثر من ملياري دولار.

يمكن إضافة، الى ما لم يقله كيري، سياسة أميركية عامة تجاه دول العالم من دون استثناء: الاستقرار وعدم تحوّل أي دولة الى دولة فاشلة تصبح مرتعاً للإرهاب الدولي ومصدراً للاجئين والفقر والكوارث الإنسانية. لم يذكر كيري هذه النقطة لأن مصر، التي يمسكها الجيش بغض النظر عن هوية حكامها، ليست عرضة للفشل. لكن الدول الفاشلة موضوع أقلق أميركا، خصوصاً في التسعينات من القرن الماضي، حيث راحت تبحث عن أفضل السبل لمواجهة الفشل في أفغانستان والصومال، الى أن حدثت هجمات 11 سبتمبر (أيلول) وأجبرت أميركا على استخدام قوّتها العسكرية للهندسة الاجتماعية (بناء الدول)، وهي تجربة لم تنجح، ما أجبر أميركا على العودة إلى التمسك بالأنظمة الاستبدادية، حتى العدوة منها مثل إيران، خوفاً من أن انهيار هذه الأنظمة يؤدي الى قيام دول فاشلة أسوأ من الحالية.

العناصر التي تهمّ واشنطن في لبنان اثنان: أمن الحدود مع إسرائيل، ومنع تحوّل لبنان الى دولة فاشلة تصدّر الإرهاب الدولي. عدا ذلك،لا يهم من يحكم لبنان: إن كان نظام آل الأسد السوري، أم إميل لحود، أم ميشال عون. ولا يهم أميركا كذلك، بل هي بالكاد تلاحظ الفارق، إن كان رئيس حكومة لبنان من عائلة دياب أم أديب. كما لا يهم واشنطن فساد المسؤولين، ولا يوجد قانون أميركي لمحاسبة فساد مسؤولي حكومات العالم، باستثناء عندما يصل الفساد الأراضي الأميركية كما حالة صندوق ماليزيا السيادي.

في سنوات معدودة من إدارة الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، تبنت واشنطن مشروع نشر الديموقراطية كبديل للدول الفاشلة، لكنها ما لبثت أن تخلت عنه مع خروج "المحافظين الجدد" من الحكم وتسلم كوندوليزا رايس وزارة الخارجية. ومع أن بعض الدعاية في لبنان سعت لشيطنة رايس، لكن لا بد من ذكر أن رايس هي التي أشرفت على إنهاء "تحالف 14 آذار"، والتوصل لاتفاقية الدوحة، وبدء سياسة الانخراط مع الرئيس السوري بشار الأسد بدعوتها له للمشاركة في مؤتمر انابوليس للسلام في 2007.

أثناء سنوات نشر الديموقراطية، ارتفع اهتمام أميركا بلبنان استثنائياً، حتى أن وزارة الخارجية الأميركية فصلت "مكتب لبنان وسوريا" الى مكتبين، واحد مخصص للبنان وآخر لسوريا. وأدى الاهتمام الأميركي، بمشاركة فرنسية، الى التفاف لبناني أجبر الأسد على سحب قواته من لبنان و"حزب الله" على التراجع. لكن الميليشيات الموالية لإيران في العراق كبّدت الأميركيين خسارة، فانتهى مشروع نشر الديموقراطية، وعادت أميركا الى سياستها الواقعية التقليدية، بما في ذلك تجاه لبنان.

هذا يعني أن السياسة الحالية تجاه لبنان تتمحور حول تأكيد استقرار الحدود بين لبنان وإسرائيل، ليس بالضرورة عبر اتفاقية سلام، بل استقرار يشبه الاستقرار الحدودي الذي منحه الأسد لإسرائيل على مدى أربعة عقود. ثانياً، تعتقد واشنطن أن "حزب الله" يشارك في هجمات حول العالم، مثلما حدث في بلغاريا أو غيرها، وفي معارك عسكرية خارج لبنان، مثل العراق أو اليمن، وهو ما يعني أن لبنان يستضيف منظمة عنفها عابر للحدود اللبنانية، وهو ما يعني أن أولوية واشنطن هي في وقف هذا الأمر، في الغالب عبر الحوار مع طرف قادر على السيطرة على الحزب. في الماضي، كانت واشنطن تكلف الأسد بذلك، وفي زمن الرئيس السابق باراك أوباما، تعاملت أميركا مع إيران لضبط "حزب الله" ومع "حزب الله" عبر وسطاء أمنيين لبنانيين. أما اليوم، في ظل تدهور العلاقة الأميركية مع إيران وضعف الأسد، المرشح الوحيد لضبط "حزب الله" هو دولة لبنان وجيشه، وهو ما يدفع واشنطن لدعم الجيش مادياً ومعنوياً، والى التمسك بدولة لبنان ومحاولة تعزيز سيادتها الى أقصى حد ممكن. المشكلة أن دولة لبنان تتألف من فصائل متناكفة لا تمانع استبدال سيادة الدولة بمصالحها الخاصة، وهو ما يسمح لـ"حزب الله" بالسيطرة على هذه الدولة وحماية الفاسدين فيها مقابل سكوتهم عن سلاحه غير الدستوري. 

اعتقدت واشنطن أن الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون سيدعم مبادرة بطريرك الموارنة بشارة الراعي لاستعادة سيادة لبنان وحياده - بدون سلام مع إسرائيل - ليتبين أن مطالب ماكرون في لبنان أدنى بكثير من المتوقع، وأنها تتمحور حول إصلاحات بسيطة لا تتعدى المتفق عليها بكثير.

أبعد من حدود إسرائيل ونشاطات "حزب الله" حول العالم، لا يهم أميركا كثيراً ما يحصل في لبنان أكثر من دعمه عبر برامج التنمية كما تفعل واشنطن في باقي دول العالم. لا أهمية استراتيجية للبنان لدى الولايات المتحدة، وبعض التواضع قد لا يضير اللبنانيين في فهم هذه السياسة الأميركية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق