الثلاثاء، 1 فبراير 2022

عن انحيازي ضد فلسطين

حسين عبدالحسين

عاتبني صديق عزيز بقوله إني منحاز ضد فلسطين. وعدته أن أكتب تجربتي في مقالة. في بيتنا العراقي كنا نتفادى السياسة والمنغمسين فيها لتفادي دموية صدّام حسين. كنا نحاول تحديد انتماءات الناس لتفادي البعثيين والدعوة والفلسطينيين لأن غالبية فلسطينيي العراق كانوا مخبري صدام. في مدرستي البغدادية كان اهتمامنا يتركز على شتم الخميني الدجّال وإيران، وتمجيد معركة القادسية التي هزم فيها العرب المسلمون الفرس المجوس. لا أتذكر أننا تحدثنا عن فلسطين يوما.

في بيتنا اللبناني كانت جدتي وأختها، حارستا العقيدة، ترددان أن الفلسطينيين باعوا أراضيهم لليهود وجاؤوا ليأخذوا لبناننا. عائلتنا كانت مقرّبة من السيد موسى الصدر، الذي نام ليالي في بيت جدي في بعلبك. والصدر كان من حلفاء رئيس سوريا حافظ الأسد، والأخير كان يكره الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات كالطاعون. كنا نحن نكره عرفات ونهلل لحركة أمل، الميليشيا اللبنانية التي أسسها الصدر، والتي حاصرت المخيمات الفلسطينية وقتلت فلسطينيين كثيرين. 

في العقيدة الشيعية لا أهمية لفلسطين. بعد مكة والمدينة، المدن الأكثر قدسية هي النجف حيث مرقد الإمام علي وكربلاء مرقد ابنه الحسين. على مقربة من بغداد، كانت زيارة مرقد الكاظمين من الشعائر التي كنا نمارسها بانتظام.

في فلسطين، باني المسجد الأقصى هو الخليفة عمر بن الخطاب الذي يلعنه الشيعة لاغتصابه حق علي في الخلافة. أما قبة الصخرة، فبانيها الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان الأموي، والشيعة يلعنون الأمويين قتلة الحسين والعبّاس. في كل أرض فلسطين لا توجد بقعة واحدة ذات قدسية للشيعة. البقاع التي يقدسها الشيعة في المشرق العربي تقع على الخط الذي يربط جنوب العراق بالشام عن طريق الجزيرة شمالا، مرورا ببعلبك ثم دمشق. يعتقد الشيعة أن بعد معركة كربلاء، أخذ الأمويون النساء سبايا إلى بلاط يزيد في دمشق. في بعلبك توفيت خولة ابنة الحسين وفي قرية راوية، قرب دمشق، توفيت زينب أخته. هذان مقامان مقدسان عند الشيعة اليوم. لكن في فلسطين، لم يسبق أن مرّ أي امام أو اخوته، لذا لا قداسة في القدس ولا غيرها، على عكس رأي السنة الذي يرى في القدس "ثاني القبلتين وثالث الحرمين".

هكذا لم تعن لي فلسطين في سنواتي وعيي الأولى، الى أن كانت سني الجامعة التي أخرجتني من معتقداتي المنزلية وفتحت عينيَّ على معتقدات مختلفة اخترت منها الأقل عصبية والأكثر اتساعا للجميع، فتخليت عن عصبيتي الشيعية واستبدلتها بهوية عربية علمانية جامعة. ولم تستهوني العقائد القومية الشوفينية على طراز البعث، فوجدت نفسي في رفقة صحبة من الناصريين والشيوعيين، وهكذا كان. صرت يساريا عربيا، وألصقت صورة جمال عبدالناصر في غرفتي، وهو ما أثار دهشة أهلي لأني تبنيت زعيما سنيا لا يحبه الشيعة كثيرا، بل تمسك شيعة لبنان بمنافسيه كعبد الكريم قاسم في العراق و كميل شمعون "النمر" في لبنان. في باقي أنحاء العالم العربي، كان الشيعة يقتدون بشاه إيران، حليف إسرائيل، ويناكفون بذلك السنة والناصريين وفلسطين. 

لكني تخليت عمّا تربيت عليه، وتبنيت ما اعتقدته أكثر إنصافا وعدلا، ورأيت أن العراقيين مظلومين تحت حصار دولي خلته يستهدف العروبة وصدام البطل المشاغب ضد الإمبريالية الأميركية، وخلت أن القضية الفلسطينية واضحة: دولة فلسطينية اجتاحها نفر من أوروبا وطردوا سكانها وأقاموا دولة بدلا منهم، وأن الحلّ يكمن في عودة الحق لأصحابه.

كنا نجمع تبرعات ونرسلها للعراق المحاصر، ونتظاهر ضد حصار العراق ولفلسطين. ثم زار بيروت وزير صدام طارق عزيز ببذته البعثية وقبعته العسكرية. استضافه العروبي معن بشور في فندق كومودور، وكنت حاضرا. بعد الخطابات عن أطفال العراق وغزة الجيّاع، استل عزيز سيجارا كوبيا فخما وأشعله فيما كانت أفخر أصناف المأكولات على الطاولة. تلك كانت أولى دروسي عن النضال القومي العربي وأكاذيبه.

كانت الأوساط الشيعية في لبنان انقلبت مؤيدة لإيران بسبب أموال "حزب الله"، وكان أنصار الحزب يتضرعون في صلواتهم إلى الله حتى "ينصر الإسلام على الطاغية صدام". استجاب الله وأرسل الولايات المتحدة للإطاحة بطاغية العراق، فسارعت إيران إلى إرسال وزير خارجيتها كمال خرازي ومساعده جواد ظريف إلى بغداد للقاء صدام وإعلان تأييده. في بيروت، طالب زعيم "حزب الله"، حسن نصرالله، بالتوصل إلى "طائف عراقي"، أي تسوية سياسية بين صدام ومعارضيه لوقف حرب الإطاحة به. أما المفارقة اليوم فتكمن في أن إيران تعيّب على مقتدى الصدر تقاربه مع البعثيين (أي السنّة العراقيين).

السياسة لا رب لها، على حسب القول العربي. نفاق وكذب المقاومة والممانعة وكل المحاور المسماة إسلامية ومعادية للإمبريالية كان ثاني دروسي. 

ثم رحت أقرأ عن مفاوضات السلام الفلسطينية الإسرائيلية من مصادر متعددة أميركية وأوروبية وعربية. كلها أجمعت على تهريج ياسر عرفات المتواصل وتقلباته وتنصله من وعوده. كان عرفات يعد إسرائيل بالسلام فيما حماس تواصل تفجيراتها الانتحارية وتقتل إسرائيليين. ثم يذهب عرفات ويقبّل رأس مؤسس حماس أحمد ياسين. لم يعطِ الفلسطينيون السلام مع إسرائيل فرصة يوما، وقاموا بإلقاء اللائمة على إسرائيل. الفلسطينيون يريدون كل الأرض من النهر إلى البحر. قد لا يقولوها في العلن، ولكنهم يرددوها بشكل متواصل في المجالس الخاصة.

بدون سلام فلسطيني إسرائيلي، يستحيل الخروج من دوامة الدماء والحروب العربية والإيرانية المتواصلة، من حروب صدام إلى حروب نصرالله والحوثي ومحور إيران عموما. وبدون نهاية للحروب، لا أمل بعيش كريم، وهو ما تعتبره غالبية الفلسطينيين عدالة: أما العيش الكريم لهم، أو فلتبقى دنيا العرب غارقة في الحروب إلى يوم زوال إسرائيل.

لن أناقش المظلومية أو الأحقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. سأعتبر أن كل ما يقوله الفلسطينيون صحيحا. لكن هذا لا يكفي لإبقاء العرب في بؤس إلى أن يستعيد كل فلسطيني كل قطعة أرض يحمل سند ملكيتها. معظم العرب تعرضوا لمجازر على أيدي عرب (وللفلسطينيين حصة وازنة في قتل عرب آخرين وقتل بعضهم البعض). ومعظم العرب تعرضوا لتطهير عرقي وتهجير وخسروا ممتلكاتهم، ومعظم العرب تعرضوا لذل على الحواجز وفي فروع التحقيق والزنازين. لا شيء يجعل مظلومية أي فلسطيني أكبر شأنا من مظلومية أي عربي آخر، والأسوأ أن الفلسطينيين قلّما يتضامنون مع الضحايا العرب، بل يهللون لصدام وبشار الأسد وقاسم سليماني وكل ديكتاتور أيديه ملطخة بدماء عربية.

خروجي عن "الإجماع" العربي حول فلسطين كان كخروجي عن الإجماع الشيعي العائلي أو أي تصنيفات ولدت عليها ولم أخترها. والمشي في طريق غير "الإجماع" موحشة، فالتفكير الحر ممنوع حول فلسطين، إذ يمكن للعربي أن يكفر بالدين ولا يمكنه الخروج عن "الإجماع" حول فلسطين. أما في بريدي الخاص، فتنهمر علي الرسائل المؤيدة لمواقفي العقلانية حول فلسطين، لكنها تبقى رسائل خاصة إذ يخشى أصحابها غضب "الإجماع"، الذي يرى في كل من يخالفه متحاملا ومتحيّزا ومأجورا إلى باقي أسطوانة القمع والتخوين، الأسطوانة نفسها التي أضاعت إمكانية قيام دولة فلسطين أصلا. 

لكل هذه الأسباب، لم تعد فلسطين تعنيني كما كانت يوما. أتابع أحداثها كمراقب، أعلّق عليها، أؤيد السلام غير المشروط مع إسرائيل، أؤيد بقاء إسرائيل والإفادة من نجاحاتها الباهرة. أؤيد الهزائم لأن طعم الانتصارات أكثر مرارة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق