الخميس، 16 ديسمبر 2021

العرب والسيادة و"أم الصبي“

حسين عبدالحسين

"أم الصبي"، هي عبارة يرددها اللبنانيون في نقاشاتهم السياسية، غالبا للإشارة إلى حرص شخص أو مجموعة على سياسة ما أو موقف ما. مصدر العبارة هو رواية توراتية عن امرأتين، واحدة عاقر قامت بسرقة ابن امرأة غيرها. نشب خلاف بينهما فاحتكمتا إلى سليمان الحكيم بن داود، ملك إسرائيل وأحد الأنبياء عند المسلمين، فأمر سليمان بقطع الصبي نصفين وإعطاء كل امرأة نصف. رضيت إحداهما بينما سارعت الأخرى إلى التنازل عن طلبها تفاديا لقطع الولد. إذ ذاك عرف سليمان أن التي تنازلت هي أم الصبي الفعلية لأنها لم تحتمل قطعه، وآثرت التخلي عن حقها على رؤيته نصفين. هذه هي قصة "أم الصبي"، التي تتنازل عن حقها للحفاظ على ما هو ثمين على قلبها.

وفي ثقافة المشرق العربي حكم كثيرة عن ضرورة التخلي عن الحق، أو عن نصفه على الأقل، للحفاظ عليه. من هذه الحكم "اعط خبزك للخباز ولو أكل نصفه"، وهي حكمة مفادها أنه لو أراد صاحب العجين خبزه، لأحرق يديه ومعهما العجين، وهو ما يعني أن التنازل عن نصف العجين وتحويل نصفه الآخر إلى خبز هو الخيار الأفضل.

والثقافة العربية عموما تزخر بأمثلة وحكم حول ضرورة اللين والمساومة والتنازل والعملانية، وفي التراث الإسلامي أن إمام الشيعة الأول (الخليفة الرابع عند السنة) علي بن أبي طالب قال: "إن لم يكن ما تريد فرد ما يكون". 

كل هذه الحكم حول ضرورة التحلي بالواقعية فاتت غالبية بعض الشعوب العربية، خصوصا في موضوع طرد الاستعمار الأوروبي، ومناصبته العداء، والإصرار أن السيادة الوطنية هي هدف يستحق تضحية الغالي والنفيس في سبيله. ومرض الهوس بالسيادة لايزال يطارد هؤلاء العرب، ومعهم الفرس، حتى اليوم، إذ هم يتخيلون مؤامرات استعماراتية في كل خطوة فاشلة يخطونها. 

لكن الواقع هو أن أحوال هؤلاء العرب كانت أفضل بما لا يقاس في زمن الحكم الاستعماري الأوروبي. حتى لو اعتبرنا أن الأوروبيين حكموا العراق والمشرق طمعا في ثرواته الطبيعية وأسواقه، وحتى لو اعتبرنا أن الأوروبيين قاموا بسرقة هذه الثروات، فإن أرقام النمو البشري والاجتماعي والاقتصادي كانت أفضل يومها منها بعد الاستقلال وتحت الحكم الوطني. 

يعني حتى لو اعتبرنا أن الاستعمار الغاشم هو الخبّاز، وأن بلاد العرب هي الخبز، فلا ضير من إعطاء هذه البلاد للاستعمار لإدارتها حتى لو أكل نصفها، لأن الحكم الوطني نتائجه كمن وضع يديه في التنّور، فاحترقتا واحترق معهما الخبز والتنّور والقرية بأكملها. 

الأسبوع الماضي، أعادت الولايات المتحدة إلى العراق النقش الطيني التاريخي المعروف باسم "حلم جلجامش"، والذي يعود تاريخه إلى العام 1500 قبل الميلاد. وكانت السلطات الأميركية صادرت اللوح الذي كان معروضا في متحف أميركي اشتراه بأكثر من مليون ونصف دولا من مهربي السوق السوداء. وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فإن اللوح لم يصل الولايات المتحدة بعد غزوها العراق، بل هو اختفى من بغداد عام 1991، الأرجح كإحدى غنائم "السيد عدي" صدام حسين الكثيرة.

أدت إعادة أميركا للوح الطيني التاريخ إلى إشادة عراقية وعالمية، خصوصا من معادي الإمبريالية في الولايات المتحدة وحول العالم. على أن ما فات هؤلاء، هو أن عودة "حلم جلجامش" إلى السيادة العراقية محفوف بمخاطر جمّة في دولة فاشلة على طراز حكومة العراق، خصوصا أن العالم لم ينس بعد قيام تنظيم داعش القروسطوي بتدمير عشرات التماثيل والنقوش الأشورية والأكادية والسومرية بحجة أن الإسلام يأمر بتدمير الأصنام. ومثل ذلك قضى داعش على آثار تدمر السورية الجميلة التي يعود عمرها إلى ألفيتين، وتحمل في طيّاتها بيانات كثيرة ساعدت في تدوين التاريخ وشرحه. 

في الأسابيع التي كان إرهابيو داعش يضربون الآثار العراقية بمطارقهم في متاحف الموصل، زرت المتحف البريطاني في لندن والذي يحتوي مئات الآثار العراقية التي سرقها الانتداب البريطاني من الأراضي العراقية. 
تنفست الصعداء وأنا أطالع جناح "ما بين النهرين"، وأنا أقول في نفسي أننا محظوظون أن الانتداب البريطاني سرق هذه الآثار العراقية ويعرضها في مأمن عن السرقة والتدمير، فهذه الآثار هي تراث بشري مصدره "مهد الحضارات"، والحفاظ عليها أهمّ بكثير من السيادة عليها. هكذا تفكّر "أم الصبي"، التي يهمّها الحفاظ على التراث، بغض النظر عن سيادة من التي تحافظ عليه.

وهكذا على بعض العرب أن يتأملوا تفاهة إصرارهم على السيادة التي لم تعد عليهم إلا بالدمار والمآسي. لو أظهر هؤلاء العرب — في أي من تاريخهم أو حاضرهم اليوم — أنهم قادرون على تنظيم أنفسهم في حكومات مستقرة وناجحة ذات سيادة، كانت استعادتها الآثار من الاستعمار التركي والفرنسي والبريطاني والألماني واجبة. 

لكن بالنظر إلى الحكومات الفاشلة في بيروت ودمشق وبغداد وطهران ورام الله وغزة، لا يمكن المطالبة بتسليم هذه الزمر أراض ليحكموها، ولا حتى تراثهم التاريخي لأنهم لم يحافظوا عليه في الماضي، والغالب أنه سيضيع من بين أيديهم مجددا في المستقبل. 

والحال هذه، نعرّج على قضية فلسطين. حتى لو اعتبرنا أن الرواية الفلسطينية والأحقية في الأرض والمظلومية صحيحة بالكامل، لا يكفي ذلك حتى يتسلم الفلسطينيون أي شكل من السيادة ما لم يقدموا نماذج حكم يمكن الركون إليها غير النماذج المقرفة الحالية، إذ بدون حكومات مقبولة، لما الإصرار على استعادة أي أراض من إسرائيل؟ حتى تتحول إلى بؤر من القمامة على غرار وادي الحجير اللبناني، الذي يفاخر اللبنانيون أنهم استعادوه من الإسرائيليين، ليتحول اليوم إلى مكب ضخم للنفايات.

"أم الصبي" هي التي تحرص على النتيجة بغض النظر عن الوسيلة. لو يفهم بعض العرب ذلك، لتنازلوا عن سيادتهم واستجدوا الاستعمار ليعود لحكمهم، حتى لو أكل نصف خيراتهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق