الجمعة، 28 مايو 2021

هيل: الخليج تعب من مشاكل لبنان

واشنطن - من حسين عبدالحسين

قال وكيل وزارة الخارجية الأميركية للشؤون السياسية سابقاً ديفيد هيل، أن لبنان يعيش أسوأ أيامه منذ نهاية الحرب الأهلية في العام 1991، داعياً السياسيين - خصوصاً حلفاء «حزب الله» منهم - إلى التحلي بالمسؤولية، وتهديد الحزب بانهاء تحالفهم معه في حال اصراره على البقاء خارج الدولة وأنظمتها والنظام العالمي ككل.

كما اعتبر هيل، والذي كلّفته الإدارة حالياً الابتعاد عن العمل الديبلوماسي والإشراف على «مركز ويلسون» للأبحاث، أن بعض المسؤولين الأميركيين تعبوا من لبنان وكثرة مشاكله، وكذلك بعض العواصم الخليجية.

كلام الديبلوماسي الأميركي جاء أثناء جلسة افتتاح مؤتمر عقده «معهد الشرق الأوسط»، الذي يرأسه اللبناني بول سالم، بالتعاون مع شبكات لبنانية أميركية - ناشطة في الولايات المتحدة.

وقال هيل إن علاقته بلبنان بدأت منذ العام 1988، حيث خدم في مواقع ديبلوماسية متعددة معنية بالشأن اللبناني، توجّها بعمله سفيراً لبلاده في بيروت، قبل أن يتولى منصب وكيل وزارة الخارجية، حيث بقي الديبلوماسي الأول المعني بملف لبنان. وقال: «كان (لبنان) جزءاً كبيراً من حياتي، وفي بعض الأحيان، تلعب الألفة دورها في الابقاء على اهتمامي بهذا البلد وشؤونه».

وأضاف أنه زار لبنان «بداية شهر رمضان بطلب من وزير الخارجية انتوني بلينكن»، ورأى «لبنان في وضع أسوأ مما هو عليه منذ نهاية الحرب الأهلية في 1990».

وقال هيل «دعوتهم (أي المسؤولين اللبنانيين الذين التقاهم) إلى إظهار شعور بدقة الوضع وابداء مرونة».

لكن «لم أرَ أي مرونة منذ 4 أغسطس بعد زيارتي بيروت على أثر انفجار المرفأ».

واعتبر أن قادة لبنان فشلوا «في وضع مصلحة الشعب في المقام الأول»، مشيراً الى أن اللبنانيين خسروا مدخراتهم، وان الخدمات تدهورت والأوضاع ساءت، وهو ما دفع الولايات المتحدة ودولاً أخرى مثل فرنسا إلى الطلب الى الزعماء «إظهار مرونة لتشكيل حكومة»، مشدداً على أن «وقت إجراء إصلاحات شاملة قد حان الآن».

ولفت هيل الى أن انقاذ لبنان هو بأيدي اللبنانيين وحدهم، و«لن تأتي أي دولة لتنتشل لبنان من أزمته المالية والاقتصادية، بل إن دول العام مستعدة أن تساعده على انقاذ نفسه.

لكن حتى يدرك اللبنانيون ذلك، فلابد من تقديم رزم الدعم الإنساني، التي نعمل على تطويرها على أساس عاجل».

على أن «إحدى النقاط المضيئة المحتملة»، حسب المسؤول الأميركي، هي أن«لبنان قد يكون لديه إمكانية الوصول إلى الغاز البحري».

وفي هذا السياق، قال: «أثناء زيارتي، كان هناك استعداد لبناني للتفاوض مع إسرائيل (حول ترسيم الحدود البحرية بينهما)، تحت مظلة الأمم المتحدة».

وعرّج الديبلوماسي المخضرم في حديثه، على «حزب الله»، فقال إن «دولة لبنان لن تستعيد قوتها، ولن تحقق سيادتها، طالما أن حزب الله يكدس السلاح، ويتعامل بنشاطات غير مشروعة، ويتلقى أوامره من قوى أجنبية» وتوجه الى«حلفاء حزب الله اللبنانيين لاستخدام نفوذهم لديه لتغيير سلوكه، تحت طائلة الانسحاب من التحالف معه».

وعن السياق الاقليمي، ذكر هيل انه يتلقى أسئلة كثيرة عن تأثير محادثات فيينا النووية مع ايران على لبنان، أما اجابته على هذه الأسئلة فمفادها بأن «المحادثات تركز على خطة العمل الشاملة المشتركة» أي الاتفاقية النووية،«لا البعد الإقليمي، ولكن الحقيقة، بالنسبة للاستقرار الإقليمي، علينا كذلك حل مشكلة النشاط الإيراني المزعزع للاستقرار في المنطقة، لكن لا يوجد سبب يدعو اللبنانيين إلى الانتظار والترقب»لما سينجم عن المفاوضات النووية.

وتابع أن «السياسة الأميركية تجاه لبنان لا تتغير من إدارة إلى أخرى»، وفي الوقت نفسه «لا يمكنك فصل السياسة تجاه لبنان عن سياسات المنطقة».

لكن في لبنان، يقول هيل «ستكون سياساتنا أكثر نجاحاً إذا كان لدينا شركاء يمكننا العمل معهم، ومن الضروري أن نقدم دعمنا لأولئك الذين يشاركوننا قيمنا، وأن نتأكد من أننا ندعم أهدافهم، أي ندعم إعادة بناء دولة لبنان، وفي الوقت نفسه محاولة عزل لبنان - ما أمكن - عن الصراعات الإقليمية».

وشدد المسؤول الأميركي على أن لا موارد لدى الحكومة اللبنانية لمواصلة سير الأمور، «خصوصاً في ظل حكومة تصريف الأعمال»، معتبرا أن «الأفضل ألّا تنحاز أميركا إلى جانب بشكل واضح للغاية، لكن على اللبنانيين أن ينحازوا الى جانب المبادئ التي تؤدي الى تقوية دولتهم، أي عليهم أن يجعلوا حزب الله يتمسك بالقيم التي تمكّن الدولة من استعادة سيادتها، ويمكننا استخدام سياسة العصا والجزرة للدفع في الاتجاه نفسه، وفي أوروبا الفكرة نفسها أيضاً».

وختم هيل: «لم أكن لأقضي الكثير من الوقت في لبنان إن لم أكن أؤمن بالشعب اللبناني، لكن إيماننا لا يكفي، وعلى قادته أن يعرفوا أنهم سيخضعون للمساءلة يوما إذا لم يتخذوا الخيارات الصحيحة».

وفي كلمة موجهة الى المستمعين الأميركيين، قال هيل: «لا تهملوا لبنان لأننا سنصحو على أزمة بين أيدينا، لذا علينا أن نحافظ على تركيزنا، وألّا نتوقع صفقة كبيرة، بل تغييرات تدريجية في الاتجاه الأفضل».

الأربعاء، 26 مايو 2021

تصريحاته فلسطينياً وإسرائيلياً... لم ترض الحزبين الديموقراطيون يتهمون بلينكن بـ«التلكؤ» والجمهوريون يرون انه يُلغي «سياسة ترامب»

واشنطن - من حسين عبدالحسين

لم ترض زيارة وزير الخارجية انتوني بلينكن الى كل من القدس ورام الله، أياً من الحزبين الأميركيين، اذ اعتبر الديموقراطيون أنها زيارة شكلية وتنقصها الجدية والدفع باتجاه تسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، في وقت رأى الجمهوريون أن بلينكن قدم مكافأة لحركة «حماس» بالتعهد بإعادة إعمار في قطاع غزة ورصد أموال أميركية لهذا الهدف، وتراجع عن كل «الانجازات» التي كان حققها الرئيس السابق دونالد ترامب في دعمه إسرائيل.

في الكونغرس، ينقسم الديموقراطيون الى قسمين، وزيارة الوزير الأميركي لم ترض أياً منهما.

القسم الأكبر هو «الوسطي»، الذي يؤيد السعي للتوصل الى إقامة دولة فلسطينية الى جانب إسرائيل.

لكن تصريحات بلينكن، أثناء مؤتمره الصحافي في القدس، أول من أمس، لم تشي بأن لدى ادارة الرئيس جو بايدن خطة جدية لدفع تسوية الدولتين قدماً.

ويرى هؤلاء الديموقراطيون أن بايدن مازال ملتزماً «الدرس» الذي تعلمه من الرئيس السابق باراك أوباما، الذي أنفق الكثير من الوقت والجهد للتوصل الى تسوية، من دون أن ينجح في ذلك، وهو ما دفعه لإعلان أنه «لا يمكن للولايات المتحدة أن ترغب في السلام أكثر من الطرفين المعنيين»، وأن واشنطن «ستكون مستعدة لرعاية أي تسوية سلمية في حال قرر الطرفان المضي قدما بالتسوية وطلب المساعدة الأميركية».

وكان بلينكن اعتبر أن هدف زيارته هو التركيز على «الاحتياجات الملحة الموجودة في غزة، على أساس إنساني»، وكذلك «الاحتياجات الملحة لإعادة البناء وإعادة الإعمار، ثم البحث في إجراءات إزالة التوتر من جانب كل من الإسرائيليين والفلسطينيين، ومحاولة إزالة أو تقليل بعض المحفزات المحتملة لدورة جديدة من العنف».

لكن هذه السياسة لا تزال بعيدة عن موضوع التسوية، حسب غالبية الديموقراطيين في الكونغرس.

على أن بلينكن يرى أن ما يسعى للقيام به هو خطوة على طريق العودة لمفاوضات السلام، كما في قوله إنه في حال نجاحه في تقليص التوتر، «وسيستغرق ذلك بعض الوقت»، قد ينجم عن ذلك «بيئة أفضل تفتح المجال أمام إمكانية استئناف الجهود لتحقيق حل الدولتين»، حسب الوزير الأميركي، الذي تابع القول إن حل الدولتين مازال «السبيل الوحيد إلى التأكيد على مستقبل إسرائيل كدولة يهودية وديموقراطية، وبالطبع لمنح الفلسطينيين الدولة التي يحق لهم اقامتها».

وتوفير الشروط الملائمة للعودة لمحادثات السلام، حسب بلينكن، يتضمن ألّا يتخذ «أي من الطرفين خطوات قد تفضي الى إثارة العنف أو، بمرور الوقت، تقوّض احتمالات السعي لحل الدولتين»، وهو ما يعني أن ادارة بايدن، على حد قول وزير خارجيتها، تعارض «النشاط الاستيطاني (الإسرائيلي)، وعمليات هدم (منازل الفلسطينيين)، والإخلاء، والتحريض على العنف، ويشمل كذلك تقديم الأموال للإرهابيين».

وختم بلينكن بالقول: «أعتقد أن كل هذه الاستفزازات يمكنها أن تكون بمثابة محفزات تعيد التوتر، وربما العنف، ومن المؤكد أنها تقوض احتمالات تحقيق حل دولتين، وهذا شيء كنا واضحين جداً في شأنه في محادثاتنا مع الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء».

والى اعداده الأرضية المطلوبة للعودة الى مفاوضات السلام، قام بلينكن بالعودة الى غالبية الاجراءات التي كانت متبعة في زمن أوباما، فوزارة الخارجية، منذ عقود وفي عهد الادارات المتعاقبة الديموقراطية منها والجمهورية، رفضت الاعتراف بأي سيادة للإسرائيليين في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وحافظت على تصنيف هذه كأراض فلسطينية تحتلها إسرائيل.

كذلك، أعاد العلاقة الأميركية مع السلطة الفلسطينية، وأعلن نية واشنطن فتح قنصلية تخدم الفلسطينيين في القدس الشرقية، وهو ما يوازي نقل ترامب، السفارة الأميركية من تل أبيب الى القدس.

ولا ترى إدارة بايدن ضرورة في إعادة السفارة الأميركية من القدس الى تل أبيب، إذ إن هذه السفارة هي في القدس الغربية، التي ستكون من حصة إسرائيل في أي تسوية سلمية، فيما القدس الشرقية ستكون عاصمة الدولة الفلسطينية المزمع اقامتها، وفتح واشنطن قنصلية تخدم الفلسطينيين فيها هو بمثابة اعتراف ضمني أميركي بأن الشطر الشرقي من المدينة - أو على الأقل معظمه بحسب ما سينجم عن مفاوضات السلام - سيكون فلسطينياً.

اجراءات بلينكن، لم تعجب «الجناح التقدمي» في الحزب الديموقراطي، الذي لا يتمسك بحل الدولتين، بل يرى أن الحل الأنسب هو دولة ثنائية القومية يتساوى فيها الإسرائيليون والفلسطينيون بالحقوق والواجبات، على طراز الولايات المتحدة، حيث تتمتع كل الأعراق بحقوق متساوية في المواطنية.

لكن هذا الحل يصطدم بأن هوية الدولة الثنائية القومية لن تكون يهودية، ولا عربية، وهو ما يلقى رفضاً من الغالبية لدى الطرفين، الإسرائيلي والفلسطيني.

أما أكثر من ثار ضد زيارة بلينكن، فهم الجمهوريون في الكونغرس وفي وسائل إعلامهم، إذ راحوا يصورون أن الوزير الأميركي، الذي أعلن تبرعات بقيمة 80 مليون دولار لمساعدة الفلسطينيين، منها خمسة ملايين مخصصة لغزة، يكافئ «حماس» على افتعالها الحرب ضد إسرائيل، وأن هذا النوع من السياسة التي تؤدي الى مساعدات مالية أميركية قد تقنع الحركة بأن لا ثمن اقتصادي لحروبها.

لكن مبلغ خمسة ملايين دولار زهيد، بل يكاد يكون رمزياً، بالنسبة لكمية الأموال المطلوبة لإعادة إعمار القطاع الفلسطيني الجنوبي، وهو ما يعني أنه ليست الأموال نفسها هي التي تزعج غالبية الجمهوريين، بل عودة إدارة بايدن عن سياسات ترامب، والتي قضت بفرض شبه حصار أميركي على كل الفلسطينيين، بما فيها السلطة التي يعترف بها العالم كممثل للفلسطينيين.

وسبق لبايدن أن أعاد تسديد مساهمة الولايات المتحدة في تمويل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وهي الأموال التي كان حجبها ترامب بسبب اعتقاد إدارته أن الوكالة تحتفظ بأرشيف يحوي سجلات كل فلسطيني أراضي 1948، بما في ذلك من ينحدرون منهم.

كما تشكل إعادة بايدن العلاقة مع السلطة نهاية الاستراتيجية التي وضعها ترامب في مواجهة الفلسطينيين، والقائلة بممارسة ضغوط كبيرة عليهم، وفي الوقت نفسه تقديم محفزات كبيرة لحضهم على اختيار «صفقة القرن» التي كان أعلن عنها الرئيس الجمهوري السابق ورفضها الفلسطينيون لأنها خرجت عن «مبادئ حل الدولتين» وعن مرجعيات السلام ومقررات مؤتمراته ومفاوضاته الماضية.

الثلاثاء، 25 مايو 2021

عن مسرحية انتخاب الأسد

حسين عبدالحسين

روت لي صديقة وزميلة كانت تعمل في صحيفة لبنانية أنها ذهبت يوما لتغطي عملية إعادة انتخاب رئيس سوريا الراحل، حافظ الأسد. في لبنان كان يعمل قرابة مليوني سوري، وفي بيروت، أقام مركز الاستخبارات السورية في فندق بوريفاج قلم اقتراع توافد إليه السوريون المقيمون في لبنان، ومعظمهم كانوا من العمال المياومين.

وصلت صديقتي إلى الفندق وهي ترتدي سترة مكتوب عليها "صحافة"، ومعها أحد المصوّرين، وراحت تجري مقابلات مع الناخبين. فجأة، أطل عليها أحد المسؤولين عن صندق الاقتراع وأعطاها ورقة اقتراع، ودعاها لانتخاب الأسد. ضحكت وخالته يمزح، وقالت له لكني لبنانية، فأجابها "وشو عليه؟".

أضافت الصديقة أنها حتى كلبنانية، أحسّت بالخوف من المخابرات السورية، فما كان منها إلا أن وضعت الورقة في صندوق الاقتراع. في اليوم التالي، أعلنت كل وسائل الإعلام أن السوريين أعادوا انتخاب الأسد بنسبة أكثر من 99 في المئة.

المشهد تكرر معي بعد سنوات، وإن بصورة مختلفة قليلا، ففي حمأة استعدادات الولايات المتحدة للحرب في العراق ولنشر الديمقراطية في العالم في عام 2003، أعلن الرئيس العراقي صدام حسين نيته إقامة استفتاء على رئاسته لتأكيد أن العراقيين يختارونه بملء إرادتهم. 

كنت في بيروت ورنّ هاتفي. القائم بالأعمال في السفارة العراقية، وكان بيننا معرفة سابقة، اتصل بي شخصيا وسألني: "ها حسين؟ تعرف شكو باجر (تعرف ماذا سيحصل يوم غد)؟". تلعثمت ولم يخطر لي ما الإجابة التي يتوقعها الدبلوماسي العراقي. تفاديا لإحراجي، بادرني بالقول: "باجر يوم الزحف الكبير".

يوم "الزحف الكبير" هي التسمية التي أطلقها صدام على الاستفتاء. 

تظاهرت بأني كنت أعرف مسبقا وكنت أنوي الذهاب للسفارة للتصويت. وحاولت المزايدة على القائم بالأعمال، وقلت له إن الصحيفة التي كنت أعمل فيها أصرّت أن أكتب لها تقريرا عن تصويت المغتربين العراقيين في بيروت وعن الاحتفال الكبير الذي سيقيمونه. قال لي القائم بالأعمال: "ايه والله عاشت إيدك، أنت ما تقصّر".

طبعا القائم بالأعمال هذا كان لطيفا لأنه كان من الدبلوماسيين من خريجي وزارة الخارجية. الدبلوماسيون الآخرون في بيروت كانوا من المخابرات، لا ذوق عندهم ولا لطافة، فقط صمت وعبسة ومعاملة فجّة مع أي عراقي يزور السفارة. 

أنا كنت مزدوج الجنسية، عراقي لبناني، وكان يمكنني تجاهل السفارة العراقية في بيروت، لكن الكشف عن لبنانيتي كان سيكلف عائلتي كل ما تملكه في العراق، وهو ما أجبرني على تجديد جوازي العراقي بشكل دوري، وتجديد إقامتي في لبنان، مع أني لبناني. 

لبنان، وبسبب كثرة مغتربيه، كان معتادا ازدواجية الجنسية، وكان "الأمن العام اللبناني" يعاملني بلطف. في كل مرة أقوم فيها بتجديد إقامتي، يقول لي "الأمن العام" لكنك لبناني لا تحتاج إقامة. أشرح لهم وضعي العراقي، فيردون إذا هيك "تكرم عينك"، وطبعا غالبا ما يكون العاملون في الأمن العام من بلدتي، بعلبك، أو يعرفون أقاربي أو أعرف أقاربهم. كان لبنان بلدا ودودا جدا مقارنة بصدام وبعثييه واستخباراته.

في يوم "الزحف الكبير"، تواعدت مع مصوّر الصحيفة على اللقاء أمام السفارة العراقية. تأخّر، فوجت نفسي مضطرا للدخول وحدي. جلسنا نحن عراقيو لبنان في صالة كبيرة ووزّع عيلنا موظفو السفارة أوراق اقتراع مكتوب عليها "هل تجدد البيعة للسيد الرئيس صدام حسين"، مذيلة بخياري "نعم" و "لا".

ثم قال لنا موظفو السفارة "الأخوة ممن يرغبون بالاقتراع خلف الستارة، عندنا ستارة هنا"، وأشاروا إليها. أدرك العراقيون المطلوب. "ستارة، من ينتخب خلف ستارة، أعطيني سكينا لأطلع دمي وابصم للسيد الرئيس القائد على نعم بالدم". هكذا رحنا نتظاهر كلنا في القاعة بالسعادة لرسمنا دائرة على "نعم". سعى كل منا أن يتأكد أن موظفي السفارة شاهدوه وهو يختار "نعم".

ولتأكيد الولاء، وقف أحد الناخبين العراقيين. قال بعض الكلمات الحماسية، وأضاف "دفاعا عن منجزات ثورة تموز المجيدة، أعلن فتح باب التطوع لقتال الأميركان في العراق". عظيم. بدأ دفتر التطوع يدور من ناخب إلى آخر. وصلني. ممتاز. أراني الآن ذاهب لقتال الأميركان. كتبت اسمي وتوقيعي. ثم وقف نفر آخر، وراح يغني "هلا يا صكر البيدا يلقاطع سكة بعيدة"، ودار رقص الجوبي، ثم بعض هتافات "بالروح بالدم نفديك يا صدام". 

وصل زميلي المصوّر، وقال لي "تعال أصورك تنتخب"، أجبته: "للأسف، انتخبت". سمعني القائم بالأعمال وقال لي: "لا مشكلة"، وناولني ورقة اقتراع ثانية. رسمت دائرة حول "نعم" وأسقطتها مرة ثانية في صندوق الاقتراع. هذه المرة، مع صورة وأنا أهمّ بإسقاطها، وخلفي صورة صدام حسين وحولها إضاءة وورود. 

في اليوم التالي، عنونت كل صحف العالم أن صدام حسين فاز باستفتاء إعادة انتخابه بنسبة مئة في المئة، وعنونت صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" أن "العراقيين انتخبوا رئيسهم المثالي" (بسب حيازته نسبة مئة في المئة). 

هكذا هي انتخابات حافظ الأسد وصدام حسين، وهكذا هي في الغالب انتخابات الرئيس السوري، بشار الأسد، للفوز بولاية رابعة أو خامسة أو سابعة، لا فرق. هي مسرحية ساخرة مخصصة لبعض وسائل الإعلام الحزبية، أو وكالات الأنباء الروسية والمسؤولين الروس، الذي ما يلبثون يناقشون الانتخابات في سوريا ويرددون أن الأسد رئيس منتخب، وأن الوجود الروسي والإيراني في سوريا شرعي لأنه بطلب من الحكومة الشرعية. 

لدى الأسد حكومة، وهذا صحيح، لكن عن شرعيتها، اسألوا من اقترعوا لها، ولا تعاتبوهم لاقتراعهم، فقد تكون ظروفهم أملت عليهم ما لا يطيقون فعله، وهم يدركون أنها مسرحية، وأنهم شخصيات كومبارس يشاركون فيها، غالبا رغما عنهم.

«كورونا» ينحسر أميركياً والولايات تستعيد حياتها الطبيعية

واشنطن - من حسين عبدالحسين

تتسارع المؤشرات التي تشير الى بدء انحسار وباء فيروس كورونا المستجد في عموم الولايات المتحدة، في وقت قاربت نسبة الملقحين الخمسين في المئة بين السكان، وفي حين وصل معدل المصابين الى 10 بين كل 100 ألف من السكان، وهو الأدنى منذ بدأت الإصابات تتفشى في البلاد في مارس من العام الماضي.

كذلك بدأت الولايات، تسجّل انخفاضاً في أرقام الوفيات والإصابات لم تشهدها منذ بدء انتشار الوباء، فأعلنت تكساس أنها لم تسجل أي حالة وفاة في عطلة نهاية الأسبوع، بينما سجلت ميريلاند، 200 إصابة فقط، يوم الجمعة، مع بلوغ نسبة الملقحين في الولاية 42 في المئة من إجمالي السكان البالغ عددهم ستة ملايين.

وتشير التقارير الأميركية الى أن واحداً من كل أميركيين اثنين تم تلقيحه، وأن سرعة التلقيح اليومية تراجعت لتصل الى مليون و700 ألف، في وقت لدى البلاد المقدرة على تلقيح أربعة ملايين يومياً، وهو الحد الأقصى الذي سجلته للملقحين يومياً قبل أسابيع.

وبسبب تباطؤ أرقام الملقحين الجدد، فتحت الولايات أبواب التلقيح للمراهقين الذين تراوح أعمارهم بين 12 و15 عاما، في وقت تواصل شركة «فايزر»، منتجة أحد أبرز لقاحين أميركيين، اجراء اختبارات على خطين: الأول لتلقيح الأطفال ما دون 12 عاماً، والثاني لانتاج دواء لعلاج المرضى ممن تتم إصابتهم بالفيروس.

أما حكومات الولايات، فتستعين بالمشاهير لحض الأميركيين على تلقيح أنفسهم.

وانخرط الرئيس جو بايدن نفسه في الحملة، اذ دعا الأميركيين جميعاً الى تلقي اللقاح، وقال إن من يرفضون اللقاح يعرّضون أنفسهم لمخاطر صحية، بما في ذلك مرض «كورونا على المدى الطويل»، أي العوارض التي تلازم من تم شفاؤهم من الفيروس لبضعة أشهر أو أكثر.

وتعاني الولايات المتحدة، كما معظم دول العالم، من مجموعات كبيرة من المشككين، لا باللقاح المضاد فحسب، بل لمبدأ التلقيح نفسه، ويعتقدون أن لديه تأثيرات صحية سلبية.

ومن أبرز معارضي اللقاح بشكل عام الممثل الهوليودي الشهير روبرت دينيرو.

وحاول بعض معارضي حملة التلقيح الإشارة الى عدم فعالية اللقاح، وقالوا إنه قد يحمي ضد الفيروس الأساسي، لكنه لا يحمي ضد المتحورات، أو النسخات المتطورة.

لكن التقارير العلمية في أميركا وأوروبا تشير الى أن متحورات البرازيل وبريطانيا والهند تنتقل بفعالية أكبر وبشكل أسرع بين الناس، لكن هذا هو التحور الوحيد الذي طرأ على الفيروس، وهو ما يعني أن فعالية اللقاح في مكافحته وكل متحوراته لاتزال عالية جدا.

على أنه ورغم النجاح الباهر الذي تعيشه أميركا لناحية سرعة عملية التلقيح التي قادتها الحكومة الفيديرالية، والتي جعلت من أميركا الثامنة في العالم من حيث نسبة التطعيم، خلف دول أصغر منها بكثير، هو نجاح شابه فشل تمثل في الارتباك الذي رافق عملية الانتهاء من الوباء.

الاجراءات التي كان المطلوب من الأميركيين اتخاذها ابان انتشار الفيروس، مثل ارتداء كمامات والتباعد الاجتماعي، شهدت ارتباكاً كبيراً وفوضى، وهي إجراءات لم تعمد حكومة الرئيس السابق دونالد ترامب الى فرضها على المستوى الفيديرالي، وهو ما ترك حرية القرار لحكومات الولايات والمجالس المحلية في المقاطعات، فتفاوتت الاجتهادات والقرارات، وتحول موضوع ارتداء الكمامة الى موضوع سياسي، وراح ترامب والجمهوريون يعتبرون أن فرض الكمامة هو تعدٍ على الحريات الشخصية للأفراد، فساهم ذلك في تسريع انتشار الفيروس على أوسع نطاق ممكن.

هذه المرة مع إدارة بايدن، تسود فوضى مشابهة، وأن لا نتائج كارثية لها مثل فوضى ترامب، اذ إن حكومة بايدن لم تصدر قرارات مركزية لانهاء اجراءات الوقاية الاحترازية التي كانت مفروضة لمكافحة انتشار الوباء، واكتفت بقيام «مكتب السيطرة على الأمراض» بنشر تعاميم أشار فيها الى أنه يمكن لمن تلقوا اللقاح بالكامل، أي من مرّ اسبوعين على تلقيهم الجرعة الثانية من اللقاحات التي تتطلب جرعتين، العودة الى الحياة الطبيعية كما قبل «كورونا»، بما في ذلك تواجدهم في اماكن مغلقة مزدحمة من دون كمامة، من دون الخوف من التقاط أي عدوى أو نقلها لآخرين.

وقال مسؤولو الإدارة أن هدف التعاميم هو تحفيز غير الملقحين على المسارعة الى تلقيح أنفسهم للعودة للحياة الطبيعية من دون تباعد اجتماعي ولا كمامات.

لكن التعميم سمح للمشككين بالفيروس وخطورته بالتخلي عن الحذر من دون أن يكونوا قد تلقوا اللقاح، وهو ما يعني أنهم قد يواصلون تعريض أنفسهم وغيرهم لعدوى الفيروس ويساهمون في مواصلة انتشاره.

وقال المستشار الرئاسي لشؤون مكافحة فيروس كورونا الدكتور انتوني فاوتشي إن الحكومة ستعتمد نظام «ميثاق الشرف»، أي أن يقوم من تلقوا اللقاح فقط بالتخلي عن إجراءات الوقاية، وأن يحافظ من لم يتلقوا اللقاح على الاجراءات.

لكن «ميثاق الشرف» قد لا يلتزمه كثيرون، إن لم يكن الغالبية، ما دفع بعض الدول الى انتاج تطبيقات هاتفية هي بمثابة هوية صحية تؤكد ان كان حامل الهاتف قد تلقى اللقاح أم لا.

لكن هذا النوع من التطبيقات يلقى معارضة واسعة في الولايات المتحدة، بسبب هوس غالبية الأميركيين بـ«الحرية الفردية»، واعتبار أي وثائق أو تطبيقات من هذا النوع بمثابة تعقب حكومي للأفراد ووضعهم الصحي وأماكن تواجدهم، وهو ما يقضي على فكرة اصدار بطاقات أو تطبيقات هاتفية تظهر ان كان صاحبها تلقى اللقاح أم لا.

لكن فوضى الانفتاح لا توازي بمآسيها فوضى انتشار الوباء، اذ في الثانية انخفاض للفيروس بشكل عام، وهو ما يعني انخفاض عدد المصابين ممن يتم نقلهم للمستشفيات، التي صارت الأجنحة التي كانت مخصصة فيها لمرضى فيروس كورونا شبه خالية، مقارنة بالفوضى التي نجمت عن الاقفال لمكافحة انتشار الوباء، وهي الفوضى التي نجم عنها ازدحام المستشفيات بشكل كان ينذر بانهيار النظام الصحي الأميركي تحت وطأة تدفق المصابين، الذين سجلوا رقماً عالمياً جعل من أميركا الأولى في العالم لناحية عدد الاصابات.

مع انحسار وباء فيروس كورونا، وتوقعات بأن تتراجع أميركا الى المركز الثاني عالمياً بعد الهند في اجمالي عدد الاصابات، اعتبر المراقبون الأميركيون أن بايدن سيجنى مكاسب سياسية واسعة بسبب انحسار الوباء أثناء رئاسته، بغض النظر عن حجم الدور الذي لعبه في ذلك.

الخميس، 20 مايو 2021

معهد الخليج في واشنطن: أميركا تتفادى مواجهة الميليشيات العراقية

واشنطن - من حسين عبدالحسين

اعتبرت دراسة صادرة عن «معهد دول الخليج العربي في واشنطن»، أن الولايات المتحدة «غير راغبة استراتيجياً وعسكرياً في مواجهة الميليشيات (العراقية) بشكل مباشر بسبب الخطر الكبير المتمثل في خلق المزيد من الصراع الداخلي، والمزيد من عدم الاستقرار».
وأوردت الدراسة، التي أعدتها الباحثة جنيف عبدو، أن تحالفاً جديداً بدأ يأخذ شكلاً جلياً، هو التحالف بين الناشطين ممن تظاهروا في الشوارع في ما عرف بـ «ثورة تشرين» ورجال الدين الشيعة، وعلى رأسهم المرجعية في النجف التي يتزعمها السيد علي السيستاني.
وكتبت عبدو في دراستها، ان التحالف بين ناشطي المجتمع المدني ورجال الدين، هو أمر غير مألوف في بقية الدول العربية، التي يبتعد فيها عادة المجتمع المدني وناشطوه عن المؤسسات الدينية ورجالها.
«يسعى التحالف العراقي بين المسجد والشارع إلى إحداث تغيير عبر قنوات عدة، بما في ذلك الانتخابات البرلمانية المقرر إجراؤها في أكتوبر»، حسب الدراسة، التي تمضي متسائلة «ولكن ما هي إمكانات تحقيق الإصلاح السياسي والاقتصادي»؟ بغض النظر عن نتائج الانتخابات المقبلة، ترى الدراسة أن «التحالف غير الرسمي بين المتظاهرين ورجال الدين سيؤثر بالتأكيد على الانتخابات، ويمكن أن يؤذن ببداية عراق أكثر استقراراً».
وأشارت عبدو إلى نشوء «معارضة موحدة بشكل متزايد ضد إيران وتدخلها في الشأن العراقي».
وعزت ذلك الى الاختلاف «بين الشيعة العرب والشيعة الإيرانيين».
وقالت إنه على الرغم من أنهما يحملان اسم المذهب نفسه، الا أن الشيعة العرب لا يشتركون مع الشيعة الايرانيين «في القيم الدينية أو الهويات الوطنية نفسها في العالم الحديث».
وأضافت أن ايران قامت بنشر كمية كبيرة من الكتابات«حول التشيع الحديث»، ولكنها كتابات جاءت «من خلال عدسة الشيعة الإيرانيين، ونتيجة لذلك، تم تهميش فلسفة الشيعة العرب الحديثة إلى حد كبير، والتي تختلف اختلافاً كبيراً في خصائصها الفريدة» عن إيران.
وتابعت أن هذا «حدث جزئياً بسبب الادعاء التاريخي للفرس بالمحافظة على التفسير الحقيقي للتشيع».
وفي سياق متصل، اعتبرت دراسة صادرة عن«معهد تشاتهام هاوس» البريطاني أن «ميليشيا الحشد الشعبي لا تزال تعاني من انقسامات، وأنها لم ترق بعد الى مستوى الكتلة المتماسكة التي يسعى الى تشكيلها النظام في ايران كقوة شيعية موحدة في العراق، على غرار حزب الله في لبنان».
وتابعت أن «قوات الحشد الشعبي تواصل إرباك صانعي السياسات داخل العراق وخارجه، اذ بعد الهزيمة الإقليمية لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، تطورت شبكات الحشد الشعبي إلى قوى أمنية وسياسية واقتصادية كبيرة تتنافس على السلطة في الدولة العراقية».
وجاء في الدراسة التي أعدها الباحث ريناد منصور، أنه «على الرغم من الجهود التي يبذلها كبار قادتها، فإن قوات الحشد الشعبي ما زالت منظمة غير متماسكة ولا متكاملة، بل تبقى سلسلة من الشبكات المرنة التي تختلف في الهيكل الأفقي (تماسك القيادة) والعمودي (الروابط مع القاعدة الاجتماعية)».
وأضاف منصور ان «بنية كل شبكة تسلط الضوء على استراتيجياتها، وقدراتها، واتصالها بالدولة»، وأن «بعض هذه الشبكات ترتبط ارتباطاً وثيقاً بإيران».
وجاء في الدراسة أن «شبكات الحشد الشعبي تتمتع بعلاقة تكافلية مع الأجهزة الأمنية، والأحزاب السياسية، والاقتصاد في العراق»، وأن عضويتها «لا تقتصر على المقاتلين فحسب، بل تشمل أيضاً أعضاء في البرلمان، ووزراء، ومحافظين محليين، وأعضاء في مجالس المحافظات، ورجال أعمال في كل من الشركات العامة والخاصة، وموظفين حكوميين كبار، ومنظمات إنسانية ومدنيين».
وقال ريناد إن «علاقات شبكات قوات الحشد الشعبي تكشف عن الطبيعة الحقيقية للدولة العراقية، والتي لا تتناسب مع الدولة بمفهومها الحديث، وهي الدولة التي تدمج المؤسسات الحكومية الرسمية مع سلطة الدولة»، اذ أن «شبكات قوات الحشد الشعبي تتمتع بسلطة الدولة، وهي مندمجة في السياسة العراقية، وتسيطر على قاعدة اجتماعية، لكنها لا تشارك بالضرورة في حكومة رسمية».
وعن مواجهة ميليشيا «الحشد»، إن عن طريق تحجيم نفوذها أو السعي لحلّها، ترى الدراسة البريطانية أن «صانعي السياسة الذين يتطلعون إلى إصلاح أو تقييد الحشد الشعبي اعتمدوا سلسلة من الخيارات، منها تحريض ميليشيات الحشد المتنافسة ضد بعضها البعض، أو بناء مؤسسات حكومية أمنية بديلة عن الحالية، أو فرض عقوبات على الأفراد، أو الهجوم بالقوة العسكرية» ضد الميليشيات.
ومع ذلك، تتابع الدراسة «فشلت هذه الخيارات في إصلاح شبكات الحشد الشعبي أو الدولة العراقية، اذ هي لم تستند الى استراتيجية واضحة ومتماسكة أو برامج إصلاح قائمة».
وما زال موضوع كيفية مواجهة الميليشيات الشيعية في العراق من المواضيع المعقدة التي تواصل بحثها إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن مع الحكومة العراقية في اطار «الحوار الاستراتيجي».
وتعتقد واشنطن أن حصر استخدام العنف في أيدي الدولة العراقية هو مفتاح الاصلاح، لكن الولايات المتحدة لا تزال تبحث عن السبل المتاحة لتحجيم «الحشد» وإناطة دوره الأمني بالقوى الأمنية الحكومية.
أما الميليشيات، فهي ترى نفسها قائمة بقرار حكومي، ولا ترى أن أي حديث عن ضرورة حلّها يعنيها، بل تعتبر أن هدف وجودها هو لحماية الدولة ومكافحة عودة محتملة قد يقوم بها تنظيم «داعش» في شمال شرقي العراق.

الأربعاء، 19 مايو 2021

25 عضواً في الكونغرس يطالبون بلينكن بمساعدة للبنان بغض النظر عن حكومته

واشنطن - من حسين عبدالحسين

وقّع 25 عضواً في الكونغرس الأميركي، عريضة، وجهوها الى وزير الخارجية أنتوني بلينكن، طالبوا فيها ادارة الرئيس جو بايدن بتقديم مساعدات مالية عاجلة للشعب اللبناني وكذلك للجيش، من دون انتظار قيام حكومة لبنانية أو حصول الاصلاحات المنشودة، على أن يتم تقديم المساعدات من خارج مؤسسات الدولة.

وحذّر الأعضاء، الذين تصدرهم رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ غريغوري ميكس، من تدهور سعر الليرة اللبنانية الذي أدى الى القضاء على رواتب العسكريين، وقالوا إن هذا التخفيض الذي طال قيمة «رواتب الجنود اللبنانيين، والمصاعب الاقتصادية التي يواجهونها، قد تؤدي إلى فرارهم من الخدمة، والى تدهور قدرة الجيش، والى المزيد من الصراع الأهلي».

كما حذّرت العريضة من أن تدهور الجيش يعود بالفائدة على «الجماعات المسلحة غير الحكومية، مثل حزب الله والميليشيات الأخرى التي تهدد إسرائيل، والمنطقة الأوسع».

وكان لافتاً توقيع النائب عن ولاية كاليفورنيا، رو خانا، وهو أحد أصدقاء النظام الايراني ورئيس الحملة الانتخابية الرئاسية سابقاً للسيناتور بيرني ساندرز، نظراً لأن العريضة تهاجم «حزب الله» والميليشيات اللبنانية الأخرى.

كما كان لافتاً غياب توقيعات، الجمهوري من أصل لبناني دارن لحود، والديموقراطيتين من أصل فلسطيني رشيدة طليب ومن أصل صومالي إلهان عمر.

وجاء في العريضة: «نكتب للإعراب عن قلقنا العميق إزاء الأزمات الاقتصادية والسياسية المتفاقمة في لبنان، والتي تزعزع استقرار البلاد وتشكل مخاطر واضحة على المنطقة الأوسع».

وأضافت: «نحث حكومة الولايات المتحدة على اتخاذ إجراءات سريعة ومهمة، بالتنسيق مع الشركاء الدوليين الرئيسيين، لمعالجة معاناة الشعب اللبناني ومنع لبنان من الانهيار الاقتصادي الذي من شأنه أن يشكل المزيد من المخاطر على أمن واستقرار الشرق الأوسط الكبير، وكذلك على الأمن القومي للولايات المتحدة».

وتابعت العريضة أنه «بعد تسعة أشهر من الانفجار الكارثي الذي وقع في ميناء بيروت في أغسطس 2020، والذي أودى بحياة أكثر من 200 شخص وجرح أكثر من 4000، والذي تسبب بأضرار اقتصادية بمليارات الدولارات، يواجه لبنان أزمات اقتصادية وسياسية تتفاقم بسرعة، اذ فقدت العملة الوطنية 80 في المئة من قيمتها، وارتفعت معدلات البطالة، وارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 400 في المئة مقارنة بعام 2020».

واستندت العريضة الى بيانات البنك الدولي لتشير الى أن «الأزمة أدت إلى انكماش في الناتج المحلي من المتوقع أن يبلغ 20 في المئة، وإلى زيادة في معدلات الفقر بنسبة 45 في المئة».

وأشار أعضاء الكونغرس الى أن المواطنين اللبنانيين نزلوا إلى الشوارع في كل أنحاء البلاد، احتجاجاً على التدهور السريع للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وما زاد الطين بلة فشل قادة البرلمان في تشكيل حكومة جديدة بعد شهور من المفاوضات، في وقت أدى انتشار وباء كورونا إلى تفاقم الوضع، «ما أدى إلى استنزاف قدرة المستشفيات ونظام الرعاية الصحي، بالإضافة إلى نقص في السلع الطبية».

هذه التحديات، حسب العريضة، «لا تزيد من احتمالات نشوب صراع أهلي أوسع داخل لبنان فحسب، بل تزيد من مخاطر عدم الاستقرار الإقليمي».

وتابعت «مع تدهور الأوضاع، تسعى الجهات الفاعلة اللبنانية الداخلية، مثل حزب الله، إلى جانب الميليشيات والشبكات الإجرامية الأخرى، والقوى الخارجية مثل إيران وروسيا، إلى الافادة من تفتيت الدولة والمجتمع اللبناني لتحقيق مكاسبهم الخاصة»، وهو ما يعني «أن دعم لبنان في هذا الوقت الحرج ليس ضرورة إنسانية واقتصادية فحسب، بل هو أيضاً ضرورة أمنية لمنع القوى الساعية الى تقويض استقلال لبنان وسيادته» من القيام بذلك.

وأضافت العريضة: «نحن ندعم السياسات التي تعزز علاقة قوية ومستقرة بين الولايات المتحدة ولبنان، ومستقبلاً عادلاً ومزدهراً للشعب اللبناني».

في هذا السياق، وحسب أعضاء الكونغرس الموقعين، «جاءت الخطوات الأولية للولايات المتحدة - مثل وزارة الخارجية والوكالة الأميركية للتنمية الدولية - في تقديم المساعدة الإنسانية الطارئة للمستشفيات التي تكافح فيروس كورونا في أوائل عام 2020».

ولكن مع استمرار الاقتصاد اللبناني في الانهيار وانتشار الاضطرابات المدنية، «يجب عمل المزيد».

لذلك، تابعت العريضة، «ندعو الولايات المتحدة» إلى القيام بما يلي:

- أولاً، قيادة مجموعة دولية من «أصدقاء لبنان»، ومن بينهم فرنسا، لتنسيق المساعدة المالية العاجلة، وتحقيق برنامج الإصلاح باشراف «صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتحقيق الاستقرار في الاقتصاد اللبناني ريثما يتم تشكيل حكومة قادرة على التعامل مع حاجات اللبنانيين».

بعد القيام بذلك، «يجب تطبيق تدابير صارمة لاستئصال الفساد، وإصلاح الوزارات الحكومية المختلة، بالإضافة إلى إجراء تدقيق شامل، طال انتظاره، للبنك المركزي».

- ثانياً، وبالتوازي مع هذه الجهود، دعا أعضاء الكونغرس، الادارة الأميركية لقيادة جهود «المساعدة الإنسانية المباشرة لمعالجة الجوع، والصحة، والبطالة، للفئات الأكثر ضعفاً في لبنان».

وقال النواب إنه «يجب تقديم هذه المساعدة مباشرة إلى اللبنانيين لضمان مراعاة جميع القوانين الأميركية المناسبة، بالإضافة إلى التدقيق وفحص أداء المستفيدين والمنظمات المنفذة».

ثالثا، دعت العريضة الحكومة الأميركية الى "تقديم مساعدة للجيش اللبناني“ اضافية عن التي تقدمها حالياً، ووصفت الجيش اللبناني على أنه ”شريك للولايات المتحدة منذ فترة طويلة“، وأنه ”مؤسسة محترمة ذات أهمية حاسمة للاستقرار في لبنان“.

رابعاً وأخيراً، دعت العريضة ”إلى إجراء تحقيق دولي ومستقل في انفجار مرفأ بيروت في أغسطس 2020“، اذ إن التحقيقات اللبنانية لم تسفر حتى الآن إلا عن القليل، وهي تحقيقات ”غارقة في الفساد وسوء الإدارة“، وهو ما يعني أن على الولايات المتحدة أن «تقود الدعوات لإجراء تحقيق محايد بقيادة الأمم المتحدة».

وختمت العريضة القول بأنها تثمن «زيارة وكيل وزارة الخارجية ديفيد هيل إلى لبنان في أبريل، ومباحثاته مع القادة السياسيين اللبنانيين، وترداده أن ”دعم أميركا للشعب اللبناني مستمر».

الثلاثاء، 18 مايو 2021

توقعات أميركية ببدء الهدنة في غزة منتصف ليل غدٍ

واشنطن - من حسين عبدالحسين

كشفت مصادر في إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، ما سمعته من المسؤولين الإسرائيليين حول هدف العمل العسكري الإسرائيلي في قطاع غزة، والذي قالت المصادر الأميركية إنه يتمحور حول ثلاثة أهداف، أولها تصفية أكبر عدد ممكن من القادة العسكريين لتنظيمي «حماس» و«الجهاد الإسلامي»، وثانيها انتزاع قدرة حماس على شن هجمات عبر الحدود بين غزة والأراضي الإسرائيلية عبر الأنفاق وفوق الأرض، وثالثها تدمير شبكة الأنفاق التي تستخدمها «حماس» تحت غزة والتي يطلق عليها الإسرائيليون تسمية «مترو غزة».

ونقلت المصادر عن المسؤولين العسكريين الإسرائيليين أن الصور في غزة تظهر انهيار الأرض تحت شوارع القطاع، وهو ما فسّره الإسرائيليون للأميركيين على انه نجم عن الصواريخ الأميركية المخصصة لتدمير التحصينات، والتي استخدمتها إسرائيل لتدمير «مترو غزة»، إذ امتص الفراغ الذي أحدثته الصواريخ داخل الأنفاق إلى امتصاص الشوارع التي هبطت في جوف الأرض.

ويعتقد الإسرائيليون أن «أنفاق غزة تحولت إلى مصيدة لقادة حماس الذين راحوا يتفادونها بعد أيام قليلة على بداية المواجهات العسكرية بين الطرفين، وأن مقاتلين كثيرين من الحركة قضوا نحبهم في الأنفاق التي انهارت ومازالت جثثهم داخلها».

أما في اليومين المتبقيين قبل أن توافق إسرائيل على التزام هدنة مع «حماس»، فتأمل الدولة العبرية أن تنجح في تصفية كل من مسؤول «حماس» في غزة يحي السنوار، وقائد الذراع العسكرية للحركة محمد الضيف، أو أحدهما. ثم ستوافق على الهدنة المقترحة التي وافقت عليها «حماس».

وترجح المصادر الأميركية أن تدخل الهدنة حيز التنفيذ منتصف ليل غد الخميس، أو حتى قبل ذلك.

وموافقة إسرائيل على تقصير أمد الحرب، مقارنة بحرب 2014 التي استغرقت قرابة الـ 50 يوماً، قد يكون مردّها على الأرجح إلى الانقلاب الكبير في المواقف لدى الحزب الديموقراطي الأميركي حول إسرائيل، وهو ما بدا جلياً في موقفي عضوين ديموقراطيين في الكونغرس، يشغلان أعلى منصبين في لجنتي السياسة الخارجية، رغم استمرار تمسّك بايدن بموقف «وسطيي» الحزب، الداعم للدولة العبرية.

الانقلاب في المواقف جاء أولاً في بيان صدر نهاية الأسبوع عن مكتب رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ السناتور عن ولاية نيوجرسي روبرت مينينديز، عبر فيه عن «انزعاجه» من التقارير حول العمليات العسكرية «التي أسفرت عن مقتل مدنيين أبرياء في غزة، وكذلك الاستهداف الإسرائيلي للمباني التي تضم وسائل الإعلام الدولية».

ورغم أن مينينديز، هو من أحد أبرز أصدقاء إسرائيل ويتمتع بدعم وتبني اللوبي الموالي لها المعروف بـ «ايباك»، إلا أنه طالب بتحقيق«بالأعمال التي أدت إلى مقتل مدنيين وتدمير وسائل الإعلام»، معتبرا أن «جميع القادة السياسيين والعسكريين يتحملون مسؤولية التمسك بقواعد وقوانين الحرب».

لكن السناتور الديموقراطي حافظ على بعض صداقته مع إسرائيل بتبنيه التصريح الذي يدأب على تكراره السياسيون الأميركيون المدافعون عن إسرائيل بقوله إن «لإسرائيل كل الحق في الدفاع عن النفس ضد الإرهابيين الملتزمين بمحوها عن وجه الخريطة».

وعبارة «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» كانت تخلت عنها إدارة بايدن في معظم تصريحاتها في المحافل الدولية، بما في ذلك الجلسات المخصصة لحرب غزة في الأمم المتحدة.

الانقلاب الثاني على إسرائيل بين أركان الحزب الديموقراطي جاء من رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب غريغوري ميكس، وهو من الأفارقة الأميركيين ويمثل الدائرة رقم ستة في ولاية نيويورك.

ومثل مينينديز، يتمتع ميكس بدعم مطلق من «ايباك»، وهو مع ذلك، وجه إلى إدارة بايدن رسالة طالب فيها بتعليق مبيعات الأسلحة - بما فيها الصواريخ الدقيقة - التي أعلنت واشنطن موافقتها على بيعها لإسرائيل بمبلغ 735 مليون دولار.

خلف التغيير الحاصل في مواقف الحزب الديموقراطي عاملان: الأول هو الاندفاعة ضد إسرائيل لدى «الجناح التقدمي» داخل الحزب الديموقراطي، والذي يمثله أعضاء في مجلس الشيوخ مثل كريس مورفي والمرشحين السابقين للرئاسة بيرني ساندرز واليزابيث وارن، كما يمثله أعضاء مجلس النواب خصوصاً المعروفات بـ «الفريق»، أي الأميركيات من أصل فلسطيني رشيدة طليب، وصومالي الهان عمر، وبورتوريكي الكساندرا اوكاسيو كورتيز، وأفريقي أيانا بريسلي.

و«الجناح التقدمي» في الحزب الديموقراطي يتبنى وجهة النظر الفلسطينية بالكامل، في اعتباره أن إسرائيل هي عبارة عن احتلال عمره 73 عاما، وأن نصف الأراضي المحتلة تقوم فيها دولة تمييز عنصري (آبرثايد) اسمها إسرائيل، وفي النصف الثاني ترزح دولة فلسطين تحت احتلال إسرائيلي.

و«الجناح التقدمي» نفسه هو من المقربين من اللوبي المؤيد لنظام إيران، ومن مؤيدي العودة غير المشروطة للاتفاقية النووية مع إيران، بل الانفتاح الكامل عليها، وإعادة النظر في تحالفات الولايات المتحدة في المنطقة، بما في ذلك مع إسرائيل ومع الدول الأخرى.

ومنذ اندلاع الحرب في غزة، انضم للتقدميين زعيم الغالبية في مجلس الشيوخ تشاك شومر، وهو يهودي أميركي ويمثل ولاية نيويورك التي يسكنها أكثر من خمسة ملايين يهودي، وهي أكبر كتلة يهودية خارج إسرائيل.

أما «الجناح الوسطي» في الحزب الديموقراطي، والذي يمثله بايدن وإدارته ورئيسة الكونغرس نانسي بيلوسي، فحافظا على الخط التقليدي الذي تمسك بعبارة«حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وحرصا على تفادي مطالبة إسرائيل بوقف إطلاق نار فوري. وللالتفاف على مطلب وقف إطلاق النار، وفي نفس الوقت تنفيس احتقان«التقدميين»ضده، قال بايدن لرئيس حكومة إسرائيل في اتصال بينهما انه«يدعم وقف إطلاق النار»، بدلا من المطالبة الصريحة بذلك.

وبررت إدارة بايدن صمودها في وجه «التقدميين» وحفاظها على الدعم لإسرائيل، بالقول إن إسرائيل قدمت للولايات المتحدة معلومات استخباراتية سرية بررت فيها بعض الاستهدافات التي قامت بها داخل غزة، وهو ما أكده وزير الخارجية أنتوني بلينكن في تصريح، أثناء زيارة يقوم بها لفنلندا، بقوله إن إسرائيل قدمت تقاريرها السرية حول قصف مبنى كان يضم مكاتب وكالات إعلام عالمية.

ورفض بلينكن الإفصاح عن تفاصيل المعلومات السرية الإسرائيلية التي بررت قصف المبنى.

ألف سعودية ولا إيران

حسين عبدالحسين

في العاصمة الأميركية، كما في دول عربية كثيرة، نقاش دائم حول الأفضل بين قطبي المنطقة، السعودية أم إيران، يستخدم فيها مؤيدو كل من القوتين الإقليميتين كل ما بحوزتهما من حجج للدلالة على أن الدولة التي يؤيدونها أكثر انفتاحا وتنورا، وأن الثانية دولة قروسطوية تشكل تهديدا على الأمن الاقليمي والدولي، ويستدلون بتقارير منظمات حقوق الإنسان الدولية والحريات، وغالبا ما تكون أكثر انحيازا لإيران لاعتقادها أن الأخيرة تقف في مواجهة الكولونيالة، وهو ما يجعلها في خانة المستضعفين والمظلومين، والمظلوم لا يظلم، أو هذا هو الاعتقاد الساذج المنتشر لدى المنظمات الغربية. 

لكن لمقارنة عادلة، الأفضل إبقاء مواضيع الديمقراطية والحريات خارج النقاش، فهذه لا تنتشر كثيرا خارج كتلة الدول الديمقراطية الليبرالية في الغرب واليابان وكوريا الجنوبية، وهو ما يعني أن المقارنة بين السعودية وإيران تنحصر بمستوى المعيشة والازدهار الاقتصادي في كل من البلدين، كما بالاستقرار ومواضيع الحوكمة الرشيدة وحكم القانون. 

في مستوى المعيشة والرفاه، لا تحتاج المقارنة للكثير من الأبحاث ليتبين بسرعة أن السعودية أفضل، بما لا يقاس، كحكومة واقتصاد من إيران، ففي الدولتين التي تتمتعان بأكبر احتياطات للطاقة في العالم، يبلغ حجم الناتج السنوي السعودي 800 مليار دولار، مقابل 450 مليار دولار لإيران. ولأن عدد سكان السعودية 34 مليونا، يقابلها 82 مليونا من الإيرانيين، يبلغ معدل دخل الفرد السعودي 23 ألف دولار سنويا، فيما يبلغ معدل دخل الفرد السنوي في إيران سبعة آلاف دولار، أي أن المواطن أو المقيم في السعودية يجني ثلاثة أضعاف ما يجنيه المواطن أو المقيم في إيران. 

والبحبوحة الاقتصادية السعودية أدت إلى توظيف أكثر من 10 ملايين عامل أجنبي، فيما تعاني إيران من نقص في العمالة، خصوصا المتخصصة منها، بسبب اقتصادها المتدهور ومستوى المعيشة فيها. والعمالة الأجنبية في السعودية تتضمن مئات آلاف العاملين من دول عربية، مثل لبنان وسوريا وفلسطين ومصر وتونس والأردن واليمن، ومعظم هؤلاء يسترزقون في السعودية، ويعيلون عائلاتهم، ويربّون أولادهم، ويرسلون حوالات مالية إلى أهاليهم في أوطانهم، حتى أن خط الحياة الوحيد المتبقي لدول انهار اقتصادها، مثل سوريا ولبنان، هي حوالات مغتربي السعودية والخليج. 

ومع أن إيران تعاني من شح مالي يُجبر مواطنيها على الهجرة إلى أي وطن بديل يمكن الوصول إليه، الا أن نظام إيران الإسلامي لا يتردد في إنفاق ما تيسر له من أموال لتمويل ميليشيات موالية له في عموم المنطقة، فيقدم رواتب زهيدة لشباب من باكستان وأفغانستان والعراق ولبنان واليمن وغزة، مقابل تنظيمهم في ميليشيات مسلحة عنيفة تتمرد على حكوماتها، وتطيح بها، وتحوّل دولها إلى دول مارقة تأوي كل أنواع الإرهاب والإرهابيين. 

كما تسلّح إيران هذه الميليشيات في دول المنطقة بكل أنواع الصواريخ والطائرات المتفجرة بلا طيار، وتقوم الميليشيات بإطلاق هذه الصواريخ على أي حكومة في الإقليم تخالها طهران منافسه لها، أو غير خاضعة لأوامرها. 

في الداخل، تعاني إيران من انهيار اقتصادها والانخفاض المتواصل في سعر عملتها، إذ وصل سعر صرف الدولار الأميركي في إيران إلى 42 ألف ريال، فيما كان الدولار يساوي 71 ريالا فقط قبل انهيار حكم الشاه رضا بهلوي في 1979. وعلى شاكلة انهيار اقتصاد إيران وعملتها، ينهار اقتصادا لبنان وسوريا ومعه نقديهما الوطنيين إلى معدلات جعلت من راتب رجل الشرطة في لبنان، مثلا، يساوي 50 دولارا في الشهر، وهو ما يعني أنه وعائلته يعيشان على أقل من دولارين في اليوم، وهذا تحت خط الفقر العالمي. 

وفيما يتمتع السعوديون بانخراطهم في الاقتصاد العالمي، ويجولون دول العالم في أسابيع إجازاتهم، يعاني الإيرانيون، ومثلهم اللبنانيين والسوريين ، من فقدان المواد الغذائية الأساسية، وغياب الطاقة، ويقف اللبنانيون والسوريون في سياراتهم في طوابير طويلة أمام محطات الوقود، ويعانون من انقطاع الكهرباء، فيما يتعذر عليهم الحصول على تأشيرات زيارة (فيزا) إلى معظم دول العالم، بسبب فقدان ثقة حكومات العالم بالحكومات الثورية التي تحكم إيران وسوريا ولبنان وبجوازات السفر التي تصدرها، وبسبب استضافة إيران وحلفائها ميليشيات تصنفها معظم دول المعمورة على أنها إرهابية. 

أما في حكم القانون والحكومة الرشيدة، فيتمتع السعوديون والمقيمون بأبسط ما يقدمه القانون، لناحية حماية الملكية الفردية، وحماية الناس. أما في إيران والدول التابعة لها، فلا قيمة للقانون، حيث تستخدم الميلشيات عنفها في كل أشكال البلطجة، بما في ذلك تجارة المخدرات، وتهريب البضائع عبر معابر غير شرعية مقابل تعريفات جمركية منخفضة، وهو ما يؤدي إلى خسارة الحكومات أموالا طائلة، كما تقوم الميلشيات بعمليات تزوير سندات عقارات واحتلال عقارات الناس، والإفادة منها ماليا. 

السعودية مملكة تقليدية، يجدد شبابها ولي عهد يسعى لتبني نموذج اقتصاد الخدمات لتقليص اعتماد المملكة على النفط، على غرار النموذج الذي طبقته الإمارات بنجاح. وتنخرط السعودية في النظام العالمي، وتشارك سنويا في لقاء قمة الدول العشرين (أي أكبر عشرين اقتصاد في العالم)، وتحافظ على علاقات ندية بالحكومات الصديقة وغير الصديقة. وفي السعودية، مواقع التواصل الاجتماعي مثل تويتر وفيسبوك وغيرها مفتوحة للعامة، وكذلك مواقع نتفليكس وبضائع آبل وغيرها من الوكالات العالمية. 

أما إيران، فميليشيا ثورية في ثوب دولة، لا تحترم النظام العالمي، بل تعتبره نظاما جائرا صنعه "الرجل الأبيض" في خدمته، وتقوم بتشتيت الانتباه عن فقر وإحباط مواطنيها ومواطني الدول التي تحكمها بالحروب، وبالشعارات الثورية، وبالتهديد بالفوضى. والانترنت في إيران شبه مغلق، ومواقع التواصل الاجتماعي محظورة، مع أن المرشد نفسه ينشط عليها بأكثر من أربع لغات. ولا يمكن الحصول على الخدمات والبضائع الدولية في إيران إلا في السوق السوداء. 

يوم يقف أي لبناني أو سوري أو مصري ليختار وجهة ليهاجر إليها بحثا عن الرزق، من يختار السعودية ومن يختار إيران؟ الإجابة هي أن الغالبية المطلقة تذهب إلى السعودية لتعمل وتعيش وتعيل وتربي، فيما لا يذهب إلى إيران إلا قطّاع الطرق والعصابات من الشباب الطائش والمرتزقة، وهؤلاء لا يسكنون إيران، بل يستقوون بها على أهلهم وبلدانهم. 

عليه، يصبح يسيرا الاستنتاج التالي لأي مواطن في المنطقة: ألف سعودية ولا إيران.

الأربعاء، 12 مايو 2021

إدارة بايدن تواجه أول أزمة حقيقية في حرب غزة

واشنطن - من حسين عبدالحسين

منذ دخوله البيت الأبيض، فاجأ الرئيس جو بايدن المراقبين بانضباطية صارمة في سلوكه وتصريحاته وسياساته.

فبايدن، السياسي الذي أمضى أكثر من أربعة عقود في العاصمة الأميركية، كان معروفاً بهفواته ومواقفه الارتجالية، لكنه في رئاسته، بدا وكأن كل سياساته تمشي وفقاً لخطط دقيقة أعدها مسبقاً، منذ كان مرشحاً.

وفي خططه مواجهة الصين وروسيا والتغير المناخي، والعودة للاتفاقية النووية مع إيران، واستكمال اتفاقيات السلام بين الدول العربية وإسرائيل.

لكن الوضع الفلسطيني لم يكن في دائرة اهتمام بايدن، لا في ترشيحه ولا بعد انتخابه، اذ تابع الرئيس الحالي - كما في معظم السياسة الخارجية - من حيث توقف الرئيس السابق باراك أوباما، الذي كان توصل لـ«عرض سخي» للسلام، قدمه الإسرائيليون للرئيس الفلسطيني محمود عبّاس، الذي لم يرد على المبادرة، ما دفع أوباما الى اطلاق مقولته الشهيرة، أنه «لا يمكن للولايات المتحدة أن ترغب في السلام أكثر من الفلسطينيين والإسرائيليين أنفسهم»، وأنه عندما يقرر كلا الطرفين العمل للتوصل لسلام، ستكون واشنطن مستعدة لرعايته ودعمه.

هكذا، كانت القضية الفلسطينية «في الثلاجة»، حسب التعبير الأميركي، الى أن وجد المسؤولون أنفسهم فجأة يتابعون تقارير تبادل ضربات صاروخية وجوية بين قطاع غزة وإسرائيل، وهو ما فرض على واشنطن تعليق جدول أعمالها المقرر والانخراط في محادثات مع الإسرائيليين والعواصم العربية، والسعي لتهدئة الأوضاع ووقف اطلاق النار.

في الأسابيع التي سبقت حرب غزة، أبلغ المسؤولون الإسرائيليون، الذين تعاقبوا على زيارة واشنطن، نظراءهم الأميركيين أن تقاريرهم الاستخباراتية كانت تحذر من امكانية اندلاع «انتفاضة ثالثة» أو «مواجهات» في الضفة الغربية، غالباً بسبب قيام عبّاس بتأجيل انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني التي كانت مقررة في 22 مايو الجاري.

كما رصد الأميركيون تصريحات لكبار المسؤولين الإيرانيين، وسمعوا تسريبات من مجالس الإيرانيين الخاصة، أن رد طهران على الضربات الإسرائيلية داخل إيران، وفي سورية، وضد ناقلاتها البحرية، سيكون في فلسطين.

وفعلاً، بدأ التصعيد من الجانب الفلسطيني في هجوم أدى الى مقتل إسرائيلي وجرح اثنين قرب نابلس، وفي عبوة انفجرت على طريق مستوطنة من دون أن تؤدي الى وقوع ضحايا. وفي وقت لاحق، قامت الفصائل باطلاق 51 صاروخاً على الأراضي الإسرائيلية، لم توقع ضحايا.

وعجّت المواقع الإسرائيلية بكتابات لكتاب اعتبروا فيها أن حركة «حماس» قامت بتصعيد بسيط واستعراض سياسي لعلمها أن الدولة العبرية ليست في وارد الانخراط في حرب شاملة ضدها، في وقت كان الجيش يرسل تعزيزات الى الضفة تحسبا من اندلاع انتفاضة فيها.

لكن تطور الأحداث خالف كل التوقعات، فالمواجهات لم تنفجر في الضفة، بل في مناطق عرب إسرائيل، اذ وجدت بعض المدن نفسها، مثل اللد، وسط ما يشبه «حرب أهلية»، قام خلالها الفلسطينيون باحراق مبان يهودية وسيارة شرطة واستبدال الأعلام الإسرائيلية، بالفلسطينية.

كذلك لم تتوقع إسرائيل أن تمضي «حماس» في تصعيدها الصاروخي، وهو ما دفع المسؤولين الى التشاور مع نظرائهم الأميركيين في الخيارات المتاحة أمامهم.

وأبلغ الإسرائيليون، الأميركيين، أن وقوفهم بمظهر العاجزين أمام تهديدات«حماس»والمهلة الزمنية التي منحتها لإسرائيل لسحب قوات الشرطة من محيط المسجد الأقصى في القدس الشرقية، سيظهر إسرائيل بمظهر العاجزة وسيشجّع الحركة على التمادي في تهديداتها. وطلبوا دعماً علنياً أميركياً.

لكن إدارة بايدن في موقف صعب. من ناحية، ترى أن حرب غزة تعقّد المفاوضات النووية مع إيران وتؤجل التوصل لاتفاقية، ومن ناحية ثانية، تخضع هذه الإدارة لضغط كبير من جناح اقصى اليسار في الحزب الديموقراطي، الذي يطالب دائماً بالتشدد ضد إسرائيل والضغط عليها لانصاف الفلسطينيين ومنحهم حقوقهم، تحت طائلة تعليق المساعدات للدولة العبرية.

ووجد هذا الجناح، الذي يتزعمه السناتوران بيرني ساندرز واليزابيث وارن، في تطورات القدس، الفرصة سانحة لشن هجمات سياسية ضد إسرائيل، وهو ما أجبر مسؤولي بايدن على لجم أي دعم علني ممكن التعبير عنه تجاه الدولة العبرية، فتعرضت بذلك الإدارة لحملة مضادة من اليمين الجمهوري، معتبراً أن بايدن يتخلى عن الحلفاء، مثل إسرائيل.

هكذا، ترى إدارة بايدن أن السيناريو الأفضل لها هو السعي للتوصل الى تهدئة بأسرع ما يمكن، وهو ما أطلق سلسلة اتصالات واسعة سعت من خلالها الى لجم الحرب، التي يبدو أن لا أهداف واضحة لها، باستثناء في الجانب الإسرائيلي، اذ ان التصعيد سيقود الإسرائيليين إلى اجتياح أرضي، ويطيل أمد الحرب لأسابيع.

وعلمت «الراي» أن الإسرائيليين أعربوا للأميركيين عن استعدادهم لوقف فوري للنار، لكن إن لم تتوقف «حماس»، فإن الرد سيكون أضعافا مضاعفة لما ستلقيه الحركة على الإسرائيليين، وان استمرارها في الحرب«قد يقدم فرصة للإسرائيليين لاجتياح غزة وتفكيك البنية التحتية العسكرية للفصائل والتخلص من شوكة في خصر الدولة الإسرائيلية تزعجها منذ سنوات».

المواجهة لا تزال في أيامها الأولى، لكن كل المؤشرات حتى الآن تجمع على تصعيد آتٍ، ولا مؤشرات حتى الآن تشير الى أن أي من الطرفين ينوي تفادي الحرب وحقن الدماء.

الثلاثاء، 11 مايو 2021

قضايا قومية أم سرقة عقارات؟

حسين عبدالحسين

نشر معهد "نيولاينز" الأميركي دراسة قيّمة ومفصّلة حول عملية التغيير الديموغرافي التي تقوم بها ميليشيا "الحشد الشعبي" العراقية، الموالية لايران، في محافظة نينوى، حيث تقوم الميليشيا ذات الغالبية الشيعية بالاستيلاء على منازل وأراض وعقارات تعود ملكيتها لعراقيين سنة أو مسيحيين، أو حتى للوقف السني.

وتقوم الميلشيات بتزوير السندات وبيع العقارات لأصحابها بمبالغ أعلى بكثير من سعرها، أو باستثمار العقارات بطرق مختلفة للافادة منها. وفي المرات التي حاولت فيها مجالس البلديات التصدي لعملية التزوير هذه، قامت الميليشيا الشيعية بتهديد أعضاء المجالس بالخطف والقتل. 

والتغيير الديموغرافي ليس جديدا على "محور المقاومة". في بغداد، قبل قيام "الحشد الشعبي"، كانت فصائل مثل "عصائب أهل الحق" تقوم بالاستيلاء على عقارات عراقيين سنة، وتتهمهم زورا بأنهم من "أذناب النظام البائد"، وتقوم بتزوير سندات عقاراتهم والاستيلاء عليها. 

وفي سوريا، أصدر نظام الأسد قبل عامين القانون رقم 10، الذي يمهل أي سوري غائب مهلة 30 يوما للحضور وتثبيت ملكيته للعقار، وان تخلف عن ذلك، تتم مصادرة العقار ضمن عملية ”اعادة الاعمار“، التي تتضمن استبدال السوريين المعارضين بمؤيدي الأسد، سوريين أم لبنانيين أم عراقيين أم ايرانيين أم أفغان. وقبل الحرب السورية، دأب نظام الأسد على "تعريب" المناطق الكردية السورية، ومصادرة أملاك سكانها، وطردهم، وتعريب أسماء بلداتهم وقراهم، وحرمانهم من تعليم أبنائهم اللغة الكردية، لأن الدولة اسمها "الجمهورية العربية السورية"، وهي بعروبتها لا تتسع لغير البعثيين من أزلام الأسد، عربا كانوا أم غير ذلك. 

في زمن الحرب الأهلية في لبنان، انتشرت ظاهرة "احتلال“ المنازل، وأطلق المحتلون على أنفسهم اسم ”مهجرين“، أي لاجئين من مناطق صراع. لكن هؤلاء اللاجئين لم يخلوا المنازل التي استولوا عليها بعد انتهاء الصراع في المناطق التي ينحدرون منها، ولا حتى بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، هو ما أجبر دولة لبنان على إنشاء "صندوق المهجرين" لتسديد بدلات مالية للمحتلين واعادة الأملاك لأصحابها. 

وكانت مجموعة سكانية لبنانية استولت على بيوت اليهود اللبنانيين المهجورة في بيروت في الحي المعروف بـ "وادي أبو جميل". وعندما بادرت الدولة لتسديد بدلات للمحتلين لاخلاء بيوت الوادي، دار التلاعب، وراح سكان كل شقة يعدلون في بنائها ويحولوها إلى شقتين أو أكثر، وهو ما يعني مضاعفة التعويض الحكومي لهم. وقتذاك، وبسبب كمية الفساد والأموال التي أنفقتها الدولة، أطلق اللبنانيون تندرا اسم "وادي الذهب" على الحي الذي كانت تسكنه يوما غالبية يهودية. 

حتى اليوم، لا يزال في لبنان من يحتلّون عقارات، ويستقوون بالميليشيات، ويعطلون الدعاوى القضائية التي يرفعها المالكون، ويستبيحون الملكية العقارية رغما عن ارادة المالك. وعلى إثر الدمار الذي لحق بضاحية بيروت الجنوبية، بعد حرب "حزب الله" مع اسرائيل في 2006، ظهر المالكون الأصليون للضاحية، التي يسكنها غالبية شيعية مؤيدة للحزب. غالبية المالكين الأصليين هم من المسيحيين ممن بنى في عقاراتهم لبنانيون شيعة بيوت وبنايات. 

بعدما انهارت البنايات، وجد المالكون فرصة سانحة لاستعادة عقاراتهم. لكن قوة "حزب الله" العسكرية منعت ذلك، وقامت جمعية "جهاد البناء" التابعة لـ "حزب الله" بإعادة بناء شقق سكنية على أملاك المسيحيين، وتعاقدت مع شركات هندسية مسيحية، يعتقد البعض أن منها يملكها جيران باسيل، وزير الخارجية السابق وصهر رئيس لبنان ميشال عون، وهذه إحدى الاتهامات التي استندت إليها الإدارة الأميركية في تصنيفها باسيل على لائحة ماغنيتسكي للمسؤولين الفاسدين الذي يثرون على حساب حقوق الانسان، أو عبر التحالف مع تنظيمات تصنفها واشنطن ارهابية مثل "حزب الله". 

وإن صحت تقارير مشاركة باسيل في إعادة بناء الضاحية الجنوبية، يكون قد ساهم في تثبيت استيلاء شيعة حزب الله، الموالين لايران، على أملاك مسيحيي لبنان. أما المفارقة، فتكمن في أن رئيس لبنان نفسه، المسيحي الماروني عون، ينحدر من حارة حريك في الضاحية، وهي الحي المسيحي اللبناني الذي صار شيعيا ايرانيا بقوة السلاح، وصار مقرّ الأمانة العامة لـ ”حزب الله“. 

وعلى الجهة الجنوبية البحرية من بيروت، قامت يوما منتجعات سياحية فاخرة في منطقة سان سيمون، نسبة الى الخليج الذي يحمل اسم القديس سمعان العمودي، وأغلب الظن أن كان له مقاما دينيا تحول فيما بعد الى موقع اسلامي سني منسوب الى الامام عبدالرحمن الأوزاعي. ثم استولى ميليشياويون لبنانيون على المنتجعات في زمن الحرب الأهلية، وتحولت السان سيمون الفاخرة الى منطقة الأوزاعي الشعبية، ولم تعد الأملاك الى أصحابها حتى اليوم. 

هكذا هي سندات وصكوك الملكية العقارية في لبنان وسوريا والعراق: لا قيمة فعلية لها، بل أن الملكية هي بأيدي الأقوى، الميليشياوي صاحب السلاح غير الشرعي والخارج عن سلطة الدولة. 

وفي إيران المشكلة نفسها: قام نظام الجمهورية المسماة اسلامية بالاستيلاء على عقارات عرب ايران، وغالبيتهم من السنة، ومنح العقارات لمؤيدي النظام، وهم من الشيعة. ثم كلّما حاول عرب إيران بناء منزل أو مقر سكن، تقوم السلطات الإيرانية بهدمه بحجة أن التخطيط المدني لم يوافق على منح رخصة في منطقة يصنفها زراعية.

كما يحظر نظام إيران على العرب الإيرانيين تسمية أبنائهم بأسماء عربية، ويمنعهم من تعليم العربية في مدارسهم خارج حصص تعليم الدين، ويقوم بتغيير أسماء بلداتهم من عربية إلى فارسية. 

ثم يقولون لك إن نظام ايران، ومعه "محور المقاومة"، حامي حمى العرب والمسلمين، فيما الواقع أنه تحالف عصابات تتنوع وسائل دخلها بين الابتزاز، والاستيلاء على عقارات الغير، والتغيير الديموغرافي لمكافأة الأزلام ومعاقبة المعارضين، والاتجار بالمخدرات، وتبييض الأموال. ثم يقولون لك إن كل هذا هو لتحرير فلسطين، فيما الواقع أن لا قضية ولا قومية في أي من هذه الممارسات، بل بلطجة وسلبطة لا غير. 

و"السلبطة" كلمة عامية لدى عرب المشرق تعني استخدام النفوذ والعنف لأهداف الابتزاز والسلب، وهي كلمة تصف دستور المشرق والعراق منذ القدم، وهو ما دفع سكان هذه البلدان إلى الانتظام في قبائل وعشائر، بدلا من أفراد مواطنين في دول، إذ يمكن للعشيرة وحلفائها منع سلبطة الآخرين على أفرادها، وذلك عن طريق "الردع المتبادل"، وهو ما جعل الدول وسنداتها بدون قيمة أمام قوة الشارع والميليشيا. هذه هي أزمة لبنان وسوريا والعراق واليمن وايران، وهذه الأزمة التي لا يبدو، للأسف، أن لدى أي منا حلول لها.

الأحد، 9 مايو 2021

الانقسام السياسي الأميركي... الفول ديموقراطي واللحم جمهوري

واشنطن - من حسين عبدالحسين

بلغ الانقسام السياسي الأميركي، أو «حرب الثقافات»، كما يحلو للأميركيين تسميتها، ذروته، مع الضجة التي أثارها النقاش حول تأثير تربية الماشية على ارتفاع معدلات انبعاث ثاني أوكسيد الكربون، وتالياً المساهمة الكبيرة للماشية في الاحتباس الحراري والتغير المناخي الناجم عنه.

في أوساط الحزب الديموقراطي انتشرت دراسات من أبرز الجامعات، مثل جامعة كولومبيا العريقة في مدينة نيويورك، ورد فيها أن الماشية المخصصة للاستهلاك البشري تساهم في ثلث اجمالي الغازات المنبعثة في العالم.

وجاء في الدراسة أنه «حتى لو انخفضت إلى الصفر انبعاثات النظام غير الغذائي»، أي الناجمة عن قطاعي الصناعة والنقل، «سيكون من المستحيل» الوصول للمعدلات المنخفضة التي أقرّتها اتفاقية باريس للمناخ، وذلك بسبب انبعاثات النظام الغذائي.

وأضافت أن «الغذاء والمناخ مترابطان، اذ يشكل تغير المناخ مخاطر كبيرة على النظام الغذائي، ويؤدي ارتفاع درجات الحرارة وتغير أنماط الطقس الى أضرار جسيمة للمحاصيل، ولشبكات التجارة المرتبطة بها، ولسبل العيش في العقود المقبلة».

ولفتت الدراسة الى أن «مئات الملايين من الناس يعملون في الزراعة وغيرها من جوانب إنتاج الغذاء»، وأن «أعلى النسب المئوية هي في البلدان النامية، حيث يعيش أكثر من أربعة مليارات شخص، معظمهم من النساء»، وهو ما يعني أن تعطيل هذا القطاع يؤثر سلبيا بالدول الزراعية أكثر منه في الصناعية.

ولأن مواضيع المناخ تتصدر النقاش الأميركي، أعلن أبرز المواقع الأميركية المتخصصة بتقديم وصفات لتحضير وجبات الطعام، المعروف بـ «ايبيكيوريوس»، أن الموقع لن يضيف أي وصفات جديدة تتضمن تحضير أطباق فيها لحم، وأنه سيستعيض عن ذلك بالأطباق المعدة من الخضراوات، ومن بدائل اللحم، مثل فول الصويا، الذي يتم استخدامه لاعداد «لحم كذّاب» أو لصناعة بديل اللحم المعروف بـ «توفو».

وحذت أكثر المطاعم الفاخرة في عدد من المدن الأميركية حذو «ايبيكيوريوس»، وامتنعت عن تقديم أي أطباق فيها لحوم، وحذفتها عن لوائح الطعام التي تقدمها للزبائن.

هذه الحركة بين الديموقراطيين ضد استهلاك اللحم أثارت حفيظة الجمهوريين، الذين يصنفون وجبة الهامبرغر كطبق تراثي وطني، فراح الاعلام اليميني يكيل الاتهامات للديموقراطيين، ويتهمهم بأنهم أصحاب مزارع فول صويا، وأن هذا يدفعهم لاستصدار تشريعات ضد استهلاك اللحم حتى يتفوق الفول الديموقراطي على اللحم الجمهوري.

وتصدرت شبكة «فوكس نيوز» اليمينية حملة التحريض ضد الديموقراطيين، ووصلت الى حد اتهام ادارة الرئيس جو بايدن بأنها تنوي حرمان الأميركيين من اللحم ومن الهامبرغر، أو في أضعف الايمان، حسب الاعلام الجمهوري، سيعمد بايدن الى فرض تقنين على كمية اللحم التي يستهلكها الأميركيون أسبوعيا.

وفي وقت لاحق، اعترف مذيع في «فوكس نيوز» بأن ما سبق أن أذاعه، وقال فيه إن بايدن يحاول مطالبة الأميركيين بتقليل استهلاكهم للحوم الحمراء بشكل حاد، «كان معلومات خاطئة».

وقال جون روبرتس إن «الرسم والسيناريو» الذي عرضه على برنامجه«أشار بشكل غير صحيح» إلى أن دراسة أكاديمية صادرة في العام 2020، حول أكل اللحوم وانبعاثات غازات الاحتباس الحراري، هي «جزء من خطة بايدن للتعامل مع تغير المناخ».

الجمهوريون، بصورة عامة، يرفضون الدراسات القائلة إن المناخ يتغير، ويعتبرون أن ما يتغير هو طريق قياس المناخ، وأن هناك مؤامرة ديموقراطية للتلاعب بطريقة القياس هذه.

كما تصر غالبية الجمهوريين، على أنه حتى لو كان المناخ يتغير، فإنه لا علاقة بين التغيير وبين انبعاث الغازات الناجمة عن الاستهلاك البشري.

وبلغت «حرب الثقافات» الأميركية ذروتها في وقت صار واضحاً أن الحزب الجمهوري لن يبتعد عن دونالد ترامب، بل سيلتصق به أكثر، بسبب الشعبية التي ما زال الرئيس السابق يتمتع بها داخل الحزب، والتي تجلت أخيرا بقيام قيادة الأقلية الجمهورية في الكونغرس بطرد عضو القيادة ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس السابق الزعيم داخل الحزب ديك تشيني، من صفوف القيادة، واستبدالها بعضوة موالية لترامب، على خلفيه تصريحات لتشيني خالفت فيها الرئيس السابق، الذي يعدّ حملة سياسية شعبية مبنية على اطلاق تسمية «الكذبة الكبرى» على انتخابات العام الماضي، والتي أطاحت برئاسة ترامب، الذي لا يعترف بنتائج الانتخابات الأخيرة حتى اليوم.

وردّت تشيني على ترامب ومؤيديه بالقول إنه لا يجوز أن يتحول الحزب الجمهوري الى «حزب أكاذيب»، وأن يشن هجمات ضد الجمهورية وأنظمتها وانتخاباتها.

على أن تشيني قد تكون واعية لما هو أبعد من الاخلاقيات المطلوبة بين الجمهوريين، اذ إن استطلاعات الرأي أظهرت أن تسخيف ترامب للانتخابات، ووصفها بـ«المزورة»، أفقد ثقة الناخبين الجمهوريين بالنظام، ودفعهم للقول إنهم سيمتنعون عن الاقتراع في الانتخابات العامة المقبلة.

وهذا النوع من المقاطعة الجمهورية للانتخابات من شأنه أن يضعف الجمهوريين أمام منافسيهم الديموقراطيين، وهو الأمر الذي يبدو أنه أقلق تشيني، التي كانت مسؤولة داخل حزبها عن إدارة المعركة الانتخابية المقبلة، قبل أن تقوم القيادة في الكونغرس باخراجها من منصبها.

ويبدو أن تشيني تعتقد أن لدى ترامب قدرة على تجييش قاعدة الحزب، لكن لا قدرة لديه على توسيع هذه القاعدة خارج نطاق مؤيديه.

كذلك، لا يبدو أن ترامب يدرك عواقب تصرفاته إذ هو يمعن في اتخاذ خطوات تساهم في المزيد من اضعاف الحزب الذي خسر واشنطن بفروعها الثلاثة - البيت الأبيض والكونغرس بغرفتيه - بعد أربع سنوات فقط على فوز ترامب بالرئاسة.

لكن قوة ترامب داخل الحزب تحرّم على من هم أذكى منه سياسياً مواجهته أو تصحيح مساره بما فيه المصلحة الحزبية الأوسع، وهو ما يعني أن الرئيس السابق من أقوى قادة الحزب الجمهوري في تاريخه، وما يعني أيضاً أن الحزب الجمهوري في أضعف حالاته على المستوى العام تاريخياً، وهي معضلة تبقي الجمهوريين في مأزق غير قادرين على الخروج منه، اذ حتى ابنة تشيني لم تصمد في وجه موجة ترامب العاتية داخل حزبه.

الجمعة، 7 مايو 2021

«معهد نيولاينز»: «الحشد الشعبي» يغيّر التركيبة الديموغرافية شمال غربي العراق

واشنطن - من حسين عبدالحسين

ذكر «معهد نيولاينز»، في تقرير مفصل ومثير للاهتمام،أن ميليشيات «الحشد الشعبي» العراقية الموالية لإيران، تعمل على «إنشاء نظام جديد للسيطرة على منطقة استراتيجية تربط العراق وسورية»، و«تستغل الفراغ الناجم عن انهيار دولة داعش، وتعمل على بناء مؤسسات أمنية واجتماعية وسياسية واقتصادية للسيطرة» على المنطقة.

وأورد تقرير مركز الأبحاث ومقرّه واشنطن، أن الميليشيات ذات الغالبية الشيعية، اخترقت الشرطة والأمن، وهو ما سمح لها «بمراقبة تحركات المواطنين، والتجارة، وغير ذلك من جوانب الحياة الخاصة للعراقيين».

وأضاف أن «بعض الفصائل تهدد الصحافيين، وتقطع الطرق المؤدية إلى مناطق تجارية مهمة لعرقلة الأعمال، وتقوم باعتقال ونقل العشرات من السكان إلى مواقع مجهولة».

عنف الميليشيات، يطاول الأكاديميين كذلك، اذ تمارس التهديد وأعمال العنف، لتعيين أكاديميين موالين لها في موقع مسؤولين عن بعض الكليات الأكثر أهمية في المحافظات.

كما أنشأت مدارس لا تتبع الأنظمة والقوانين المحلية أو الفيديرالية.

ويتابع التقرير أن بعد تحرير الموصل وبقية محافظة نينوى من «داعش»، بدأت الميليشيات تتلاعب بملكية الأراضي والانخراط في هندسة ديموغرافية، وقامت بتوزيع الأراضي الزراعية في منطقة سهل نينوى على مقاتليها.

«كانت هذه القرى الواقعة على مشارف الموصل ذات غالبية مسيحية، استولى عليها داعش في 2014، ثم بعد أن استعادت قوات الأمن، القرى، استولت الميليشيات على أراضي برطلة والحمدانية ومناطق أخرى، ما منع العديد من المسيحيين من العودة».

كما أدرج مقاتلو الميليشيات المنحدرون من وسط العراق وجنوبه نفوسهم في سجلات «سهل نينوى والموصل، من أجل إضفاء الشرعية على الاستيلاء على الممتلكات»، بحسب التقرير.

ويضيف أن «الأوقاف الشيعية ضمت 17 موقعا في المدينة القديمة في الموصل، وعندما تم الطعن بهذه الخطوات، قامت الميليشيات الشيعية باستعراض قوة في وجه السلطات المحلية لاجبارها على نقل ملكية المواقع والأوقاف السنية»، كما سيطرت على أكثر من 72 حقلاً نفطياً في منطقة القيارة، جنوب الموصل، وتقوم بضخ ما يعادل نحو 100 شاحنة صهريج نفط خام يومياً، تبيعها في السوق وتفيد من عائداتها.

وللميليشيات مصادر تمويل أخرى، اذ هي تجني «مئات الآلاف من الدولارات يومياً من خلال عمليات الابتزاز عند نقاط التفتيش غير القانونية التي أقامتها في عموم أنحاء البلاد، وتطالب المطاعم الكبيرة بأموال حماية تراوح بين ألف وثلاثة آلاف دولار شهريا».

أما المالكون ممن يمتنعون عن الدفع، فيتم تفجير مطاعمهم.

وتنسب التقارير العسكرية، «بما فيها الصادرة عن الجيش العراقي، الانفجارات زورا إلى داعش».

لكن «الحشد» يواجه «مقاومة شيعية» ضد تصرفاته، اذ قامت الميليشيات المولجة حماية الأضرحة الشيعية بالانشقاق عن «الحشد»، وتصاعدت الاحتكاكات بينها وبين المعروفة بـ«الولائية»، أي التي تقسم الولاء لمرشد ايران الأعلى علي خامنئي، وكذلك نشب توتر بين «الحشد والميليشيات السنية والعشائرية».

ويورد التقرير أن ميليشيات الأضرحة والعشائر السنية تتسلم أسلحة ومعدات أقل فاعلية من نظيرتها «الحشد الشعبي».

وتوجه التقرير الى صانعي القرار الأميركيين بالقول إن «القضاء على داعش لم يحقق الاستقرار في العراق، بل هو خلق سياق جديد للصراع والاضطراب الذي ستكون عواقبه إقليمية، وسيخلق تعقيدات للولايات المتحدة».

وأوضح أن «إحدى النتائج غير المقصودة لتحرك الولايات المتحدة لإحداث تغيير النظام، هي سقوط العراق في المدار الجيوسياسي لإيران، التي تمكنت من تنصيب السياسيين الموالين لها، وغالبيتهم من الشيعة، في مناصب رفيعة في النظام السياسي الجديد الذي بناه الأميركيون».

مع ذلك، يتابع التقرير، «كانت الدولة العراقية الوليدة ضعيفة، وبالتالي غير قادرة على مواجهة نشاطات الجمهورية الإسلامية المصممة للسيطرة على جارتها الغربية».

وفي السياق، عمدت طهران الى تنمية قدرات الميليشيات الشيعية كأداة رئيسية يمكن من خلالها تحويل دولة، مثل العراق، كانت تمثل تهديدا على ايران «إلى دولة ضعيفة وخاضعة للرغبات الايرانية».

واستعرض التقرير تاريخ نشوء الميليشيات المتحالفة مع إيران. وأوضح أنها لم تظهر كقوة رئيسية «إلا بعد خروج الجيش الأميركي من العراق بفترة طويلة بعد عام 2011، وبعد أن تمكن (داعش) من إقامة دولته في 2014».

هكذا، من خلال الدور الحاسم الذي لعبته الميليشيات في تفكيك «داعش»، أثبت «الحشد نفسه كقوة رئيسية، ومع حلول 2017، ونتيجة لمشاركته في تحرير المناطق التي سيطر عليها (داعش)، ظهر تحالف الميليشيات الشيعية كمركز قوة ينافس بغداد ويهدد أمن كل العراقيين.

ولم يقتصر تهديد الحشد بقيامه بطريقة غير مسبوقة بالسيطرة على المناطق ذات الغالبية السنية، بل شكلت هذه الميليشيات تحديا لسلطة الدولة».

كذلك اخترقت «الميليشيات جهاز الأمن القومي، وصارت تتلقى أموالاً رسمية من الدولة منذ أن قام رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، في 2018، بمحاولة لدمجها في قوات الأمن الحكومية، وهو ما قد يضعف سلطة الحكومة الفيديرالية في بغداد»، وفق تقرير «معهد نيولاينز».

ولفت الى أن «الحشد يمثل تحدياً كبيراً لجهود الولايات المتحدة للعمل مع الحكومة العراقية ومواجهة نفوذ إيران، في وقت بدأت هذه الميليشيات بتهديد القوات التركية التي تحاول بسط نفوذها في شمال العراق».

وختم بأن الميليشيات تسيطر «على قطاعات رئيسية تتجاوز الأمن، مثل العقارات والبناء والبنية التحتية والتعليم، وبهذه الطريقة، تعزز قبضتها في مناطق شمال غرب العراق، وتعزز إستراتيجية إيران الإقليمية الأوسع بالتمدد عبر بلاد الشام إلى البحر الأبيض المتوسط».

الأربعاء، 5 مايو 2021

واشنطن: تعدّد المرجعيات اللبنانية يُعيق ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل

واشنطن - من حسين عبدالحسين

لا تزال تفاصيل الجولة الخامسة من مفاوضات ترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل، التي عقدت الثلاثاء، طي الكتمان، لكن ما توافر حتى الآن بين الديبلوماسيين المعنيين، أن الجلسة كانت أكثر جدية من سابقاتها، وأن اللبنانيين تمسكوا بأقصى مطالبهم، على عكس الوعود التي كان سمعها الوسطاء الأميركيون من كبار المسؤولين، لناحية أن بيروت كانت تنوي حصر المفاوضات بمساحة 800 كيلومتر مربع، واذا بالوفد المفاوض يطالب بأكثر من الفي كيلومتر مربع.

ووصف مسؤولون أميركيون، على شرط عدم ذكر اسمائهم، التعامل مع لبنان في موضوع ترسيم حدوده البحرية بأنه «أمر مرهق»، بسبب تعدد المرجعيات اللبنانية، وغياب الموقف الواضح.

وقالت المصادر الأميركية إنه في جولات التفاوض الأربعة في اكتوبر ونوفمبر الماضيين، حصل التالي: يزور ديبلوماسيون أميركيون، المسؤولين اللبنانيين للتوصل الى تسوية حول الحدود البحرية، فيسمعون من ضيوفهم اللبنانيين شيئاً ينقلونه الى الاسرائيليين. ثم يتم عقد مفاوضات الثلاثاء، بضيافة قوة حفظ السلام الدولية، فيتحدث الوفد اللبناني بما يخالف كل ما تم الاتفاق عليه مبدئياً.

ويتابع المسؤولون الأميركيون أن السياسيين اللبنانيين أكثر ليونة واستعداداً للتوصل لاتفاقية، فيما الوفد المفاوض يشارك وكأن هدفه «استفزاز الاسرائيليين» بشكل يقضي على كل التقدم الذي سبق للديبلوماسيين الأميركيين احرازه.

وفي جولة نوفمبر، قدم الوفد اللبناني مطلباً لم يسبق أن أثير مع الأميركيين، اذ قدم ما يعرف بالخط 29، وهو ما يمنح بيروت 2290 كيلومترا مربعاً بدلاً من 860 دأب المسؤولون اللبنانيون على مطالبة الاسرائيليين بها، عبر الوسطاء الأميركيين. ويبدو أن الوفد كرر مطلبه في مفاوضات، أول من أمس.

ويقول المسؤولون الأميركيون إنه بعد لقاء نظرائهم اللبنانيين في بيروت، يقومون بنقل المطالب الى اسرائيل حتى تستعد للمفاوضات، لكن في الجولة الاخيرة، طالبت بيروت، بشيء، فيما طالب الوفد اللبناني بشيء آخر، وهو ما أعطى الاسرائيليين انطباعاً أن لبنان «غير جدي»، وأنه يستخدم موضوع المفاوضات لمكاسب سياسية في الداخل.

ويشترك لبنان مع اسرائيل في بلوك رقم 9، الواعد من حيث الاحتياط الغازي، والذي يشترك في جنوبه مع شمال البلوك الاسرائيلي رقم 72، فيما يشترك البلوك اللبناني رقم 8 مع بلوكي اسرائيل رقمي 7 و8، والأخير هو الذي عثرت فيه اسرائيل على حقل «حوض القرش».

وموافقة اسرائيل على مطلب لبنان بتبني الخط 29 من شأنه أن يقضم اجزاء كبيرة من «حوض القرش»، وهو ما يجعله حقلاً مشتركاً ويفرض على الدولة العبرية تقديم جزء من عائدات مبيعات غاز هذا الحقل الى الحكومة اللبنانية.

وبلغت عائدات اسرائيل من مبيعات الغاز 350 مليون دولار العام الماضي، وهو رقم من المتوقع أن يرتفع العام الجاري مع دخول الحقل المذكور على خط الانتاج.

ويمكن للبنان الحصول على عائدات مبيعات غاز بالعملة الصعبة، التي يحتاجها بشدة اقتصاده المنهار، في حال تم التوصل لاتفاق، لكن بعض المسؤولين والخبراء اللبنانيين يبالغون بالكمية التي ستجنيها بيروت في حال حذا حذو جارته الجنوبية وباشر بتصدير الغاز.

وكانت شركة «نوبل انيرجي» الأميركية هي التي أدارت عملية التنقيب والانتاج في «حوض القرش».

وتعد من الشركات الصغيرة نسبياً في السوق العالمية، اذ تملك أصولاً بقيمة خمسة مليارات دولار، وراكمت ديوناً بواقع ثمانية مليارات.

هذه الشركة الصغيرة هي التي فازت أيضاً بعقد التنقيب في بلوك 72، المعروف سابقاً بـ «آلون دال»، لكن يبدو أن تعثرها المالي دفعها الى تأجيل التنقيب والانتاج في البلوك المتنازع على أجزاء منه مع لبنان.

وتواصل تلكؤ الشركة الأميركية سنوات، الى أن قررت حكومة اسرائيل سحب الترخيص واعادة طرح البلوك 72 لمناقصة جديدة، في يونيو الماضي، وهي خطوة دفعت الجانب اللبناني الى الادلاء بسلسلة من التصاريح التحذيرية من مغبة المواجهة التي قد تنجم عن الخطوة الاسرائيلية.

لكن قبل أن تفوز أي شركة بمناقصة البلوك 72، قامت شركة «شيفرون» الأميركية العملاقة للطاقة، والتي يبلغ حجم أصولها أكثر من 60 مليار دولار، بشراء «نوبل انيرجي» بالكامل، وهو ما أحال حق التنقيب والانتاج في حقلي الغاز الاسرائيليين، تامار وليفياتان ومعهما البلوك 72، إليها.

ودخول «شيفرون» على خط التنقيب والانتاج يبدو أنه حفّز بعض المسؤولين اللبنانيين الطامحين الى الرئاسة في محاولة اعادة تحريك المفاوضات اللبنانية - الاسرائيلية، بل اقتراح أن تقوم الشركة الأميركية بالتنقيب والانتاج والتصدير باسم الدولتين، وتوزيع الأرباح على كل منهما، بحسب الترسيم الذي يتم التوصل اليه.

وتعتقد المصادر الأميركية أن الكلمة العليا في لبنان، ليست في أيدي الوفد المفاوض، بل في أيدي «حزب الله»، في وقت أفادت أنباء تواترت الى العاصمة الأميركية بأن الحزب أبلغ أعضاء الوفد، ألا يخوض في أي مناورات أثناء التفاوض، بل ألا يتفاوض أصلاً، وأن يكتفي باعلان الخط اللبناني الذي يختارونه ويبلغوا الأمم المتحدة به، اذ ذاك يعتبر الحزب أن أي تواجد اسرائيلي شمال الخط الذي يعتبره لبنان حدوده البحرية هو بمثابة عدوان يتطلب مواجهة.

الثلاثاء، 4 مايو 2021

الصواريخ الإيرانية تهدّد المحادثات النووية

واشنطن - من حسين عبدالحسين

«تضارب رهيب» في التقارير حول مجريات المفاوضات النووية غير المباشرة بين الولايات المتحدة وايران.

مسؤولون ايرانيون أدلوا بتصريحات لوسائل إعلام محلية قالوا فيها إن المفاوضين توصلوا لاتفاق يتضمن رفع واشنطن العقوبات الاقتصادية عن قطاعات النفط والنقل البحري والتأمين والسيارات، فيما أشارت تقارير أخرى الى توصل طهران والعواصم الغربية الى افراجها عن مواطنين غربيين تعتقلهم، مقابل تحرير واشنطن ولندن قرابة 10 مليارات دولار تعود لطهران مجمدة في مصارف غربية.

لكن ظهر في ما بعد، أن الايجابية المفرطة كانت عبارة عن سلسلة من الإشاعات غير الصحيحة، فلا اتفاقيات للافراج عن الرهائن الغربيين المعتقلين في «الجمهورية الاسلامية»، ولا وعود أميركية برفع العقوبات عن أي من القطاعات الايرانية المذكورة.

على أن ما أثار حشرية مراقبين أميركيين كثر للملف الايراني، اشارة المفاوض الايراني عبّاس عراقجي الى الاتفاق مع واشنطن على رفع العقوبات عن قطاع السيّارات. حتى الآن، يعتقد مؤيدو ومعارضو العودة الأميركية للاتفاقية النووية، أن واشنطن سترفع نفس العقوبات التي قام برفعها الرئيس السابق باراك أوباما ابان التوصل للاتفاقية في اكتوبر 2015، وهي عقوبات كانت مفروضة على قطاعات النفط والنقل البحري والتأمين، فضلاً عن رفع العقوبات عن مصرف حكومي ايراني واحد على الأقل.

خطوة أوباما كانت مصممة للسماح لقطاع ايران النفطي تصدير منتجاته وتقاضي ثمنها، بالعملة الصعبة، في مصرف تابع للحكومة، وهو ما يعني أن انطباع المسؤولين الأميركيين الحاليين مبني على قيام الرئيس جو بايدن برفع العقوبات التي كان أوباما رفعها، والتي عمد الرئيس السابق دونالد ترامب الى اعادتها.

اما العقوبات الاضافية التي فرضها ترامب، وشملت قطاعات مرتبطة بصناعة الصواريخ، مثل قطاع السيارات، فلا يبدو أن غالبية مسؤولي بايدن تعتقد أن على الرئيس الأميركي رفعها، بل أن عقوبات ترامب الاضافية تبقى، وتصبح محور المفاوضات المزمع عقدها في ما بعد لاحياء الاتفاقية النووية.

وقامت اتفاقية 2015 النووية بترك برنامج ايران الصاروخي خارج النص، مع اتفاق شفوي وعدت بموجبه طهران بانها لن تقوم بتجارب صاروخية، لكنها ما لبثت أن تراجعت وقامت بتجارب.

ثم ان نص الاتفاق ينص على أن الأمم المتحدة سترفع كل العقوبات الدولية، المتعلقة بالبرنامج الصاروخي والمتبقية منذ ما قبل الاتفاقية، وذلك في العام 2023.

في الولايات المتحدة اجماع على أن الخطأ الأكبر الذي ارتكبته ادارة أوباما، يوم موافقتها على الاتفاقية النووية، كان تركها موضوع الصواريخ خارج الاتفاق، اذ إن أي برنامج نووي عسكري في العالم يعتمد على أمرين: تخصيب اليورانيوم لصناعة رؤوس نووية، وتطوير صواريخ قادرة على حمل هذه الرؤوس، اذ من دون الصواريخ، لا فائدة للرؤوس.

اليوم، وبعد سبع سنوات على التوصل للاتفاقية النووية، صار اجماع في العاصمة الأميركية يشارك فيه حتى أعتى مؤيدي النظام الايراني، باستثناء نفر قليل منهم. في هذا الاجماع، ضرورة تعديل الاتفاقية النووية لتفرض حظرا على برنامج ايران الصاروخي بالتزامن مع ضبط كميات ومعدلات تخصيب اليورانيوم التي تقوم بها طهران.

حتى السناتور الديموقراطي كريس كونز، وهو من أقرب المقربين الى بايدن، اذ يشغل مقعده السابق في مجلس الشيوخ ممثلا عن ولاية ديلاوير، سبق وأن أدلى بتصاريح متعددة، قال فيها إنه رغم تأييده الشديد للعودة إلى الاتفاقية النووية، الا أنه لن يمنح موافقته في مجلس الشيوخ للعودة لأي اتفاقية لا تفرض قيودا على برنامج ايران الصاروخي.

ويقوم كونز هذا الأسبوع بجولة في الشرق الأوسط، تشمل الامارات والسعودية والأردن ومصر، في محاولة منه لاقناع هذه الدول بجدوى فتح حوار مع ايران.

لكن في ادارة بايدن قلة قليلة ممن يعملون لانفتاح على ايران بلا ضوابط على النووي ولا على الصواريخ، وبلا حتى التنسيق مع الحلفاء أو الوقوف على رأيهم.

هؤلاء المسؤولون، هم الذين دأبوا على تسريب أنباء عن التوصل لاتفاقية حول الافراج عن المعتقلين الغربيين في ايران، وهم الذي يعمدون - بالتنسيق مع نظرائهم الايرانيين - الى بث ما يعتقدونها أخباراً جيدة، وان غير صحيحة، من شأنها تعزيز الثقة وتقريب واشنطن وطهران من بعضهما البعض والتسريع في اعادة احياء اتفاقية 2015، كيفما اتفق.

وخلال مثوله أمام لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب، في مارس 2021، تعهد وزير الخارجية أنتوني بلينكن بعدم تقديم أي تنازلات لإيران في ما يتعلق ببرنامجها الصاروخي، لكن في أقل من شهر واحد، رفض الناطق باسم وزارة الخارجية نيد برايس استبعاد احتمال تخفيف العقوبات الصاروخية كحافز للنظام للانضمام إلى الصفقة. هذا التناقض أثار ريبة معارضي عودة بايدن للاتفاقية من دون انتزاع تنازلات.

وفي هذا السياق، نشرت «جمعية الدفاع عن الديموقراطيات»، وهي مركز أبحاث مقرّه واشنطن، دراسة اعتبرت فيها أن «تخفيف العقوبات الصاروخية على إيران، من دون معالجة برنامج الصواريخ القوي لدى لجمهورية الإسلامية، يجب أن يكون مصدر قلق للكونغرس».

وأشارت الدراسة الى أن الاتفاقية النووية لا تفرض أي قيود على تطوير طهران للصواريخ وانتشارها، بل تُنهي صلاحية القيود الأممية على الصواريخ في 2023.

وأضافت أنه «خلال السنوات الثلاثة التي شاركت فيها الولايات المتحدة بالاتفاقية النووية، أطلقت إيران ما لا يقل عن 27 صاروخاً بالستياً كجزء من الاختبارات أو العمليات العسكرية» وان مع «طموحاتها لتطوير صواريخ بالستية بعيدة المدى، وذات قدرة نووية يمكن أن تصل إلى الولايات المتحدة وأوروبا، يصبح رفع العقوبات عن برنامج الصواريخ معارضا لمصالح الأمن القومي الأميركي».

وطالبت الدراسة، الكونغرس برفض العودة لأي اتفاقية من دون ضوابط صاروخية، ما يشي بأن الصواريخ الايرانية صارت اليوم تهدد المحادثات غير المباشرة المقرر استئنافها في العاصمة النمسوية فيينا بعد غد.

لا فلسطين بلا انتخابات.. ولا انتخابات مع الميليشيات

حسين عبدالحسين

أعلنت السلطة الفلسطينية "تأجيل" انتخابات "المجلس التشريعي"، التي كانت مقررة في الثاني والعشرين من الجاري، تحت ذريعة أن إسرائيل منعت تنظيمها في القدس الشرقية، وهو عذر أقبح من ذنب، اذ أن أي عملية انتخابية في العالم لا ترتبط بمكان تواجد الناخب أو الجغرافيا، بل تسمح بالاقتراع بالبريد أو عن بعد، أو كان يمكن للمقدسيين الفلسطينيين الاقتراع في مراكز في الضفة الغربية، تحت سيطرة السلطة ومجاورة للقدس.

أول صراخ ارتفع ضد التأجيل جاء من حركة حماس، التي كانت تعتقد أنها ستفوز بغالبية المقاعد، ما يسمح لها بالسيطرة على السلطة. واحتجّت الحركة الإسلامية أن رئيس السلطة محمود عبّاس، ومعه إسرائيل والعالم بأسره، تآمروا لإجهاض "الديمقراطية" الفلسطينية. 

إلا أن الديمقراطية الفلسطينية ميتة منذ عقود، لا لأن السلطة لم تجر أي انتخابات منذ العام 2006، بل لأن ميليشيا حماس المدججة بالسلاح تقوّض الحرية اللازمة لإجراء انتخابات حرّة ونزيهة.

قبل أشهر، حاول نفر من شباب غزة عقد "حوار للسلام" عبر الإنترنت مع نظراء لهم في إسرائيل. عرفت حماس فاعتقلت الشباب الغزاويين بتهم التواصل مع العدو والتطبيع والجاسوسية. هذا مثال على استحالة إجراء انتخابات حرّة في قطاع غزة، الذي يعيش تحت حكم ميليشيا قروسطوية مسلّحة، وهو ما يعني أنه حتى لو أراد غزاويون تنظيم حزب يطالب بنزع سلاح حماس، أو بعقد سلام فوري وغير مشروط مع اسرائيل، لا يمكن لهذا الحزب التنافس في الانتخابات، وهو ما يعني أن الانتخابات لا يمكنها أن تكون ديمقراطية في ظل سيطرة الشعار الفلسطيني المبرر للاستبداد، والقائل إن "الخيانة ليست وجهة نظر".

ومشكلة استحالة إجراء انتخابات حرّة ونزيهة ليست في الأراضي الفلسطينية وحدها، بل في كل الدول التي تنشط فيها ميليشيات مسلحة خارجة عن القانون، مثل في إيران والعراق وسوريا ولبنان واليمن. في كل واحدة من هذه الدول، تتحكم ميليشيات مسلحة لا تأتمر بسلطة دولة منتخبة، أو أجهزة استخباراتية تابعة لحاكم غير منتخب، بمفاصل الحياة العامة، وتحدد كيف تكون الوطنية وكيف تكون الخيانة، تحت طائلة إقصاء المعارضين بتهم الخيانة، أو قتلهم، أو دفعهم للمنفى.

المثير للاهتمام في نماذج البلدان التي تعاني من انتخابات شكلية ودول فاشلة هو أن حكامها وميليشياتها يقدمون "القضية الفلسطينية" كمبرر لحيازتهم السلاح الخارج عن الشرعية، ولا يرون أن هذا السلاح نفسه هو العائق الأول لبناء دول ديمقراطية، وتاليا العائق الأول لبناء دولة فلسطينية.

ولحماس و"الجهاد الإسلامي" وحزب الله و"الحشد الشعبي" رؤية متخلّفة عن مفهوم الدولة، إذ تعتقد هذه الميلشيات أن الدولة هي الأرض ومن يحكمها، لا المؤسسات وكيف يتم حكمها. لبنان مثلا، أرضه حرّة ومحررة من أي وجود لأي قوات أجنبية، لكن مع ذلك يبقى لبنان، مثل غزة وباقي الأراضي الفلسطينية، دولة فاشلة، وهو ما يؤكد أن الأرض لا تصنع دولا، بل المؤسسات والديمقراطية وحرية الرأي هي التي تصنع حضارات ودول وازدهار وتقدم.

وميليشيات الإسلام السياسي، التي يرعاها النظام الإيراني في عموم منطقة الشرق الأوسط، لا يبدو أنها تفهم معنى الحرية أبدا، ومع ذلك تراها تطالب بالانتخابات، وتخال أن الانتخابات وحدها هي الديمقراطية، فيما الانتخابات هي فعليا واحدة من أدوات كثيرة لصناعة ديمقراطية. والانتخابات وحدها لا تكفي للتوصل إلى ديمقراطية، بل هي تحتاج إلى عدالة وحرية وقانون، وكل هذه تغيب في الدول التي تتحكم بها الميليشيات.

الميليشيات تعتقد أن الدولة هي أرض وعقيدة وطنية ثابتة، وتحت هذه العقيدة تندرج "مبادئ" و"مقدسات" هي خارج النقاش. مثلا، في بيان تعليق حماس عل "تأجيل" الانتخابات، ورد أن الحركة تدعو إلى "التداعي وطنيا لوضع خارطة طريق وطنية تنهي حالة التفرد، وتحقق الوحدة الوطنية على أسس سليمة وصلبة تضمن إنجاز الإصلاح السياسي الشامل، وتوجيه كل الجهود نحو مقاومة الاحتلال والاشتباك معه".

البيان يشي بأن حماس لا ترى أن الحرب أو السلم مع إسرائيل هما خياران سياسيان خاضعان للنقاش، بل تعتقد أن "الاشتباك مع إسرائيل" هو بمثابة دستور. ومثل حماس، فرض "حزب الله" أساسا لكل بيان تشكيل حكومة مبني على ما يسميها ثلاثية "الشعب والجيش والمقاومة"، وكأن الجيش والمقاومة ليسا من الشعب. وهذا البند هو الذي يستند إليه الحزب ليستقي شرعية من دولة لبنان.

الإسلام السياسي مثل حماس و"حزب الله" لا يريان في الانتخابات إلا أداة للسيطرة على الدولة والاطاحة بالمسؤولين الفاسدين، من المنافسين السياسيين فقط. ولا ترى هذه الحركات الإسلامية أن دور الانتخابات يتضمن نقاشات وقرارات في كل شؤون الشعب والدولة، بما في ذلك السياسات التي تصفها الميليشيات على أنها خيانة.

منذ أيام وعيي السياسي الأولى وأنا أناصر الانتخابات بكل أشكالها وكيفما اتفق، وساندتها وراهنت عليها كبديل لطغاة من أمثال العراقي صدام حسين والسوري بشار الأسد والمصري حسني مبارك. فاتني أن الديمقراطية تحتاج إلى مقومات أكثر من الانتخابات، وأنه بدون توفر هذه المقاومات، تتحول الانتخابات الى أداة لتسلّق طغاة جدد — مثل الميليشيات الإسلامية — سلم الحكم، ولا داعي للتذكير بأن أكثر طاغية مجرم في العالم، أي الألماني أدولف هتلر، وصل إلى السلطة بانتخابات، ولم يتركها بعد ذلك، ومثله فعلت حماس، وتسعى لتوسيع تسلطها في جولة انتخابية ثانية تنتزع بها الضفة من حكم فاسد، وإن أقل طغيانا وأكثر عقلانية من الإسلاميين.

هذه المرة الأولى في حياتي التي أكتب فيها ضد الانتخابات. هذه المرة أعارضها الانتخابات في الأراضي الفلسطينية، وسأكتب مستقبلا مناهض للانتخابات في لبنان والعراق وإيران، فلا حرية في ظل الميليشيات، ولا انتخابات بلا حرية، ولا ديمقراطية بلا انتخابات حرة، ولا دولة فلسطينية — ولا لبنانية ولا عراقية ولا سورية — بلا ديمقراطية. 

أما الانتخابات في ظل الميليشيات وطغيانها، فعملية تجميل لوجه الإسلام السياسي القبيح.