الثلاثاء، 27 يوليو 2021

السعودية والإمارات… تباين لا يفسد التحالف

حسين عبدالحسين

في المخيلة العربية، لا متسع للتباين في الرأي بين صديقين أو حليفين. مواقف الحكومات العربية إما متطابقة، إذ ذاك تنبري وسائل إعلام كل من الجانبين إلى تفخيم الآخر والمديح، أو متناقضة، وهو ما يدفع إعلام الجانبين إلى شيطنة الآخر والهجاء.

بين السعودية والإمارات علاقات قوية عمرها عقود. الإمارات سبقت السعودية في عملية التحديث والانخراط في الاقتصاد العالمي وتقليص الاعتماد على النفط. السعودية، مع اندفاعة ولي عهدها الشاب محمد بن سلمان، أعجبها النموذج الإماراتي وتسعى إلى تكراره. لكن التجارة منافسة وفي المنافسة بعض الخصام، وهكذا كان.

السعودية تسعى لجذب الاستثمارات العالمية، بما في ذلك كبرى الشركات العالمية والسعودية، التي تتخذ بعضها من الإمارات مقرا لها. وتتشابه الرؤية الإقليمية لكل من الدولتين، مع بعض التباين الذي بدا في اليمن والحرب المندلعة فيها، وفي كيفية التعامل مع النظامين الإيراني والسوري. السعودية دولة أكبر بكثير من الإمارات، ويمكنها التصعيد في وجه الإيرانيين، مثلا، أكثر مما يمكن للإماراتيين.

ثم جاءت القشة التي قصمت ظهر البعير. في اجتماع كارتيل النفط الدولي "أوبك بلاس"، حاولت أبوظبي زيادة الإنتاج بسرعة في ظل نهوض الاقتصاد العالمي، مع خروج البشرية من وباء كورونا المستجد.. أما السعودية، فسعت للحفاظ على سعر البرميل، ما يعني حرصها على زيادة تدريجية للإنتاج.

التباين في المواقف في موضوع النفط واضح الأسباب. الاقتصاد الإماراتي أكثر تطورا وتنوعا من نظيره السعودي، ويعتقد الإماراتيون أن زمن النفط يقارب نهايته، وأن على الدول المنتجة المسارعة لبيع ما بحوزتها قبل أن يبدأ العالم مشوار تقليص اعتماده على النفط والغاز واستبداله بالطاقة المتجددة.

السعودية، بدورها، صاحبة احتياطي نفطي هو من الأكبر في العالم، وليست في عجلة من أمرها للتخلص من ثروتها، بل تسعى لإطالة أمد عائدات النفط، ريثما تصبح البلاد أكثر استعدادا للاعتماد على القطاعات غير النفطية.

لهذه الأسباب، انفجرت أزمة بين السعودية والإمارات، وخرجت إلى العلن، وتبادل إعلام الدولتين الانتقادات، وهو من الأمور النادرة.

لكن الاختلاف في الرأي لم يفسد في الود قضية، خصوصا مع حرص قيادتي الدولتين على الحفاظ على التحالف المتين بينهما. هكذا، قام ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد بزيارة ولي العهد السعودي محمد بن سلمان في الرياض. الإعلام العربي، على عادته، يخشى التطرق إلى مواضيع الزعماء، وهو ما يحرم المتابعين إمكانية التكهن بما دار من أحاديث في لقاء الحليفين.

لكن الإعلام العربي أورد أسماء أعضاء الوفدين، وهو ما وشى بطبيعة الزيارة. بن زايد لم يصحب مستشاريه أو وزراءه المتخصصين بالمواضيع الخلافية بين البلدين، أي النفط أو الدفاع، بل رافقه نجله حمدان وشقيقه طحنون، فيما حضر من الجانب السعودي، إلى بن سلمان، شقيقه خالد بن سلمان، وأقرب الوزراء إلى محمد بن سلمان، الأمير تركي بن محمد بن فهد.

تشكيلة الوفدين تشي بأن الجلسة كانت جلسة حميمة تخللها "غسل قلوب"، وتلاها ظهور وليي العهد، بن سلمان وبن زايد، جنبا إلى جنب، في صورة انتشرت على نطاق واسع وبددت الحديث حول افتراق الحليفين.

على أن طي صفحة الخصام وعودة الوئام لا تعني نهاية المنافسة، بل تعني أن المنافسة ستستمر، وستنتقل كبرى الشركات السعودية إلى الرياض، أو نيوم، وستنتقل معها من الإمارات بعض كبرى شركات العالم التي تخشى أن يحرمها الجفاء مع السعودية أكبر سوق في الإقليم.

المهم أن السعودية والإمارات تنخرطان في سياسة لم تكن مألوفة في المنطقة في الماضي، يوم كانت السياسات تترواح بين التطابق الكاذب والصداقة، أو التنافر الذي يصل أحيانا حد الحروب الدامية.

السعودية والإمارات تتبنيان اليوم أسلوب الدول الأكثر نضوجا في تنظيم التباين بين الحلفاء والأصدقاء، وهو أسلوب قائم على سعي الحكومة إلى النمو الاقتصادي، بأي ثمن ممكن، وهو نمو لا يمكن أن تفرضه الحروب، بل المنافسة السلمية، غالبا المبنية على التسلح بالمعرفة والحفاظ على الاستقرار، وهذه فرنسا وألمانيا، جارتان تتنافسان تجاريا وتفترقان حول سياسات كثيرة، وفي نفس الوقت تحافظان على تحالف استراتيجي متين، فالتحالف لا يعني التطابق، بل يعني وضع الصداقة في خدمة أكبر كمية ممكنة من المصالح للدولتين.

بدورها الولايات المتحدة، الراعي الدولي لاستقرار الخليج والشرق الأوسط، في إجازة، مع أو دون انتشار قواتها في المنطقة، وهي إجازة سببها في الغالب قصور غالبية مسؤولي واشنطن في فهم المنطقة والتطورات التي تعصف بها، وتوكيلها السياسة الأميركية تجاه الخليج لمراهقين في صناعة السياسة الدولية.

أما التطورات على الأرض في الشرق الأوسط والخليج، فنتائجها ظاهرة في التغيير الهائل الذي يطال السعودية، والإنجازات الاقتصادية والمعرفية الكبيرة التي تحققها الإمارات.

الثلاثاء، 20 يوليو 2021

قاتل الهاشمي في قبضة العدالة وقتلة العراق طلقاء

حسين عبدالحسين

حققت الأجهزة الأمنية العراقية إنجازا باهرا بكشف هوية قتلة الصديق العراقي الراحل هشام الهاشمي وتقديمهم للمحاكمة. اسم القاتل لا يهم. المهم هو أنه كان يعمل ضابطا في الشرطة العراقية، ومرتبطا بميليشيا "كتائب حزب الله" العراقية الموالية لإيران، حسب ما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية "فرانس برس" عن مصدر أمني لم تكشف عن هويته. 

والشكر موصول للوكالة الفرنسية لقيامهما بما كان يفترض أن تقوم به الحكومة العراقية، لناحية تقديم السياق الذي أدى إلى اغتيال الهاشمي، فالجريمة لم تكن ثأرا شخصيا للشرطي ضد الهاشمي، بل كان اغتيالا سياسيا صدرت أوامره من جهات أرفع بكثير من ضابط الشرطة. 

كان على حكومة الكاظمي تقديم دافع الجريمة ومن أمر بها، لكن الحكومة العراقية ما تزال طرية العود، وغير قادرة على توجيه أصابع الاتهام للمليشيات العراقية — الموالية لمرشد إيران علي خامنئي — في اغتيال الهاشمي، كما في اغتيال غيره من الناشطين العراقيين المعارضين للنفوذ الإيراني في العراق وللفساد الحكومي المرافق له.

في المرات السابقة، حاولت حكومة الهاشمي اعتقال مطلقي الصواريخ على "المنطقة الخضراء"، وكانوا من مقاتلي "كتائب حزب الله"، لكن الميلشيا حاصرت "المنطقة الخضراء"، التي تضم مقرات الحكومة ومنازل المسؤولين، فرضخت الحكومة وأفرجت عن المعتقلين.

وفي مرة ثانية، تحسبت حكومة الكاظمي قبل اعتقال قاسم مصلح، بعدما اتهمته بالضلوع في اغتيال للناشط إيهاب الوزني، إذ حاولت الميليشيات العراقية الموالية لإيران استعراض عضلاتها في العاصمة، لكن القوات الحكومية فاقتها عددا وتنظيما، فتراجعت ميليشيات الولي الفقيه، قبل أن يتم اغتيال عقيد في الاستخبارات العراقية، الأرجح لدوره في كشف دور مصلح، فما كان من الحكومة إلا أن تراجعت مرة ثانية، وأفرجت هذه المرة عن مصلح.

اغتيال الهاشمي لم يكن جريمة شخصية، بل جزء من نموذج حكم نقلته عدد من الدول العربية وإيران عن أعتى الأنظمة الديكتاتورية في التاريخ، الفاشستية منها والشيوعية. الدكتاتوريات العالمية صممت حكمها على أساس القضاء على أي معارضة بالكامل، إن داخل البلاد أو خارجها، على غرار اغتيال موسكو للروسي ليون تروتسكي في المكسيك، واغتيال بغداد صدام حسين للمعارض طالب السهيل، الذي كان يسكن بيروت.

الجمهورية الإسلامية في إيران تبنت نموذج الطغيان العالمي نفسه، وكانت باكورة جرائمها خارج إيران المحاولة الفاشلة في باريس لاغتيال شهبور باختيار، آخر رؤساء حكومات الشاه. 

بعد انتهاء الحرب الباردة، توقف معظم الطغاة عن تنفيذ عمليات الاغتيال خارج أراضيهم، خصوصا أن المعارضين اتخذوا لأنفسهم مقرات في دول أوروبا وأميركا الشمالية، وهو ما جعل الاغتيالات، التي تخترق سيادة هذه الدول، أمرا محفوفا بالمخاطر لأن انكشافه يؤدي إلى ردة فعل قوية ضد الطاغية واستخباراته.

رئيس روسيا فلاديمير بوتين يسعى لإعادة ثقافة الاغتيالات العابرة للقارات، إذ هو راح يقتل معارضيه في العواصم الأوروبية، ومثله فعل النظام الإيراني، الذي لم يتوان عن استخدام حصانة ديبلوماسييه لتهريب عبوة ناسفة لاستهداف مؤتمر للمعارضين في باريس، قبل أن تنكشف العملية، وتحكم محكمة أوروبية ضد تورط ملالي طهران في الهجوم الفاشل.

على أن فشل نظام إيران في عملية أو اثنتين لا يثنيه عن مواصلة نشر اغتيالاته ضد أي من يرفع صوته ضد "الحكومة الإسلامية الفاشية الإيرانية"، في كربلاء والنجف وبيرو، كما في إسطنبول ونيويورك. هكذا اغتالت إيران الهاشمي ووزني في العراق، ولقمان سليم في بيروت، واستدرجت المعارض روح الله زم إلى كربلاء، حيث اختطفته إلى إيران وأعدمته. ثم قام "الحرس الثوري الإيراني" — وهو عماد النظام الإسلامي في طهران وتصنفه الولايات المتحدة تنظيما إرهابيا — باستدراج المعارض العربي الإيراني فرج الله الكعبي إلى تركيا، ومنها اختطفه إلى إيران. بعد ذلك، حاول "الحرس" تنفيذ عملية اختطاف بحق الصديقة الإيرانية الأميركية مسيح علي نجاد في مدينة نيويورك. قبل أن تنجح الاستخبارات الأميركية في إفشال المخطط الإرهابي الإيراني.

نموذج إيران المبني على الاغتيالات ليس "جمهورية إسلامية"، بل عصابة على شكل عصابات السوفياتي جوزف ستالين والعراقي صدام والروسي بوتين. هذا النوع من الأنظمة مبني على جزئين: حكومة شكلية وعصابة تحكم فعليا. أحيانا، تجنّد العصابة الحاكمة أفرادا في القوى الأمنية النظامية، كما في جريمة اغتيال الهاشمي التي نفذها شرطي موال للميليشيا الخارجة عن القانون. 

في نظام البعث بشقيه العراقي والسوري، كان نموذج الرعب يشبه النظام الإيراني اليوم. كان البعثيون هم الحكام الفعليين، وكان يمكن لبعثي صغير أن يوقع الذلّ بضابط رفيع في الجيش العراقي إن كان الضابط غير بعثي. 
لهذا، أقبل العاملون في الدولة، في الاتحاد السوفياتي والعراق وسوريا وإيران، على الانضمام للحزب الحاكم، شيوعي أم بعثي أم إسلاموي. لهذا السبب انخرط ضابط في الشرطة العراقية، لديه سلطة ينص عليها القانون، بميليشيات خارجة عن القانون، لأن الدستور والقوانين في العراق وإيران ولبنان وسوريا هي نصوص شكلية، فيما الدستور الحقيقي الوحيد هو قانون الغاب، حيث الحكم للأقوى.

حسنا فعلت السلطات العراقية بالكشف عن هوية قتلة الهاشمي، لكن قتلة الأوطان لا يزالون يعيثون في الأرض فسادا ويزرعونها موتا واغتيالات، في إيران والعراق ولبنان، كما في باريس ونيويورك وواشنطن. 

أما الانتصار الفعلي، فسيكون في قضاء الحكومات المنتخبة على الميليشيات وأنظمة الطغيان الراعية لها، إن في طهران أم في موسكو أم في أي من عواصم العالم المشاغبة.

الثلاثاء، 13 يوليو 2021

في بعض أسباب فشل الثورة اللبنانية

حسين عبدالحسين

من مفارقات الثورة اللبنانية أن شرارتها كانت أصغر بكثير من مأساة اليوم، التي لا تثير غضب شعبي يذكر. الثورة كانت اندلعت بعدما أقرّت الحكومة اللبنانية ضريبة بمقدار عشرة دولارات أميركية شهريا على مستخدمي تطبيق واتساب. خرج اللبنانيون غاضبون الى الشوارع، وراحوا يرددون ”ثورة، ثورة“، وأدت تظاهراتهم الى انهيار الحلقة الأضعف في الكيان السياسي اللبناني، أي الحكومة ورئيسها، وإلى قيام تنظيمات وبث شعارات، كان أكثرها شجاعة ”كلّن يعني كلّن“، لأنه كسر هالة القداسة التي كان يتخيلها لنفسه زعيم ”حزب الله“ حسن نصرالله ومناصروه.

على أنه على شجاعته، أخفى شعار ”كلّن يعني كلّن“ نقاط ضعف المجتمع اللبناني التي تجعل من التغيير مستحيلا، فالشعار يلقي مسؤولية الانهيار اللبناني بالتساوي على كل السياسيين. وسبب إصرار ثوار لبنان على هذه المساواة هو للتغطية على مشكلة الانقسامات الطائفية القبلية، إذ من دون ”كلّن يعني كلّن“، يمكن للزعماء التحصن خلف طوائفهم واتهام من يهاجمونهم من طوائف مغايرة على أنهم يحرّضون طائفيا. لذا، صار شعار ”كلّن يعني كلّن“ بمثابة اعلان براءة من كل الطوائف وزعمائها، ما يتيح للثوار حرية الانتقاد عبر الطوائف. 

لكن المشكلة في الشعار تشي بأن الثورة حافظت على النمط السياسي السائد، أي الأسلوب الطائفي القبلي الذي يقضي بالمساواة الطائفية، حتى في شتم زعماء الطوائف.

أما لو كانت ثورة لبنان ثورة فعليا على السائد، فكان الأجدى بها أن لا تخجل من صب جام غضبها على زعيم طائفي دون آخر، اذ حتى مع اعتبار أن كل سياسي في لبنان سيء، تتطلب أي ثورة التمييز بين السيء والأسوأ. 

مثلا يصعب مساواة رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، الأكثر نفوذا بين السياسيين في زمن الوصاية السورية على لبنان، بنصرالله، حاكم لبنان اليوم. 

في السنوات العشرة التي كان الحريري فيها رئيسا للحكومة، بلغ معدل نمو الاقتصاد اللبناني 5.85 في المئة. أما معدل النمو الاقتصادي منذ تسلم نصرالله حكم لبنان في العام 2005، فيبلغ 1.2 في المئة. ومثل ذلك، عشية اغتيال الحريري، كان لبنان يحتل المرتبة 78 في الفساد بين 180 دولة. أما اليوم، تحت حكم نصرالله، فيحتل لبنان المرتبة 149. كذلك عند اغتيال الحريري، كان الدين العام يبلغ 40 مليار دولار، وهو اليوم يبلغ أكثر من 140 مليارا.

لم يكن لبنان دولة خالية من الفساد في زمن الحريري، ولم يكن بدون دين عام مرتفع، ولكنه كان يعيش نموا اقتصاديا لا بأس به. أما في عهد نصرالله، فتفشى الفساد بشكل غير مسبوق، وانفلت الدين العام من عقاله، ويمضي الاقتصاد في انهيار بلا قعر. الفوارق في مستوى معيشة اللبنانيين ومؤشرات الاقتصاد كانت أفضل، بما لا يقاس، في زمن الحريري، منها في زمن نصرالله. سبب التفاوت يكمن في الثمن المرتفع الذي يسدده نصرالله الى حلفائه السياسيين، من جيوب اللبنانيين وعلى حساب مصلحتهم، وذلك لشراء سكوت السياسيين على بقاء الميليشيا غير الدستورية التي يديرها زعيم ”حزب الله“.

الثورات يندر أن تكون خطا مستقيما، بل هي غالبا عبارة عن تجارب تتفاوت في نسب نجاحها، وهي تجارب يتعلم منها الشعب الثائر ليتفادى تكرارها، وليختار بين الأفضل بينها. والأفضل يستحيل أن يكون مثاليا، بل هو غالبا ما يكون خيارا بين السيء والأسوأ.

هذا يعني أن أكبر مشكلة وقع فيها ثوار لبنان هي تصورهم إمكانية الإطاحة بنظام لبنان بأكمله واستبداله بنظام طوباوي مثالي، وهذا أمر مستحيل. حتى تنجح ثورة لبنان، على الثوار العمل على دفع البلاد في اتجاه أفضل من الذي تسلكه، وهو ما يعني دفع لبنان للعودة الى نموذج الحريري الاقتصادي بدلا من نموذج ”الدولة المقاومة“ الذي يفرضه نصرالله.

والعودة الى نموذج الحريري لا يعني تنصيب ابنه رئيسا للحكومة، فالفارق جلي بين الأب الفذ وابنه ذي الموهبة المحدودة جدا في العمل العام.

العودة إلى نموذج الحريري الأب يعني أن يدرك الثوار أن ”كلّن يعني كلّن“ هو شعار ليس سياسة، وأن المطلوب هو الصراخ من أجل سياسات، لا ضد أشخاص. 

والأفضل فعليا هو لو طالب الثوار بانتخاب نصرالله رئيسا للبلاد لأن انتخابه يجعله خاضعا للمساءلة أمام الناخبين، بدلا من اطلالاته المتكررة من برجه العالي، متحصنا خلف القداسة الدينية والمذهبية القبلية الطائفية، ومطلقا احكاما منجزة حول كيف تكون سياسة لبنان الخارجية والاقليمية والاقتصادية وغيرها.

في لبنان، لا خلاص بدون وأد نموذج ”الدولة المقاومة“، الذي أثبت فشله الذريع في لبنان وايران، والعودة الى ”اقتصاد الخدمات“، بالرغم من مساوئه. ثم يمكن السعي الى تحسين ”اقتصاد الخدمات“ وتحسين المؤشرات، الاقتصادية والحكومية (مثل مرتبة الفساد دوليا)، وبعد ذلك العمل على تحسين توزيع الدخل عبر الضرائب التصاعدية والتقديمات الحكومية الاجتماعية. 

والبحبوحة من نمو اقتصادي غير ريعي تؤدي الى ربط اللبنانيين بمصالحهم، فتتلاشى ولاءاتهم القبلية الطائفية، وهو ما يسمح بالتخلص من هرطقات بطريرك الموارنة بشارة الراعي. صحيح أن رؤية البطريرك لنموذج لبنان تقضي بالعودة الى ”اقتصاد الخدمات“، الا أن آراءه تغرق في طائفية مقيتة جدا، ويمكن الاقتراح على البطريرك، لو هو أراد الاستمرار في إصدار التصريحات العامة بدلا من تفرغه للعبادة، أن يترشح كذلك للرئاسة حتى يصبح مثل نصرالله، منتخبا ومسؤولا في سياساته ومواقفه أمام ناخبيه، لا من المنيعين على المحاسبة أو الانتقاد بسبب قداسته ومرتبته الدينية.

الثورة ليست انقلابا يستبدل الحكام، بل تغيير تدريجي في الحكم يعكس التغيير في آراء المحكومين، وهو تغيير لا يكون دائما نحو الأفضل. في الولايات المتحدة مثلا، ثورات متواصلة على الرغم من استقرار الجمهورية منذ الحرب الأهلية. بعض الثورات تلغي القيود المالية وتزيد الاجتماعية منها، على غرار ثورة المحافظين التي أوصلت رونالد ريغان رئيسا للبيت الأبيض، وغيرها تعزز القيود المالية وتقلّص الاجتماعية، مثل الثورة التي جاءت بباراك أوباما رئيسا. بين الثورتين، يستخلص الأميركيون دروسا لخياراتهم المستقبلية، فيخطئون أحيانا ويصيبون في أحيان، ولكنهم يندر أن يصرخوا ”كلّن يعني كلّن“.

الخميس، 8 يوليو 2021

واشنطن تعدّ خطط مواجهة بديلة عن الديبلوماسية وسط اقتناع بأن طهران لن تعود للاتفاقية النووية

واشنطن - من حسين عبدالحسين

على الرغم من إصرار مسؤول ملف إيران في الإدارة الأميركية روبرت مالي، على أن العودة الى الاتفاقية النووية مع إيران لاتزال ممكنة، بدأ يتكون اجماع في واشنطن بأن طهران لا ترغب بالعودة بتاتا، وأن المرشد الأعلى علي خامنئي، حسم أمره لناحية المضي قدماً في محاولة إقامة «اقتصاد مقاومة» يعطي «الجمهورية الإسلامية» مناعة ضد أي عقوبات دولية، وفي الوقت نفسه مواصلة السعي للحصول على تقنية السلاح النووي.
ومالي كان وصل إلى منصبه بدعم من جبهة واسعة من أصدقاء النظام الإيراني في العاصمة الأميركية، بما في ذلك أربعة أعضاء ديموقراطيين في مجلس الشيوخ، هم كريس مورفي وبيرني ساندرز واليزابيث وارن وكريس فان هولين، وهو يتمتع بتأييد وزير الخارجية أنتوني بلينكن، الذي يشاطره معظم آرائه حول إيران وكيفية التعامل معها، في وقت يفترق الرجلان في السياسة التي ينشدونها تجاه الجمهورية الإسلامية مع مستشار الأمن القومي جايك سوليفان، وأحيانا مع الرئيس جو بايدن نفسه.
ولطالما سعى فريق مالي وبلينكن لإقناع بايدن بوجهة النظر الإيرانية، لناحية أن الولايات المتحدة هي التي خرجت أولاً من الاتفاقية النووية، وتالياً هي التي تتحمل مسؤولية العودة أولاً حتى تعود طهران.
لكن بايدن نفسه لا يوافق هذا الرأي، ويعتقد أنه لا يمكن أن تعود بلاده للاتفاقية النووية في وقت تواصل، بل توسّع، طهران برنامجها النووي.
وكانت واشنطن تسلمت تقارير استخباراتية من الحلفاء الأوروبيين تشير الى أن عملاء إيرانيين يسعون بشكل متواصل لشراء تقنيات تساهم، لا في تعزيز البرنامج النووي الإيراني السلمي فحسب، بل في بناء جانبه العسكري.
وتشير التقارير الى سعي إيران للحصول على صواعق للاستخدام في تفجير الرؤوس النووية، وهذه الصواعق تؤكد أن البرنامج ليس سلمياً فحسب، بل عسكري كذلك.
ويعزز الشبهات حول نوايا إيران، التقلب الذي تسمعه الوفود الدولية من الوفد الإيراني في الجولات الستة الماضية التي انعقدت في فيينا.
وتقول مصادر أميركية إن إيران وافقت على نقاط عديدة، وتراجعت عنها في وقت لاحق، ثم وافقت وتراجعت، وأن هذا الارتباك الإيراني يشي بأن لا قرار من خامنئي بالسعي الجدي للعودة للاتفاقية.
ويلقي مالي وفريقه المسؤولية في ذبذبة إيران في المفاوضات النووية على واشنطن، ويردد مالي في لقاءاته مع المسؤولين في الإدارة والكونغرس أن من حق طهران ألّا تصدّق ما تقوله الولايات المتحدة لأنه سبق لأميركا أن تراجعت عن كلمتها بانسحاب الرئيس السابق دونالد ترامب من الاتفاقية.
لكن الفريق المناوئ لمالي يرى أن الاتفاقية التي تم التوصل إليها في العام 2015 والمصادقة عليها في 2016 كانت عرجاء منذ اليوم الأول، وأنها لم تكن اتفاقية دولية بين الولايات المتحدة وإيران، لأن الاتفاقات الدولية تحتاج إلى مصادقة الكونغرس، ما يجعلها قانونا، وما يعني أن الانسحاب منها يتطلب قانوناً كذلك.
أما الاتفاقية الماضية، فمررها الرئيس السابق باراك أوباما بمرسوم اشتراعي صادر عن البيت الأبيض، وهو ما جعل الانسحاب منها يسير بمجرد اصدار ترامب مرسوم اشتراعي ألغى سابقه.
ويقول معارضو استماتة مالي للتوصل لاتفاقية مع إيران «كيفما اتفق»، أنه لو كانت إيران تسعى جدياً لاتفاقية ثابتة مع الولايات المتحدة، لكان عليها أن تسعى للتوصل لاتفاقية تحوز على موافقة غالبية السلطة التشريعية، التي تمثل الإرادة الشعبية الأميركية.
والحصول على هذه الموافقة يتطلب أن تكون الاتفاقية شاملة، تغطي شؤون النووي الإيراني وكذلك ملفي الصواريخ والميليشيات الموالية لإيران في المنطقة، وهو ما يسمح ببناء تحالف واسع لاقرارها والابقاء عليها.
أما ما تم التوصل إليه في زمن أوباما، فاتفاقية ضيقة جداً، قامت بموجبها الرئيس السابق بتعليق عقوبات أميركية على إيران كانت تنحصر بقطاعات النفط والشحن البحري والتأمين.
حتى ان أوباما لم يقوَ على إلغاء هذه العقوبات لأنها عقوبات صادرة بقوانين وتحتاج لقوانين مماثلة في الكونغرس لإلغائها. جلّ ما فعله هو اصداره اعفاءات على تطبيق العقوبات، ثم جاء ترامب، وترك مفاعيل الاعفاءات تنقضي من دون تجديدها، فعادت العقوبات تلقائياً بموجب التشريعات الأميركية.
إيران تبدو بعيدة جداً، وغير مهتمة، بالتوصل لاتفاقية شاملة ودائمة، حتى ان مجموعة أصدقائها المنهمكة غالباً في محاولة تغيير السياسة الأميركية في الشرق الأوسط حتى تصبح في مصلحة طهران، من قبيل اصرار أصدقاء إيران على ضرورة انسحاب أميركي تام وشامل من كل دول الخليج وإلغاء «عقيدة كارتر»، صارت ترى نفسها محرجة بسبب المواقف الإيرانية في المفاوضات النووية.
وساهمت لا مبالاة إيران بالعودة للاتفاقية النووية في إضعاف موقف مالي وبقية أصدقائها الأميركيين، اذ صارت تبدو واشنطن لينة وطهران متصلبة. ويعتقد المتابعون أن إيران ستعيش سنوات من التصلب، على الأقل حتى تتم عملية خلافة خامنئي.
حتى ذلك الحين، ستبقى إيران على موقفها، وهو ما سيجبر واشنطن على إعداد خطط بديلة لمواجهة النووي الإيراني، غير الديبلوماسية المتعثرة والعقوبات التي بلغت مداها.
وفعلياً، يتناقل المعنيون في العاصمة الأميركية تقارير مفادها بأن الوكالات الفيديرالية المتعددة بدأت تعقد لقاءات لاعداد خطط مواجهة امكانية اقتراب إيران من صناعة سلاح نووي، وهي خطط تراوح بين الحرب السرية، والضربة المفاجئة والمحدودة، والسماح للحلفاء من المتضررين من إمكانية حيازة إيران سلاحاً نووياً بالتصرف.

«تشاتام هاوس» البريطاني: «حزب الله» لا يسعى للإصلاح في لبنان

واشنطن - من حسين عبدالحسين

اعتبرت دراسة أصدرها «تشاتام هاوس»، وهو مركز أبحاث مقره لندن، أن «حزب الله» هو المنظمة السياسية الأكثر نفوذاً في لبنان، وأنه يتمتع بشرعية داخل الدولة، ومع ذلك لا يخضع لأي مساءلة من مؤسسات الدولة ولا يتحمل المسؤولية الكاملة تجاه الشعب اللبناني.

وجاء في دراسة لمديرة قسم الشرق الأوسط في المركز لينا خطيب، وهي من أصل لبناني، أن «التمسك بالقوة من دون مسؤولية هو أمر مثالي لحزب الله»، وأنه على الرغم أن «من الناحية النظرية، يمتلك الحزب القدرة العسكرية على الاستيلاء على السلطة في لبنان بالقوة، لكن ليس من مصلحته القيام بذلك» لأن «قوة حزب الله لا تتحقق من خلال الإكراه المطلق، بل أن الحزب عزز سيطرته من خلال اتفاقيات مع الزعماء ومن خلال الاستفادة من نقاط الضعف في نظام الدولة اللبنانية».

وقدمت الدراسة «الطرق المختلفة» التي يسيطر بها «حزب الله» على الدولة اللبنانية ومؤسساتها، وكيف يسمح «النظام السياسي في لبنان لحزب الله والجهات الفاعلة الأخرى بممارسة السلطة دون مسؤولية أو محاسبة، واعتبرت أنه على الرغم من أن «حزب الله يستخدم خطاب مكافحة الفساد، إلا أن ساسته لم يستخدموا نفوذهم لدفع الإصلاحات من أجل إصلاح نظام الدولة، وهو نظام يناسبهم» بوضعه الحالي.

وقالت الخطيب إن الأحزاب الحاكمة الأخرى «تستغل التحالف مع الحزب كما تستغل بعض نقاط الضعف نفسها في النظام اللبناني»، من بينها «التراخي في التمويل والتشريعات وتدابير العقود العامة»، وذلك لمصلحة هذه الأحزاب.

لكن على عكس الأحزاب الأخرى، «فإن حزب الله قادر على الحفاظ على اليد العليا في السيطرة على حلفائه السياسيين لتوسيع نفوذه بشكل غير مباشر»، وهو ما يعني أن «الحزب يبرز بين جميع اللاعبين السياسيين بسبب سيطرته الفعلية على حدود لبنان مع سورية». كما يبرز مدى استخدام الحزب لمرفأ بيروت، حسب الخطيب، «لنقل المخدرات والأسلحة والمواد المتفجرة داخل لبنان وخارجه، من دون أي رقابة حكومية على عملياته، أو تفتيش مواقع يسيطر عليها».

ورأت الدراسة أن شرعية «حزب الله» جاءت من البيانات الوزارية المتعاقبة منذ عام 2008، وهي بيانات أعطت الحزب حقاً استثنائياً في امتلاك واستخدام السلاح تحت ذريعة الدفاع الوطني، من دون تحديد واجباته أو مسؤولياته في المقابل، وهو ما سمح للحزب باستخدام القوة حسب ما يراه مناسباً ومن دون استشارة المؤسسات اللبنانية، ويكون ذلك غالباً بذريعة الأمن القومي.

ويتوسع استخدام «حزب الله» لقوته العسكرية بشكل يختلف عن الأحزاب السياسية الأخرى، إذ إن «أجهزته الأمنية تلعب دوراً مركزياً في قدرة الحزب على السيطرة على مؤسسات الدولة اللبنانية، العسكرية منها أم المدنية».

هذا الوضع الهجين مثالي للحزب ويسمح له بـ «التحكم بلبنان، من دون الخوف من احتمالات نشوب حرب أهلية، أو فرض عقوبات دولية على البلاد»، وهو وضع يتيح للحزب أيضاً «العمل كسلطة أمر واقع في لبنان، من دون الحاجة إلى تلبية احتياجات الشعب».

وفي تقديمها النصح للحكومات الغربية في كيفية التعامل مع الأزمة المستفحلة وسيطرة «حزب الله» على لبنان، اعتبرت الخطيب أن محاولات الحكومات الغربية لتقليص نفوذ الحزب، من خلال التركيز على كبح أنشطته - عن طريق العقوبات مثلاً - «ليست كافية»، وأنه في ظل النظام السياسي الحالي، «لن يكون ممكنا إضعاف قبضة حزب الله على الدولة اللبنانية، من دون الإصلاح الجذري، وهذا بدوره أمر معقد وطويل الأمد، وينبغي أن يقوده اللبنانيون أنفسهم. أما السياسات الغربية الهادفة إلى استقرار لبنان، فعليها العمل من أجل دعم تحقيق اللبنانيين هدف الإصلاح الجذري».

في سياق متصل، دعا الباحث طوني بدران، الحكومة الأميركية إلى ممارسة حق النقض (الفيتو) على تمديد التفويض لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في جنوب لبنان (اليونيفيل).

ومن المتوقع أن يصوّت مجلس الأمن، في الأسابيع المقبلة، على تمديد عمل «اليونيفيل» لسنة اضافية، مع ما يتطلب ذلك من تخصيص نصف مليار دولار مطلوبة لتمويل عمل القوة الأممية، وهي أموال تأتي في غالبها من الحكومة الأميركية.

بدران، الذي يعمل في «مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات»، وهو مركز أبحاث مقره واشنطن، قال إن «من المستبعد أن يوافق مجلس الأمن، والدول المساهمة في اليونيفيل، على التغييرات الهيكلية اللازمة للقوة حتى تتجاوز العوائق على عملها التي يفرضها حزب الله والسلطات اللبنانية».

عليه، يرى بدران أن «فشل اليونيفيل المستمر في فرض منطقة عمليات خالية من أي أفراد مسلحين وأسلحة لا يتم استخدامها في أنشطة عدائية من أي نوع (حسب نص تفويض القوة الأممية) هو فشل محتوم».

لذلك، يرى الخبير الأميركي أن «الطريقة الوحيدة المقنعة للمضي قدما تقضي باستخدام حق النقض ضد تجديد ولاية اليونيفيل» في أغسطس المقبل.

بعد حل القوة، يمكن «نقل مهمة الارتباط»، أي التنسيق الذي تقوم به بين الجانبين اللبناني والاسرائيلي، إلى مكتب منسق الأمم المتحدة الخاص بلبنان.

وتشرف «اليونيفيل» على «الارتباط»، الذي يشارك فيه الجيشان اللبناني والاسرائيلي، وهذه إحدى الوظائف التي يشير إليها مؤيدو الإبقاء على القوات الدولية. لكن بدران يرى أن الارتباط لا يتطلب نصف مليار دولار سنوياً لتمويل عمل «طاقم عمل لا يزيد عدد أفراده عن عشرة أشخاص».

ودعا الكونغرس الأميركي إلى «حجب التمويل، في حال مددت إدارة (الرئيس جو) بايدن الوضع الراهن، وجددت تفويض اليونيفيل، التي فشلت في تعزيز المصالح الأميركية».

الأربعاء، 7 يوليو 2021

صدام والأسد وجهان للإجرام نفسه

حسين عبدالحسين

نشرت صحيفة عربية رسائل سرية كان تبادلها رئيسا العراق وسوريا الراحلين صدام حسين وحافظ الأسد، في التسعينيات، حول إمكانية تعاون الخصمين اللدودين بعد سنوات من التنافس والعداء. 

مشكلة الرسائل أنها تعزز الخطاب الخشبي لمكافحة الإمبريالية وتشتيت الأضواء عن الإجرام الذي مارسه كل من صدام والأسد بحق شعبيهما، وتسليطه بدلا من ذلك على "التوازنات" الإقليمية، ولعبة الأمم، والخطر الخارجي المزعوم، الذي يسمح بتكميم الأفواه داخليا.

في الرسائل، أنه على إثر فرار صهري صدام، حسين وصدام كامل، إلى الأردن، خاف رئيس العراق الراحل على حكمه، وقرر الانفتاح على الأسد، الذي كان يرى في العراق خلاصا لاقتصاده المتهالك.

لكن الأسد في العام 1995 لم يكن يثق بصدام بسبب انقلاب الأخير على "ميثاق التعاون الوطني" بين البلدين، الذي كان من المفترض أن يؤدي إلى وحدة بين نظامي البعث، وتاليا العراق وسوريا، في العام 1978.

الصحيفة تبدو غافلة أو متغافلة عن سبب انقلاب صدام، الذي لم يرتبط لا بوحدة عربية ولا بانفصال. في أساس مشكلة صدام مع الأسد أن رئيس العراق، أحمد حسن البكر، استفاق متأخرا بعدما كان نائبه صدام حسين أطبق على كل مقادير حزب البعث والحكم.

للتخلص من صدام، اعتقد البكر أن بإمكانه الاستعانة ببعثيي سوريا والأسد، فتوصل مع السوريين إلى خطة إقامة وحدة يكون البكر رئيسها، والأسد نائبا للرئيس، وهو ما يطيح بصدام من منصبه. ثم أن البكر كان دخل سن التقاعد وصحته متعثرة، وهو ما كان يعني أن رئاسته كانت ستنتقل حتما للأسد بعد وفاته. 

والأرجح أن البكر لم يكن يخال نفسه سيموت يوما حتى يرثه الأسد، بل كل ما كان يسعى إليه هو التخلص من صدام، لكن الأخير استبق الانقلاب عليه بانقلاب على البكر والوحدة مع الأسد. هكذا بدأ العداء العبثي بين بعثي العراق وسوريا، وتاليا بين صدام والأسد. 

في أثناء هذا الصراع، رعى كل من الرئيسين معارضي خصمه، في لبنان وسوريا والعراق، كما بين الفصائل الفلسطينية، وصبّت أجهزة استخبارات كل منهما غضبها على خصومها، فكانت الاغتيالات، وحروب الشوارع، وقتل الأبرياء لمجرد الاشتباه بهم. وساهم وقوف الأسد في صف نظام إيران، في حربه ضد صدام، بتعميق العداء والكراهية بين الرجلين.

أما في التسعينيات، فرأى كل منهما حاجة للآخر: صدام سعى للالتفاف على صهريه وراعيتهما واشنطن، والأسد سعى لتوريث ابنه بشار عن طريق إضعاف رفاق دربه مثل عبدالحليم خدّام، دون أن يضعف نظامه. وراح مندوبا صدام والأسد يلتقيان، وأرسل الأسد سلامه إلى "أبي عدي"، أي صدام، فيما حمّل رئيس العراق الراحل موفديه سلامات إلى "الأخ الرئيس" حافظ الأسد، حسب الصحيفة.

لم يتأخر الأسد في الانفتاح على صدام الجريح والإفادة من نفط العراق، وكذلك فعلت إيران التي زار وزير خارجيتها، كمال خرازي، برفقة ديبلوماسي صاعد اسمه جواد ظريف، صدام في بغداد، وأعلن الوفد الايراني معارضته الحرب الأميركية التي كانت مصصمة للإطاحة بطاغية العراق ونظامه.

وفي بيروت، وقف رجل طهران زعيم حزب الله، حسن نصرالله، يدعو المعارضة العراقية إلى التوصل إلى "طائف عراقي"، أي مصالحة، مع صدام، بعد عقود من دعاء إيران و"حزب الله" والتضرع لله أن "ينصر الإسلام على الطاغية صدام". 

السياسة في دنيا العرب والفرس لا دين لها. هكذا وقف نظاما إيران وسوريا إلى جانب صدام إبان الغزو الأميركي للعراق، بل سارعت دمشق وطهران إلى رعاية الإرهابيين الإسلاميين ومفخخاتهم، التي راحت تنفجر في عموم العراق وتقتل ناسه، حتى أن حليف ايران، رئيس حكومة العراق السابق نوري المالكي، انتفض على رعاية الأسد للإرهاب ودفع الأمم المتحدة إلى إرسال لجنة تحقيق دولية لوقف المفخخات التي كانت تعبر الحدود العراقية آتية من سوريا الأسد. 

ثم كانت الثورة السورية للإطاحة بنظام بشار حافظ الأسد. هذه المرة، انقسم التكتل الايراني البعثي، بجناحيه السوري والعراقي، إلى اثنين: إسلام شيعي في صفوفه نظاما إيران والأسد، وإسلام سني قوامه الصداميون ممن أطلقوا لحاهم وشعورهم وكحّلوا عيونهم فصار اسمهم "الدولة الاسلامية"، أو داعش. 

أميركا انهمكت بالقضاء على داعش، وقاطعت الأسد بعد ارتكابه المجازر بالأسلحة الكيماوية، حسب التقارير التي أصدرتها "منظمة مكافحة انتشار الأسلحة الكيماوية"، التابعة للأمم المتحدة. 

الانقسام السني الشيعي استبدل الانقسام السابق بين البعثَين العراقي والسوري، فصادق المالكي الأسد، بل رفض طلبا أميركيا لاعتراض الطائرات المدنية التي نقلت السلاح الايراني لقوات النظام السوري. ومع وصول مصطفى الكاظمي إلى رئاسة الحكومة في العراق، نسي أو تناسى أنه كان عمل على أرشفة وتوثيق مجازر البعث العراقي الكيماوية، وانخرط الكاظمي في مجهود دبلوماسي لإنهاء عزلة البعث السوري، على الرغم من مجازر الأسد الكيماوية. هكذا هي السياسة العربية والإيرانية، لا دين لها.

على أن أكثر ما يثير الشفقة هو أن مناصري أنظمة ايران وسوريا والعراق لا يرون المواقف المتقلبة لزعمائهم، فيخالون الصراع وجوديا ثابتا بين المسلمين السنة والمسلمين الشيعة. في هذه الحالة، يصبح صدام "أسد السنة"، الذي حارب شيعة إيران والأسد، ويصبح الأسد، العلوي المحسوب على الشيعة، قاهر الإسلام السياسي السني المتطرف.

لكن الحقيقة هي أن "أسد السنة"، أي صدام، والأسد في سوريا، أي بشار وأبيه الراحل، ليسوا أبطالا ولا حماة مذاهبهم، بل هم طغاة دمويون قتل كل منهم من ناسه وأهله وأبناء مذهبه أكثر ما قتل منهم الغرباء بكثير. 

أما من يدرك أن "أسد السنة" العراقي والأسد السوري هما وجهان لعملة واحدة من الإجرام، وأن لا صدام يمثل السنة ولا الأسد يمثل الشيعة أو العلويين، فهؤلاء هم أصحاب البصيرة، وهم، على قلّة عددهم، الفرقة الناجية.

الأحد، 4 يوليو 2021

تعثّر محاولات ترامب في إضعاف بايدن واخضاع الحزب الجمهوري

واشنطن - من حسين عبدالحسين

منذ حظر مواقع التواصل الاجتماعي، حسابات الرئيس السابق دونالد ترامب، والأخير يسعى للعودة الى دائرة الضوء، فقام بإنشاء موقع خاص له على أمل أن يتبعه الأنصار والمؤيدون، لكن الموقع مني بفشل ذريع، أجبر ترامب على إغلاقه. وبعد فشله إلكترونياً، قرر بدء حملته الانتخابية بسلسلة من الخطابات في عموم الولايات.

تمحورت خطابات ترامب حول خطوط عريضة، أولها أنه رمى بثقله خلف منافسي مشرعين جمهوريين ممن تجرأوا على تخطيه والتصويت الى جانب الديموقراطيين في مشروع قانون عزله، مطلع العام، وثانيها أن ترامب يسعى للاطاحة بكل من انتقدوا الهجوم الذي نفّذه أنصاره على مبنى الكونغرس في السادس من يناير الماضي.

ترامب يسعى بكل ما أوتي من قوة لتأديب أعضاء الكونغرس ممن رفضوا تبني مواقفه التي يصر فيها أن الانتخابات مزورة، وفي صدارة هؤلاء عضو الكونغرس الجمهورية عن ولاية وايومينغ ليز تشيني، ابنة نائب الرئيس السابق ديك تشيني، والتي صوتت لخلع ترامب، وانتقدت دفاع الجمهوريين عن أحداث السادس من يناير، وهو ما دفع بالقيادة الجمهورية في الكونغرس، والموالية لترامب، الى خلعها من منصبها القيادي.

وقبل أيام، صوّت الكونغرس، الذي تسيطر عليه غالبية ديموقراطية، على تشكيل لجنة للتحقيق في أحداث الهجوم على الكونغرس. واتفقت رئيسة الكونغرس الديموقراطية نانسي بيلوسي مع تشيني على مشاركة الأخيرة في اللجنة، وهو ما زاد من حنق ترامب عليها، وتوعد باخراجها من الكونغرس في الانتخابات النصفية المقررة العام المقبل.

لكن يبدو أن تشيني لا تتصرف بتهور، بل هي تقرأ استطلاعات الرأي السرية التي تجريها قيادة الحزب الجمهوري، والتي تظهر تدهور شعبية ترامب في كل الدوائر الانتخابية المتأرجحة، وهو ما يعني أن استمرار تمسك ممثلي هذه الدوائر من الجمهوريين بترامب سيؤدي الى خسارتهم هذه الدوائر أمام منافسيهم الديموقراطيين.

صحيح أن لترامب تأييدا داخل الحزب الجمهوري يجعله زعيم الحزب من دون منازع، لكن في أوساط القاعدة الأوسع للحزب، بالكاد تتعدى شعبية ترامب الثلث بقليل.

وأظهر أحدث استطلاعات الرأي الذي أجراه معهد «يوغوف»، أن شعبية كل من الرئيس جو بايدن وترامب لم تتغير منذ يناير الماضي، وأنه لو ترشح الرجلان للانتخابات الرئاسية المقبلة في 2024، فإن بايدن سيتغلب على ترامب مرة ثانية.

وفي استطلاع يناير، عبّر 53 في المئة عن رأي إيجابي تجاه بايدن، أما في استطلاع الشهر الماضي، فحافظ بايدن نسبياً على شعبيته بـ 50 في المئة من المؤيدين.

ومثلما حافظت أرقام شعبية بايدن على استقرارها، كذلك فعلت أرقام ترامب، حيث أظهر الاستطلاع الأخير، أن 41 في المئة، يؤيدونه، بانخفاض بلغ نقطة مئوية واحدة عن يناير.

وعلّق توماس جيفت، المدير المؤسس لمركز السياسة الأميركية في جامعة كوليدج لندن، في تصريح لـ «نيوزويك» بالقول إن «ثبات أرقام الرجلين سببه كون لكل منهما كمية معروفة».

وظهرت أولى بوادر ضعف شعبية ترامب داخل الحزب الجمهوري في ولاية ويسكونسن، التي تعقد انتخابات تمهيدية لانتخاباتها المحلية.

وبالمناسبة، أصدر ترامب بياناً هاجم فيه رئيس مجلس الولاية، روبن فوس، واثنين من المشرعين الجمهوريين الآخرين، لأنهم لم يروّجوا لتصريحاته التي يصر فيها أن الديموقراطيين سرقوا الانتخابات منه.

لكن في انتكاسة نادرة، بدا ترامب في ويسكونسن وكأنه «من دون أسنان»، حسب التعبير الأميركي، اذ عندما اعتلى فوس وديفين ليماهيو، زعيم الغالبية في مجلس الشيوخ في الولاية، المنصة، أمام بعض أكثر الجمهوريين تأييداً لترامب، بدا المشهد وكأن ترامب لم يهاجم أي منهما، اذ لم يكن هناك صيحات استهجان، بل لقي فوس تصفيقا حاراً، ورفض المشاركون في المؤتمر محاولة توجيه أي لوم إليه.

ترامب عاد الى دائرة الأضواء من حيث لا يرغب، مع إعلان الادعاء العام لولاية نيويورك، ومعه مكتب الادعاء الفيديرالي لدائرة نيويورك الجنوبية، تقديم لائحة اتهامية بحق المدير المالي لمؤسسات ترامب، الن ويسلبرغ، بتهمة التلاعب الضريبي والتهرب.

والرجل الذي يعمل مع ترامب كأقرب المقربين له على مدى 47 عاماً، يحتفظ بدفتري ضرائب، واحد يقدمه لدائرة الضرائب، وواحد أكثر تفصيل يحتفظ به سراً.

في الدفتر السري أن المكافآت التي يقدمها ترامب لكبار العاملين في مؤسساته - على شكل ايجار بيوت وأقساط تعليم للأولاد وتكاليف سفر الاجازات السنوية - لم يصرح ويسلبرغ عن أي منها، وهو ما يبقيها خارج إطار الضرائب، أي ما يجعلها تهرباً.

وتشير التقارير إلى أن الادعاء المحلي والفيديرالي حاولا عبثاً التوصل لاتفاقية مع ويسلبرغ للبوح بكل المخالفات التي يعرف أن ترامب ارتكبها، مقابل الاعفاء عنه أو اعطائه عقوبة مخففة الى أقصى حدود. لكن الرجل يدين بولاء مطلق لترامب، ورفض الدخول في أي صفقة مع الادعاء، بل أن محاميه رد على الاتهام بعدم الاعتراف بالذنب، وهو ما يعني الذهاب الى مواجهة أمام المحكمة، ويعني المخاطرة بعقوبة قد تصل الى السجن 15 عاماً.

بدوره، شن ترامب هجوماً على قرار الادعاء، واصفاً اياه بالكيدي والسياسي الذي يسعى من خلاله «اليسار الديموقراطي المتطرف» الى النيل من ترامب، «فقط لأنه ترامب».

وفي إشارة لا تمت الى سياق المواجهة القضائية بصلة، تساءل ترامب عمن يقف خلف مقتل آشلي بابيت، وهي عسكرية سابقة شاركت في الهجوم على الكونغرس، وقتلت برصاصة لم يتم الكشف عن هوية مطلقها.

المؤشرات جميعها تشي بأن ترامب لم يشبع من السياسة بعد، رغم كل المصاعب التي تتسبها له ولأعماله ولسمعته، بل يبدو أن الرئيس السابق يعتقد أنه يمكنه مواجهة أزماته مع القضاء ودائرة الضرائب عن طريق اتهام ما لا يعجبه على أنه «استهداف سياسي»، لا ضده فحسب، بل ضد مؤيديه كذلك، على غرار التحريض الذي مارسه ترامب في السادس من يناير، والذي جاءت نتائجه كارثية، لا على ترامب وأنصاره فحسب، بل على الولايات المتحدة بشكل عام.