الثلاثاء، 15 ديسمبر 2020

دول في الفضاء ودول تقارب المجاعة

حسين عبدالحسين

أعلنت إسرائيل، الأسبوع الماضي، نيتها إرسال مسبار "تكوين 2" إلى القمر، بعد فشل "تكوين 1" في الهبوط بشكل آمن، وارتطامه بالسطح، وتحطمه في أبريل 2019. في نفس الأثناء، أعلنت الأفران في لبنان وقفها بيع المناقيش، إحدى أكثر الأكلات الشعبية شيوعا، بسبب توقف الحكومة عن تسليم الأفران القمح المدعوم لاقتراب احتياطي العملات الأجنبية في مصرف لبنان المركزي من النفاد. بعد نفاد العملات، سيتعذر على دولة لبنان دعم القمح المخصص للخبز العادي، وهو ما يجعله خارج متناول القدرة الشرائية لغالبية اللبنانيين، وينذر باندلاع مجاعة.

وكما في لبنان، يقف السوريون في طوابير طويلة لشراء الخبر والمحروقات، ويعانون من شح مياه الشفة وانقطاع الكهرباء، ومثلهم اليمنيون والصوماليون، وشريحة كبيرة من العراقيين والليبيين. هذه الدول الست — لبنان وسوريا والعراق واليمن وليبيا والصومال — هي دول فاشلة، تشبه فنزويلا وغواتيمالا وهندوراس، وإلى حد بعيد، إيران. 

محيّر هو الفارق بين الدول الفاشلة والدول الناجحة. في حالة لبنان وسوريا، من جهة، وإسرائيل، من جهة أخرى، تكاد الدول الثلاث تشترك في كل شيء — الموقع الجغرافي، والطبيعة، والتاريخ —وهو ما يطرح السؤال: كيف يمكن لشعبين يسكنان على نفس الأرض أن يقيم أحدهما دولة ناجحة والآخر دولته فاشلة؟

إسرائيل دولة قامت قبل أن تحصل على أرض. يهود العالم أقاموا الوكالة الصهيونية بمبادرة ذاتية، ومولوها من جيوبهم، وتناوبوا على قيادتها بديمقراطية منحت اليهود الآخرين ثقة بالوكالة ومشروعها، واقترن ذلك بهجرة يهود إلى فلسطين تصرفوا باستقلالية ذاتية، فبنوا، وزرعوا، وأقاموا مؤسسات، فجاء إعلان قيام دولة إسرائيل في العام 1948 بمثابة تحصيل حاصل، واعتبر اليهود أن الدولة هي دولتهم التي بذلوا الغالي والنفيس في سبيل قيامها، وهم ما يزالون يحرصون على حسن سيرها بعيدا عن الفساد والانحراف.

هذا هو مفهوم الدولة وفقا لمعايير عصر التنوير الأوروبي: يتخلى كل مواطن عن حقه في استخدام العنف ويمنحه لدولته التي تحميه، ويموّل هذه الدولة من جيبه، فتكون الدولة بذلك ملكه، بالتساوي مع أقرانه المواطنين، ويقرر الجميع، بالاقتراع، من يدير الدول ويقرر سياساتها. طبعا إسرائيل ليست دولة مثالية، ولها حصتها من الفساد والتوتر المجتمعي وغير ذلك. لكن مقارنة بدول الجوار، مثل لبنان وسوريا والعراق، فإن إسرائيل دولة ناجحة جدا.

في لبنان وسوريا، يندر وجود المواطنين ممن يعون معنى المواطنية ومعنى ملكيتهم لدولتهم. الهوية في لبنان وسوريا والعراق عشائرية قبلية. يعاهد ابن العشيرة شيخها على الولاء، ويعاهد شيخ العشيرة ابنها على تيسير أموره المعيشية. هذا التيسير والزعامة يحتاجان إلى أموال لشراء الأزلام، والحصول على هذه الأموال يفرض الفساد، وهو فساد لا تمانعه الغالبية في لبنان، مثلا، حيث مقياس "الزعيم الآدمي" هو الذي "يأكل ويطعمي"، أي يوزّع مغانم فساده على شبكته الريعية. أما "الزعيم الفاسد" فهو من يتلكأ في مشاركة المغانم فيخلق فجوة بين ثرائه وفقر محازبيه. 

اللبنانيون والسوريون والعراقيون ينقصهم فهم الدولة وفقا لمعايير عصر التنوير الأوروبي، بل أن فهمهم سابق للتنوير، وهو فهم للعلاقة بين الحاكم والمحكوم يعود إلى العهود السحيقة، يوم كان ملوك المدن الفينيقية والحضارات العراقية والفرعونية يتولون مسؤولية تنظيم كل تفاصيل حياة رعاياهم، ولم تكن هذه الحضارات اكتشفت النقود، بل كان الملك يوزّع العمل على الرعايا، ويتكفل بإعانتهم وإطعامهم واكسائهم وإيوائهم. كانت الحضارات أكثر اشتراكية، وهو ما سمح لها بالقيام بما تعجز عنه حكومات اليوم، إذ أن الإبحار الفينيقي لم يمكن ممكنا بدون العمل الجماعي، وكذلك المجهود الزراعي، وبناء المعابد. كانت علاقة الناس بالملك، وكانت علاقة الملك بالله.

ثم اكتشفت مدينة يونانية على ساحل الأناضول (تركيا اليوم) مبدأ النقود، الذي تبناه الرومان ورفضه الفينيقيون. سمحت النقود للرومان بشراء المرتزقة والمؤن في أراض بعيدة عن روما، فيما اضطر الفينيقيون إلى إقامة خطوط إمداد طويلة لجيوشهم الغازية. روما تطورت ماليا واقتصاديا وفينيقيا لم تتطور، فعاشت روما وماتت فينيقيا وفقا لقانون "النشوء والارتقاء" الطبيعي. 

على أن النقود أعطت كل فرد قوة منفصلة عن الملك، فسعى الأفراد لتمويل علاقتهم مع الآلهة، فكانت المعابد وكان الكهنة، وصار صراع بين المعابد، الثابتة غالبا، والملك، المتغير أحيانا، وصار سباق بين الدين والدولة للفوز بحب الناس. الدين — الذي صار عشيرة — بدا أكثر ثباتا، فيما الدول متغيرة. هكذا هم الدروز في لبنان وسوريا وفلسطين، يرون أنفسهم ثابتين في أراضيهم فيما الحكام والحكومات تتداور وتتقلب، وهو نموذج له محاسن للبقاء، ولكنه قد يذوي في العولمة. 

اللبنانيون والسوريون والعراقيون والفلسطينيون لا يعرفون معنى الدولة ليمتلكونها، بل أن مفهوم الدولة يختلط عليهم، فتارة يخالون وطنهم دينهم ودولتهم حاكمهم، وتارة يعتقدون أن وطنهم أرضهم وأن دولتهم تتألف من زعماء أحسنهم "يأكل ويطعمي" وأسوئهم "يأكل وحده".

نجاح الدول من فشلها يعتمد على وعي مواطنيها، وفهمهم أن الدولة هي انعكاس لهم ولثقافتهم، فإن كانوا فاسدين كانت دولتهم فاسدة، وإن كانوا مشغولين بالقشور والدعاية كانت دولتهم وهمية مثلهم. أما إن كانوا مسؤولين، كانت دولتهم مسؤولة، وإن كانوا من الصادقين والمنتظمين في أوقاتهم وأعمالهم، تكون دولتهم كذلك.

في الولايات المتحدة، يقف الناس في الصف في انتظار دورها، بدون وجود حسيب أو رقيب، ومن يحاول تجاوز الصف، يرمقه المصطفون بنظرات ازدراء تمنعه من ذلك. النظام ثقافة. في لبنان، لا صف حتى بوجود الرقيب، ومن يقف في الصف، يرمقه الآخرون بنظرة استخفاف أنه "يخال نفسه في أميركا"، وأن على المرء أن يكون شاطرا، أو أن يتشاطر.

المكتوب يقرأ من عنوانه. إسرائيل — والإمارات وماليزيا — تواصل مساعيها لغزو الفضاء، فيما لبنان وسوريا وفنزويلا تعيش كابوس المجاعة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق