الثلاثاء، 15 فبراير 2022

يلعنون الاستعمار ويهاجرون إليه

حسين عبدالحسين

تجاوز مجلس النواب العراقي المهلة الدستورية المحددة لانتخاب رئيس للجمهورية في التاسع من الجاري من دون أي عواقب. اختلف ائتلاف الغالبية على المرشح بعد رفض الكتلة الأكبر فيه، التابعة لرجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، الاقتراع لوزير الخارجية السابق الكردي هوشيار زيباري بتهم الفساد. لم تحضر الكتل النيابية فتعذر النصاب وتوقف عمل البرلمان حتى إشعار آخر.

في الأراضي الفلسطينية، انعقد "المجلس المركزي" لـ "منظمة التحرير الفلسطينية" لملء المناصب القيادية الشاغرة بالتعيين. قاطعت كبرى الفصائل اللقاء، فيما كررت حركة حماس حاكمة قطاع غزّة عدم اعترافها بمنظمة التحرير كممثل للشعب الفلسطيني، وتمسكت بالمجلس التشريعي الذي تم انتخابه في 2006، والذي قامت المحكمة الفلسطينية العليا بإعلان انتهاء صلاحياته قبل ثلاثة أعوام.

كان القيادي الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، أمضى عقودا لانتزاع اعتراف العالم بمنظمة التحرير، فأحرق لبنان، وخطف طائرات، واغتال صحافيين، وكان له ذلك في اتفاقية أوسلو مطلع التسعينيات، إذ اعترفت اسرائيل والولايات المتحدة وباقي الدول بالمنظمة كممثلة للشعب الفلسطيني. ثم تأتي اليوم حماس وترفض الاعتراف بشرعية المنظمة.

في لبنان، غالبا ما تنقضي ولاية رئيس الجمهورية ويشغر المنصب، لسنوات أحيانا، فيما يقوم "حزب الله" وحليفه، نبيه بري، بإقفال البرلمان إلى أن تتم الموافقة على مرشحيهم للرئاسة.

في الأشهر الماضية، ولتعطيل القضاء اللبناني الذي قارب الكشف عن الممارسات غير الشرعية للحزب الموالي لإيران في مرفأ بيروت، وهو النشاط الذي قد يكون ساهم في الانفجار الكبير قبل قرابة عامين، منع "حزب الله" انعقاد مجلس الوزراء اللبناني، وعاشت البلاد، المنهارة أصلا، بلا سلطة تنفيذية إلى أن اطمأن الحزب أن القضاء اللبناني لن يصل إلى الحقيقة التي قد تدينه، فاستأنفت الحكومة اجتماعاتها.

الأمثلة الثلاثة أعلاه تشي أن هذه الشعوب العربية غير قادرة على حكم نفسها، وأنها أقامت دولا فاشلة بالكامل.

في مدارس غالبية العرب يتعلم الطلاب أن عصبة الأمم، المنظمة السابقة للأمم المتحدة، اعتقدت أن بعض الشعوب قاصرة عن إدارة نفسها، فقامت بوضع سيادتها في أيدي قوى أوروبية في نظام متعارف عليه باسم الانتداب. اعتبر العرب أن الانتداب هو تسمية جديدة للاستعمار القديم نفسه، وأمضوا سنوات الانتداب وهم يطالبون باستقلال حكوماتهم على أساس حقهم في تقرير مصيرهم. 

وفي مدارس غالبية العرب يحفظ الطلاب قصيدة التونسي، أبي القاسم الشابي، وخصوصا البيتين "إذا الشعب يوماً أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر… ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر".

الموقف العربي صحيح تماما. المساواة بين البشر تعني أن لهم حقوقا متساوية فرادا، ولهم حقوق تقرير المصير جماعات، وأي كلام غير ذلك هو استخفاف بهم وظلم وانتقاص من حقوقهم. تقرير المصير حق، ولكن الحق وحده لا يكفي لبناء دول ناجحة أو إدارتها. هذه هي مشكلة بعض العرب.

في التجارب العراقية والفلسطينية واللبنانية والسورية والمصرية، تؤكد كل الأرقام أن حياة هؤلاء العرب كانت أفضل بما لا يقاس تحت حكم الأوروبيين منها في ظل السيادة الوطنية. 

في الحالة الفلسطينية، مثلا، يتحسن وضع الناس كلّما تخلصوا من عبء الكرامة المرتبطة بتقرير المصير، فنرى أن أحسن وضع للفلسطينيين هم عرب إسرائيل. حتى بين هؤلاء، يتضح أن من قرر منهم الانخراط في الدولة الصهيونية يتمتع بحياة أفضل بكثير ممن يتمسكون بالاعتراض على وجودها. 

بعد عرب إسرائيل، يأتي فلسطينيو الضفة الذين يعيشون تحت حكم السلطة الفلسطينية، وهي التي اعترفت بإسرائيل (وسحبت اعترافها في المؤتمر المركزي الأخير بشكل كاريكاتوري مضحك). وضع فلسطينيي الضفة أفضل بكثير من وضع نظرائهم في قطاع غزة، الذي يحكمه أكثر الحكومات الفلسطينية تطرفا في موضوع الاستقلال والسيادة ومعاداة الاستعمار والمطالبة بتدمير إسرائيل بالكامل، أي حماس.

كان الناس في الماضي يتداولون أقوالا يحثون فيها بعضهم البعض على التحلي بالواقعية بما فيه المصلحة الخاصة وبعدها مصلحة الجماعة، من قبيل "اليد التي لا تقدر عليها قبّلها وادعي عليها بالكسر"، وهي عملانية لا تزال سائدة، مثل في التقلب في التحالفات السياسية والانقلاب على المواقف، كمعاداة إيران وعائلة الأسد وصدام حسين ثم مصادقتهما له، أو انقلاب ميشال عون من عدو "حزب الله" إلى حليفه.

الجسم السياسي في هذه الدول العربية يغرق في الكذب والخداع، ولا يعارض الارتزاق لهذه الدولة أو تلك، وأنصار السياسيين الكذّابين يعرفون ذلك، ويتبدلون في مواقفهم القومية والوطنية حسبما يتبدل أسيادهم السياسيون.

والحال هذه، لماذا يتمسك عرب الدول الفاشلة بمبدأ الاستقلال وتقرير المصير فيما يتخلون عن كل المبادئ البشرية السامية الأخرى؟ وما الفارق في أن يقف زعيم "حزب الله" حسن نصرالله، ويعلن ولاءه لحاكم إيران على خامنئي بدلا من أن يعلن ولاءه لفرنسا، الأم الحنون للبنان وسلطة الانتداب السابقة على لبنان؟ 

الواقع هو أن عرب الدول الفاشلة لم يستقلوا في قراراتهم الوطنية أو مصيرهم يوما. تطالع أي نشرة أخبار في لبنان فترى أن كل المعنيين يربطون مصيرهم، بشكل غير مبرر، بمفاوضات إيران مع الولايات المتحدة. السوريون يفعلون ذلك أيضا، فيما يعتقد الفلسطينيون أن كل تاريخهم تم تقريره في الخارج، منذ وعد بلفور، وكل مستقبلهم من الخارج كذلك، في إيران وأميركا أو أي دولة أخرى.

أما الأسوأ من النفاق في الإصرار على السيادة الوطنية وفي نفس الوقت الارتزاق عند حكومات العالم فيكمن في الرغبة الجامحة للهجرة والانتقال الى دول الاستعمار، التي طردتها نفس الشعوب التي تستميت اليوم للهجرة إليها.

هذا يطرح السؤال: لماذا يستميت أي عراقي أو لبناني أو فلسطيني على الهجرة الى أميركا وتحصيل جواز أميركي وقسم الولاء لعلم أميركا، ولكن إن ضمت أميركا العراق مثلا وحوّلته ولاية أميركية تحت علمها تثور ثائرة هؤلاء العراقيين؟ لماذا لا يطلب العرب من حكومات الاستعمار أن تعود لتحكمهم في بلادهم بدلا من أن تحكمهم في بلادها البعيدة؟ هذا على افتراض أن أميركا والدول الأوروبية ترغب في حكم دول العالم اليوم، وهذا غير صحيح.

أسئلة كثيرة بلا إجابات، وإن توفرت الإجابات تكون عادة على شكل شعارات غبية عن الكرامة الوطنية وتقرير المصير والمزيد من التخلف والبؤس والفقر والاستماتة على الهجرة بعيدا عن الكرامة والسيادة الوطنية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق