الثلاثاء، 5 يناير 2021

بريطانيا ابتدعت القومية العربية وفرنسا رعت الصهيونية

حسين عبدالحسين

في المخيلة العربية أن التآمر الإمبريالي على العرب واضح: بريطانيا أصدرت وعد بلفور، ثم اقتسمت مع فرنسا المحافظات العثمانية العربية ووضعتها تحت انتدابها، ثم رعت بريطانيا قيام دولة إسرائيل كشوكة في قلب العرب والعروبة. إذن، تقضي العروبة بمكافحة الإمبريالية البريطانية والفرنسية وربيبتهما، الكولونيالية إسرائيل ومستوطناتها. على أن الواقع لا يشبه المخيلة العربية في شيء.

في دوائر الاستخبارات الأوروبية والأميركية، تقوم الحكومات برفع السرية عن وثائق بعد مرور الزمن عليها، وفي باريس، رفعت الحكومة الفرنسية السرية عن معظم الوثائق المتعلقة بفترة الانتدابين الفرنسي والبريطاني على سوريا ولبنان والعراق والأردن وفلسطين، التي ينكب عليها عادة المؤرخون لتأكيد أو تعديل الروايات التاريخية المعروفة. لكن الباحثين أغفلوا صدفة صندوقا من الوثائق الفرنسية كان مرميا، وقد تراكم عليه غبار السنوات، خلف الصناديق الأخرى. عثر على هذا الصندوق الباحث الإسرائيلي، مائير زامير، وهو من يهود العراق، وتبين أن الوثائق هي ترجمة فرنسية لوثائق سرية بريطانية كانت الاستخبارات الفرنسية حصلت عليها خلسة عبر جاسوسين كانا يتعاملان معها: واحد في القنصلية البريطانية في بيروت، وآخر في وزارة الخارجية السورية.

في المحصلة، على مدى الفترة الممتدة من 1940 الى 1948، قامت الاستخبارات الفرنسية بالحصول على المراسلات البريطانية والسورية السرية حول العراق وسوريا ولبنان وفلسطين، وقامت بترجمتها وتزويدها لرئيس فرنسا. هذه الوثائق تقلب رؤيتنا للتاريخ العربي في زمن الانتداب الأوروبي رأسا على عقب، وهي وثائق أصدرها زامير في كتاب بعنوان "الحرب السرية بين بريطانيا وفرنسا في الشرق الأوسط". 

تظهر الوثائق أن اجتياح ألمانيا فرنسا واحتلالها في 1940 أقنع البريطانيين أن الفرنسيين لا يستحقون إمبراطورية، وأن على بريطانيا انتزاع المستعمرات الفرنسية التي تحولت إدارتها إلى حكومة فيشي المتعاملة مع النازية. ثم مع صعود الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة كقوتين عظمتين، اعتقدت بريطانيا أن السبيل الوحيد للمحافظة على مكانتها الكونية هو في استمرار سيطرتها على مستعمراتها، وخصوصا في الشرق الأوسط، الذي كانت مخزونات النفط الاستراتيجية بدأت تظهر فيه. لكن الإمبراطورية التي كانت تنوي بريطانيا الحفاظ عليها كانت إمبراطورية خفية مبنية على العمل الاستخباراتي، الذي كان يضمن ولاء حكام دول المشرق العربي.

في دنيا العرب تنافست 3 زعامات: هاشميو العراق والأردن، وآل سعود في الجزيرة العربية، وملك مصر، فاروق. الأميركيون كانوا توصلوا لعقد تحالف مع السعودية، فلم يبق أمام البريطانيين إلا العراق والمشرق، فضلا عن مصر. هكذا، بدلا من أن تسعى بريطانيا لنقل السيطرة على لبنان وسوريا من فرنسيي فيشي إلى فرنسيي المنفى" الأحرار" بقيادة شارل ديغول، قام البريطانيون، خصوصا بقيادة الجنرال إدوارد سبيرز، بتحريض اللبنانيين والسوريين للاستقلال عن فرنسا وإقامة علاقات استراتيجية مع بريطانيا. وتظهر الوثائق أن الأصعب كان سلخ موارنة لبنان عن عرابيهم الفرنسيين، ونجحت بريطانيا باستقطاب رئيس لبنان الماروني بشارة الخوري، وكان رئيس الحكومة السني رياض الصلح، كما شقيق زوجته رئيس حكومة سوريا سعدالله الجابري، ورئيس سوريا شكري القوتلي، ورئيس حكومتها جميل مردم، وسفير لبنان في لندن كميل شمعون، من أبرز الزعماء الذين تواصل معهم لندن. ونجح البريطانيون في افتعال أزمتين دستوريتين، في لبنان في 1943 وفي سوريا عام 1946، أجبرتا فرنسا بموجبهما على منح الدولتين الاستقلال.

حصلت الاستخبارات الفرنسية على الوثائق البريطانية وزودتها لديغول، الذي أعلن امتعاضه من البريطانيين سرا وعلنا، وحاولت لندن ضبط هؤلاء الزعماء، لكن هؤلاء تحولوا إلى مجموعة تتلاعب بالأحداث في الشرق الأوسط وفي الرأي داخل بريطانيا للحفاظ على إمبراطورية كان نصف البريطانيين، ممثلين بحزب العمال على الأقل، تخلوا عنها وبدأوا مرحلة إنهاء الاستعمار.

ردا على إنهاء بريطانيا الانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان، انغمست فرنسا في عملية الثأر، فوجدت ضالتها في الحركة الصهيونية التي كانت تسعى للاستقلال وإنهاء الانتداب البريطاني في فلسطين، فما كان من البريطانيين إلا أن راحوا يستنهضون القومية العربية لإقامة هلال خصيب بزعامة الهاشميين يكون جزء من تحالف مع تركيا ضد السوفيات. كما رعى البريطانيون قيام جامعة الدول العربية، التي كان أمينها العام الأول عبدالرحمن عزام مقربا من الاستخبارات البريطانية. ويوم أعلن الصهاينة قيام دولة إسرائيل، دفعت لندن عربها في مصر وسوريا ولبنان والأردن والعراق لاجتياح إسرائيل والقضاء عليها. 
وقدم الجيش الهاشمي الأردني، الذي كان أشرف على تنظيمه الجنرال البريطاني جون غلوب، أو غلوب باشا، عرض قوة، ومنع إسرائيل من السيطرة على كل فلسطين الانتداب، وسيطر على القدس الشرقية، وقام بتهجير سكان "الحي اليهودي". ثم عملا بالرؤية البريطانية، تمت إضافة "فلسطين العربية"، أي الضفة الغربية والقدس الشرقية، إلى الاتحاد الهاشمي الذي كان يسعى البريطانيون لإقامته، والذي لم تقم له قائمة. ثم أطاح الشيوعيون بالملكية الهاشمية في العراق في 1958. ولعبت الاستخبارات الفرنسية دورا حاسما في منع العرب من القضاء على إسرائيل الفتية في 1948، إذ هي مررت المراسلات بين البريطانيين والعرب إلى رئيس إسرائيل الأول دايفد بن غوريون، وهو ما عطّل عنصر المفاجأة في الحرب العربية. 

لم يكن لدى الفلسطينيين قيادة واعية على الصراعات الخفية، فبدلا من أن يتحالف الفلسطينيون مع البريطانيين ضد الصهاينة، مضى الفلسطينيون يقاتلون الطرفين، بريطانيا وإسرائيل، على اعتقاد أن الأولى ترعى الثانية. لم يفطن الفلسطينيون للصراع بين الانتداب البريطاني والصهاينة، ولم يفطنوا أن بريطانيا أدرجت قادة صهاينة كثر، منهم رئيس الحكومة فيما بعد إسحق شامير، على لائحة الإرهابيين المطلوبين.

مستعربو بريطانيا هم من ابتدعوا "الثورة العربية الكبرى" للتخلص من الاستعمار التركي والحلول مكانه، وهم من ابتدعوا القومية العربية لمحاربة الصهيونية في فلسطين، ولتقويض الانتداب الفرنسي الذي كان مبنيا على دعم الأقليات والتحالف معها. وفرنسا، عدوة بريطانيا، كانت أولى رعاة قيام دولة إسرائيل. 

العرب لا يقرأون. يهتفون "فليسقط وعد بلفور" أو "فليسقط واحد من فوق"، لا فرق، ويعتقدون أن سايكس بيكو كان تحالفا أبديا بين بريطانيا وفرنسا، ويرون أن العالم بأكمله متآمر على "الأمتين العربية والإسلامية". لم تفهم غالبية العرب كيف تعمل الدول ومصالحها في الماضي، ولا يبدو أنها تعلمت دروس من الماضي، اليوم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق