الثلاثاء، 7 ديسمبر 2021

لا تغيير في لبنان بلا تغييريين

حسين عبدالحسين

برامج وتصريحات وأقوال المطالبين بالتغيير في لبنان متشابهة، ومبنية على اعتبار أن التغيير حتمي لأسباب متعددة. 
أول تلك الأسباب، الفقر والبؤس الذي يصيب غالبية اللبنانيين ويدفعهم الى الاقتراع لوجوه جديدة في الانتخابات المقررة في 27 آذار مارس، وثانيها أن لدولة لبنان دستور وقوانين ومؤسسات يمكن التغيير من داخلها عبر الفوز بغالبية مقاعد البرلمان، وثالثها أن الجزء الأكبر من المأساة اللبنانية أسبابها خارجية ما يجعل حلولها خارج إرادة اللبنانيين (وهو ما يناقض جدوى الدعوة للاقتراع والتغيير).

على أن آراء التغييريين في لبنان خاطئة بمعظمها، غالبا بسبب فهم قاصر لطبيعة التنظيم الاجتماعي اللبناني وجمهوريته، فالشعب اللبناني لا يتألف من مواطنين مستقلين في آرائهم، بل من قبائل يرتبط أفرادها ببعضهم البعض عبر شبكات ريعية يديرها زعماء، بعضهم كبار، وبعضهم الآخر صغار، وفئة ثالثة بينهما.

والشبكة الريعية مبنية على تكافل وتضامن وولاء، ضمن تنظيم هرمي عمودي. يجلس على رأس الهرم أكثر أفراده قوة وتمويلا، ويحرص على تدبير أمر الرعية، سواء بدعمهم ماليا لتيسير أحوالهم ومعاشهم، أو بحمايتهم ضد استقواء أبناء العشائر الأخرى عليهم، أو عبر تأمين حصص لهم في الدولة على شكل وظائف وعقود. 

ولأموال الزعماء مصدران، إما السطو على موارد الدولة وأموالها، وأبرع من لجأ لهذا النموذج رئيس "مجلس النواب" الشيعي نبيه بري، أو بالولاء لقوى خارجية، غالبا إقليمية، واستلام أموال ضخمة لتمويل الشبكة الريعية، على غرار نموذجي "حزب الله" بزعامة الشيعي، حسن نصرالله، وراعيته إيران، و"القوات اللبنانية" برئاسة المسيحي، سمير جعجع، وراعيته السعودية. هكذا يتخذ الزعيم وشبكته مواقف موالية للمانح الإقليمي.

وفي لبنان نماذج هجينة ممن يسطون على بعض موارد الدولة ويتسلمون في الوقت ذاته بعض عطاءات المانحين الإقليميين، مثل الرئيس المسيحي، ميشال عون، وزعيم الدروز، وليد جنبلاط. 

الزعماء الخمسة المذكورون أعلاه شكلوا أركانا أولى لقاءات "الحوار الوطني" في 2006، يضاف إليهم زعامة آل الحريري السنية، التي تتلاشى اليوم وتترك الشبكة السنية بلا زعيم.

عملية السطو على موارد الدولة، إن كانت للإثراء الفردي أم لتمويل الشبكات الريعية العشائرية الطائفية، مقترنة بحروب "حزب الله" الدائمة والتي حوّلت لبنان إلى جبهة أبعدت عنها كل المستثمرين الخارجيين وقضت على قطاعات الخدمات كالسياحة والاستشفاء والتعليم، أفلست دولة لبنان، فتلاشت.

حتى مجلس الزعماء العشائري، أي "طاولة الحوار الوطني"، تبعثرت بعدما أثبت نصرالله أن كلمته هي العليا في البلاد، وأن لا قيمة لأي مقررات قد تخرج عن طاولة الزعماء العشائريين ولا تنال رضا النظام الإيراني أو موافقة نصرالله.

ما لا يدركه التغييريون اللبنانيون أنه عندما تنهار الدولة ويستشري الفقر والجوع، لا ينقلب الأزلام على زعمائهم، بل يتمسكون بهم أكثر فأكثر كحبل خلاص وحيد وأخير، أي أن اللبنانيين ممن يحلمون بالتغيير لن يغامروا بالاستغناء عن شبكاتهم الطائفية وزعمائها في سبيل دولة موعودة لم تتحقق يوما، ولا دلائل أنها ستتحقق عن قريب. 

حتى التغييريين، وبعضهم من المنبوذين من عائلاتهم الحاكمة وبعضهم من عائلات كانت حاكمة في الماضي وتسعى للعودة، يقدم عدد منهم وعودهم الإنقاذية مقترنة بتقديمات ريعية قبلية مشابهة للقائمة.

والتاريخ اللبناني يعجّ بأثرياء بنوا زعامتهم بتمويل شبكات ريعية من مالهم الخاص، كان أشهرهم رئيس الحكومة الراحل، رفيق الحريري، ونائبه، عصام فارس، والطامح لمنافسة الحريري، فؤاد مخزومي.

حتى أثرياء قطاعات الزراعات الممنوعة، من أمثال النائب السابق، يحيى شمص، اشتروا مقاعدهم النيابية من حاكم لبنان السوري الراحل، غازي كنعان، الذي ما لبث أن غضب عليهم لتأخرهم في سداد ثمن زعامتهم فرماهم في السجن.

على أننا حتى لو اعتبرنا أن الوعي انتشر في صفوف اللبنانيين فجأة وتحولوا إلى مواطنين يختارون ممثليهم بحسب الرؤية والكفاءة لا وفق قواعد المبايعة القبلية، لن تتمكن غالبية تغييرية في "مجلس النواب" اللبناني من فرض تغيير يذكر على ثقافة تسود فيها القبلية وتغيب عنها المدنية. 

ويكفي لأي متابع أن يستمع لتصريحات غالبية اللبنانيين، من المسؤولين الحاكمين والتغييريين الطامحين والمواطنين عموما، حتى يدرك أن المخيلة اللبنانية لا تتسع لمعنى دولة أو دستور أو مؤسسات، وهو ما يحصر فهم غالبية اللبنانيين لوطنهم بصور سطحية، مثل لبنان الأرزة والحياة الليلية والمآكل الشهية والدبكة.

عند الأميركي، مثلا، الوطن هو الدستور الذي يحمله في جيبه، وينصّ على حماية الحرية الفردية (liberty). أما عند اللبناني، فلبنان هو أفكار بدائية كالتزلج في الجبل والسباحة في البحر في نفس اليوم.

والضحالة بادية في تكرار البعض أن مشكلة لبنان هي "الاحتلال الايراني"، وهذا غير صحيح، لأن لا إيرانيين في لبنان، بل مرتزقة لنظام إيران يوالونه عشائريا، كعادة اللبنانيين منذ زمن الفينيقيين. 

وفي أوقات أخرى يغوص اللبنانيون في تحليلات دولية وإقليمية حول ما يريده "الأميركي" و"الإيراني" و"الإسرائيلي" (دائما بصيغة المفرد)، ويخلصون إلى أن مصير لبنان يرتبط بالمفاوضات النووية مع إيران، على الرغم من أن أميركا أقرّت قانون العقوبات على "حزب الله" بعد شهرين من توصلها للاتفاقية النووية مع إيران في 2015، والتزم الإيرانيون الصمت ولم يعتبروا أن العقوبات على أزلامهم اللبنانيين تعكّر صفو الاتفاق مع واشنطن. 

بكلام آخر، لبنان يحارب عن إيران في الحرب، ويتلقى الصفعات عنها في السلم، أي أنه في مأزق بغض النظر عن الوضع الدولي.

يحتاج اللبنانيون، الحاكمون والتغييريون وعامة الناس، إلى انتشار ثقافة المواطنية ومعنى الدولة وفلسفتها ودورها. حتى ذلك الحين، سيقتصر التغيير في لبنان على التبديل بين الحكام وبين رعاتهم الإقليميين (مع ملاحظة أن بعض الرعاة الإقليميين أكثر فائدة من الرعاة الثوريين التخريبيين)، فيما البلاد تواصل انهيارها الاقتصادي والاجتماعي، وتتلاشى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق