الثلاثاء، 22 ديسمبر 2020

لماذا فشل الربيع العربي؟

واشنطن - من حسين عبدالحسين

بعد 10 سنوات على إحراق التونسي محمد البوعزيزي نفسه واندلاع سلسلة من التظاهرات الشعبية التي أطاحت بحكّام تونس ومصر وليبيا واليمن والجزائر والسودان، وأدت الى حروب أهلية في ليبيا وسوريا واليمن والعراق، يقف العالم العربي أمام قبور مليون ضحية، ويعاني من تهجير أكثر من 15 مليونا، وهي تكلفة مرتفعة جدا، خصوصا أنه لم يولد من رحم هذه المأساة إلا جمهورية واحدة، في تونس، ما تزال ديموقراطيتها فتية وعرضة للانتكاس في أي وقت.

نجحت هذه الشعوب العربية بالإطاحة بحكامها المستبدين، لكنها لم تنجح في بناء حكومات ديموقراطية بديلة، بل أن البدائل التي قدمها حكام "الربيع العربي" نافست بركاكتها ركاكة الاستبداد المندثر. كانت أولى قرارات حكام ليبيا تعديل قانون الأحكام الشخصية للسماح بتزويج القاصرين وتعدد الزوجات، وكأن مشكلة نصف قرن من استبداد معمّر القذافي كانت في قوانينه حول الزواج. ومثل في ليبيا، مضى حكام مصر في فرض ممارسات قارب بعضها الفكاهة: مثلا، تباهى اسلاميو مصر أنهم رفعوا الآذان داخل مبنى البرلمان، وكأن وصول الاسلاميين الى البرلمان هو فتح قسطنطينية وتحويل كنيسة آية صوفيا الى مسجد، أو كأن الجالس تحت قبة البرلمان لا يمكنه سماع آلاف المآذن التي تصدح في سماء القاهرة.

ومثل ثوريي ليبيا ومصر، راح اسلاميو سوريا ينقلون المناطق التي انتزعوا السيطرة عليها من حكم بشار الأسد الاستبدادي الى حكم إسلاموي قروسطوي، وكأن مشكلة الأسد لم تكن طغيانه، بل المشكلة أن طغيانه كان علمانيا، فيما المطلوب هو طغيان إسلاموي.

في الواقع، تصرفت الشعوب العربية التي انهار حكامها بنفس الطريقة التي تصرف بها العراقيون بعدما أطاحت الولايات المتحدة بطاغيتهم صدام حسين. وعلى الرغم أن العراق محسوب خارج الربيع العربي، لكن تجربة التغيير فيه تكاد تكون متطابقة مع التغيير في سوريا أو ليبيا أو اليمن: الكثير من الموت والدمار، ولا تقدم. أما المفارقة، فتكمن في أن ما جرى في الربيع العربي أكد أن انهيار العراق وفشل قيام ديموقراطيته لم يكن بسبب التدخل الأميركي، بل بسبب غياب ثقافة الحرية والديموقراطية بين العراقيين أنفسهم. 

الفشل في إقامة بديل ديموقراطي للاستبداد العربي موضوع حيّر كثيرين. مجلة "ايكونوميست" المرموقة عزت سبب الفشل العربي الى قيام الطغاة بالقضاء على الثقافة الديموقراطية، والتهديد بأن البديل الوحيد عن استقرارهم هو الفوضى. ما يفوت المجلة العريقة هو التالي: من أي أتى طغاة العرب؟

غالبية العرب تستهويها نظرية المؤامرة القائلة بأن الغرب الاستعماري، أي بريطانيا وفرنسا، أو الولايات المتحدة بعدهما، هي الدول التي أقامت الديكتاتوريات لأن الدول الغربية حاقدة على العرب والمسلمين ودولهم، وتخشى نهضتهم، وتعمل على إبقائهم في عوز وفقر وتخلف تحت حكم طغاة مطاوعين للغرب ورغباته. لكن نظرية المؤامرة هذه فاشلة، وتنم عن كسل لدى هؤلاء العرب في محاولة فهم أن الدول تسيرها مصالح، لا رغبات وحقد، وتنم كذلك عن كسل عربي في نقد الذات، والبحث عن مكامن الفشل لإصلاحه، اذ أنه من اليسير القاء اللوم في الفشل على الآخرين، وعلى رأي المثل، "من لا يعرف كيف يرقص يقول الأرض عوجاء".

طغاة العرب لم يأتوا من المريخ، ولا الغرب هو من نصبهم حكاما على دولهم. طغاة العرب، من العراقي صدام حسين الى الليبي معمر القذافي والسوريين حافظ الأسد وابنه بشار، هم نتاج ثقافة قبلية عنيفة مبنية على مبدأ "إما قاتل وإما مقتول". لا يتسع الحكم لغير طاغية واحد، ولا تتسع الدولة الا لعشيرة ومناصري هذا الطاغية، ولا تسامح حتى مع الاحلام بالتغيير.

الحرية ثقافة، لا يمكن لمن هو متسلط داخل منزله، على أمه وأخته وزوجته وأولاده، أن يكون حرا خارج المنزل، بل هو يساهم في تكريس ثقافة الأقوى، داخل البلاد، وداخل المنزل، وداخل غرفة الزوجية.

والديموقراطية مستحيلة في غياب الحرية. في السنوات الأولى التي تلت انهيار نظام صدام، ساد اعتقاد أن الانتخابات هي مفتاح الديموقراطية، وراح العراقيون يرفعون سباباتهم المطلية بالحبر البنفسجي للدلالة على قيامهم بالاقتراع وفخرا بالحرية. لكن تبين أن الاقتراع وحده لا يكفي، إذ هو يتطلب أن يدرك المواطن الارتباط بين خياره وبين مستوى معيشته، فالشيعي الذي يقترع لشيعي نكاية بالسنة ويزيد، قاتل الحسين، يسيء فعليا استخدام الديموقراطية، اذ أن المطلوب هو أن يختار المواطن المرشحين الذين يعتقد أن لديهم المقدرة على تحسين الاداء الحكومي، وتاليا معيشة العراقيين، فالانتخابات لا يمكنها أن تكون انتقاما لواقعة كربلاء وأحقية الحسين في الخلافة قبل 1340 عاما.

المواطنية عملية تحتاج الى علم وثقافة ومواظبة ومتابعة. كلّما كان المواطن أكثر دراية بشؤون الدولة والديموقراطية، كلّما كانت خياراته في الاقتراع أفضل، وكلّما تحسن أداء الدولة ومستوى معيشة المواطنين. لكن من أي تأتي الثقافة في عالم عربي لا يقرأ، بل يتناقل معلوماته في جلسات الشيشة وعبر ثرثرة واتساب؟ كيف يمكن تجفيف مستنقعات الجهل العربي - وهي الأرض الخصبة لانتشار نظريات المؤامرة - بدون أن يقرأ العرب؟ 




شعوب هذه الدول العربية ماتزال متأخرة عن اللحاق بركب الحضارة، وما تزال مشغولة بفحوص عذرية النساء، وجرائم شرف الرجال



في كتاب "دولة الإذاعة" لصديق طفولة صدام حسين، يقول إبراهيم الزبيدي إن صدام المراهق قال له إنه يرغب في أن يكون لديه يوما سيارة ومرافقين، وعندما سأله الزبيدي عن السبب، أجاب صدام "كشخة" أي "تباهي" باللهجة العراقية. لم تكن زعامة صدام أعمق من ذلك أبدا، فقط "كشخة" مطرّزة بشعارات "حزب البعث العربي الاشتراكي" الذي وضع فكره أستاذ المدرسة الابتدائية السوري ميشال عفلق.

ولم يكن خصوم صدام أعمق منه. السيد محمد باقر الصدر، كاتب باكورة المؤلفات الشيعية حول دور رجال الدين في الوصاية على الحكم، أصدر مؤلفات - مثل "فلسفتنا" و"اقتصادنا" - يخالها اتباعه أعمالا فكرية باهرة فيما هي عبارة عن انشاء كلامي، ومثله قريبه محمد محمد صادق الصدر، الذي يقتصر فكره على خطابات يوم الجمعة. أما ابن الأخير، أي مقتدى الصدر، فهو أكثر ضحالة من الصدرين، ولا مؤلفات معروفة له، فقط تصريحات مضحكة وبيانات صبيانية.

من أين ستأتي المواطنية إلى العراق؟ من سطحية صدام وعفلق أم من ضحالة الصدرين وبعدهما مقتدى؟ ومثل ذلك، من أين ستأتي المواطنية - ومعها الحرية والديموقراطية - الى سوريا أو ليبيا؟ من كتاب القذافي "الأخضر" أم من نظريته المضحكة إسراطين حول الصراع الاسرائيلي الفلسطيني؟ 

شعوب هذه الدول العربية ماتزال متأخرة عن اللحاق بركب الحضارة، وما تزال مشغولة بفحوص عذرية النساء، وجرائم شرف الرجال، وإطلاق النار في الهواء، حزنا ام احتفالا ام الاثنين معا. هي شخصية عربية ماتزال بحاجة لمؤلفات كثيرة مثل التي قدمها العراقي علي الوردي أو الفلسطيني هشام شرابي أو غيرهما. وهي حضارة عربية ليست بحاجة لمؤلفين ومؤلفات فحسب، بل لقارئين وقارئات، وما لم يتم ذلك، لن يأتي ربيع، ولن يكون في العالم العربي ورود.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق