الثلاثاء، 16 مارس 2021

الثورة السورية والربيع الذي لن يأتي

حسين عبدالحسين

في ندوة استعرض فيها تجربته في الإدارة، تطرق مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق، ديفيد شنكر، إلى موقفه من التغيير في العالم العربي، وقال إنه كان من "المحافظين الجدد"، وأنه كان يؤمن بجدوى استخدام القوة الأميركية لنشر مبادئ الحرية والديموقراطية في دول العالم، وهي رؤية ساهم منا عرب كثيرون في صياغتها وتأييدها في السنوات التي سبقت حرب العراق. 

في دنيا العرب، كنا نعتقد أن الشعوب حية واعية، وأنها تسعى للحرية والديمقراطية، لكن الإمبريالية هي العقبة. كنا نردد أن العراق بلد المليون مهندس، وأن القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ.

كنا نعتقد أن الديكتاتوريات العربية صناعة إمبريالية، وأن صدام حسين كان على اتصال بـ "وكالة الاستخبارات المركزية" الأميركية (سي آي إيه) أثناء إقامته في القاهرة. كنا نعتقد أيضا أن أميركا سلّطت صدام على العراقيين لإضعافهم وإضعاف العرب، وورطته في حربي إيران واجتياح الكويت، ثم راحت تستخدمه كفزاعة لدول الخليج حتى تبتز واشنطن هذه الدول، وتعقد معها صفقات أسلحة ضخمة، وتنشر فيها قواتها. في رأينا، كان العرب يعيشون في شقاء، وكانت المسؤولة هي أميركا، داعمة حكامهم الطغاة. 

فجأة، أعلنت أميركا أنها قادمة للإطاحة بصدام. ممتاز. إذا سنحت للعراق فرصة للعيش بدون صدام، سيصبح مهد الحضارة، العراق، مهدا للحرية والديمقراطية في عموم المنطقة. هكذا اعتقدنا نحن المثقفون العرب، وهكذا أقنعتنا الولايات المتحدة، وهكذا توصلنا أنا والصديق شنكر إلى نفس الخلاصة، وصرنا سويا، في صفوف "المحافظين الجدد" الداعين لاستخدام القوة الأميركية لنشر الديمقراطية. 

سقط صدام. وقفت في بغداد. الآن ماذا؟ لم أر غير العراقيين الذين ينهبون دوائر دولتهم وقصور صدام حسين والبعثيين. أين ذهب المثقفون العراقيون والمهندسون؟ 

أعطى الرئيس الأميركي السابق، جورج بوش، مهلة سنة بعد الاجتياح لنشر الديموقراطية في العراق ولبنان، ولما لم ينجح العراقيون واللبنانيون في إقامة ديمقراطيتهم، أطاح بوش بـ "المحافظين الجدد"، واستبدلهم بالواقعيين برعاية وزيرة الخارجية السابقة، كوندوليزا رايس، التي عادت إلى دبلوماسية الصفقات: مع رئيس سوريا، بشار الأسد، بدعوته لمؤتمر أنابوليس للسلام، ومع "حزب الله" بالموافقة على "اتفاقية الدوحة".

أما في العراق، فاستنسخ الدبلوماسيون الأميركيون نموذج لبنان الفاشل: دولة محاصصة طائفية شكلها عدالة تمثيل ومضمونها فساد وتقاسم الدولة كغنائم. 

يقول شنكر إن حرب العراق أظهرت محدودية القوة الأميركية على فرض التغيير، فصارت الوسائل الأميركية في السياسة الخارجية تقتصر اليوم على الضغط الدبلوماسي، وربط المساعدات الأميركية بشروط، أو فرض عقوبات. ولى إلى غير رجعة استخدام أميركا قوتها العسكرية لأهداف سياسية غير دفاعية. 

هذا درس كنا نعرفه مع اندلاع الثورة السورية، ولكننا كنا نأمل بأن تؤدي انتفاضة السوريين إلى تكرار تجربة مصر أو تونس، أو ربما ليبيا، حيث هب المجتمع الدولي لحماية الليبيين من بطش القذافي. لكننا لم نكن نتوقع حربا دموية كالتي شنها الأسد ونظامي إيران وروسيا على السوريين. لم يكن ممكنا أن نتوقع أن الأسد سيبرز كواحد من أكثر المجرمين دموية في تاريخ العالم. من يقصف فُرناً للخبز؟ من يقصف المشافي؟ من يقصف قافلة الأمم المتحدة للمساعدات الانسانية؟ حتى صدام لم يفعل ذلك يوم قمع انتفاضتي الشمال والجنوب، مع أن صدام — مثل الأسد — قصف شعبه بأسلحة كيماوية محظورة دوليا. 

في 2011، تناقل السوريون صورة علم بلادهم وقد كتبوا عليه "انتفاضة" و"15 آذار" (مارس). عممت الصورة على وسائل التواصل الاجتماعي. يوم 15 مارس، الفضائيات العربية لم تتطرق للموضوع السوري. عثرت على فيديو أظهر سوريين يمشون في دمشق ويصيحون "وينك يا سوري وينك" وصاحب الفيديو يعلق بلهجة علوية أن السوريين من كل المذاهب قرروا اقتلاع نظام الأسد.

بثت فضائية "الجزيرة" الخبر، وقالت إن مواطنين سوريين استلموا رسائل على هواتفهم المحمولة دعتهم إلى التظاهر. ونقلت "الجزيرة" عن مصدر حكومي سوري قوله إن "الجيش الاسرائيلي هو من قام بتوجيه الرسالة عبر الشبكة الخليوية السورية". لم تكن "الجزيرة" تخلت عن الأسد بعد. ثم كانت بعد يومين تظاهرة الحريقة في دمشق، التي أظهرت حشدا لا بأس به. ثم توالت الحشود في مناطق سورية، وسط لامبالاة إعلامية. 

يوم رأيتُ أن لا أصدقاء للثورة السورية، قمت بأقصى مجهود ممكن لدعم المتظاهرين. كتبت تقاريرا بالعربية والإنكليزية، وقمت بإنتاج فيديوهات جمعت فيها كل التظاهرات، وأضفت اسم المنطقة والتاريخ، ونشرت حيثما تيسر. كان ابني حديث المولد وكنت أحمله لينام على يدي وأغني له أناشيد القاشوش الثورية. ثم قتلوا القاشوش واستأصلوا حنجرته ورموهما في نهر العاصي. ليلتها، غنيت لابني "يالله ارحل يا بشار". ابني كان يبكي لأنه طفل وأنا بكيت من الأسى والاحباط. 

مع حلول أيار (مايو)، دعتني المعارضة السورية لأول مؤتمر أقامته في مدينة أنطاليا التركية. في حرم الفندق، رقص السوريون وهم يهتفون "عاشت سوريا ويسقط بشار الأسد". خارج الفندق، أحاطت بنا مجموعة من شبيحة الأسد وراحوا يهتفون له ويهددون باقتحام الفندق والضرب. 

في أنطاليا، شاهدتُ السوريين يتحاورون حول مصير بلادهم بعد الأسد. أدركت أن سوريا مثل العراق: خواء ثقافي وفكري ومجتمعي وسياسي. ما كنا نخاله دولة هو فعليا أجهزة استخبارات وعصابات تعمل بأمرة الطاغية. ينهار الطاغية، لا بديل غير الخواء، الذي يملأه طغاة آخرون، غالبا من المتطرفين الإسلاميين. 

عدتُ إلى واشنطن. الحرية والديمقراطية لن تأتي الى العراق أو سوريا أو لبنان بتغيير الأنظمة، بل بتغيير الشعوب. الأنظمة هي نتاج هذه الشعوب. لكن من يغير الشعوب؟ لا أميركا ولا قوى العالم قادرة على ذلك، وهو ما يعيدنا إلى ما ورد في كتاب المسلمين، "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغير ما بأنفسهم"، والسلام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق