الخميس، 28 أبريل 2022

لمن الأقصى؟

حسين عبدالحسين

طالبت لجنة القدس التابعة للجامعة العربية إسرائيل بـ"احترام حقيقة أن المسجد الأقصى والحرم القدسي الشريف.. هو مكان عبادة خالص للمسلمين". هذه الحصرية نفسها طالب بها مدير الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل في الضفة الغربية، الشيخ حفظي أبو سنية، الذي اعترض على إغلاق إسرائيل الحرم في وجه غير اليهود لثلاثة أيام "بحجة ما يسمى عيد الفصح عند الاحتلال"، معتبرا أن الإغلاق "تعديا صارخا على حرمة المسجد واستفزازا صارخا لمشاعر المسلمين وتهويد ما تبقى من أجواء الحرم الإبراهيمي".

ويبدو أن الشيخ أبو سنية غافل أن التقليد الإسلامي يعتبر أن إبراهيم لم يكن عربيا بل كان عبرانيا، وكان من نسله إسماعيل، الذي تعرّب وصار جد العرب المستعربة، وهو جد رسول المسلمين محمد. أما العرب العاربة، فينحدرون من نسل هود، المعروف باسم "عابر" في التوارة. وعابر جد العبرانيين قبل إبراهيم، والمنافسة بين شقي العرب برزت، حسب المؤرخ جواد علي، بعد الهجرة الإسلامية الى المدينة، حيث تباهى عرب يثرب أنهم من العاربة، وأن عروبتهم أقدم وأعرق من عروبة مهاجري مكة المستعربة. 

كما يبدو أن الشيخ أبو سنية غافل أن القرآن نفسه يروي القصة التي يتذكرها اليهود في عيد الفصح، وهي قصة خروجهم من مصر، كما في خطاب الله لبني إسرائيل في سورة البقرة "وإذ فرقنا بكم البحر فأنجينكم وأغرقنا آل فرعون وأنت تنظرون"، وفي الأعراف "وأورثنا القوم الذين كانوا يُستَضعَفون مشرق الأرض ومغاربها التي بركنا فيها وتمت كلمت ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه".

وقصور معرفة الشيخ أبو سنية في التاريخ والقرآن يشمل شريحة واسعة من العرب والمسلمين، التي تبنت تفسيرات غير مقنعة للقرآن لاستخدامه كوثيقة تاريخية لإثبات ملكية فلسطين، وتاليا حق السيادة عليها في وجه أبناء عمومتهم من العبرانيين الإسرائيليين. 

يستند المسلمون في أحقيتهم في القدس إلى الآية الأولى من سورة الإسراء "سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى"، ويعتبرون أن المقصود بـ "عبده" في الآية هو الرسول محمد. لكن الآية التي تليها مباشرة تكمل القول "وآتينا موسى الكتاب وجعلنه هدى لبني إسرائيل". وفي السورة نفسها أجزاء من قصة خروج اليهود من مصر والمعجزة الإلهية التي شقت البحر لعبورهم في رحلتهم.

والفرار من فرعون لا بد أن كان في الليل، وفي اللغة العربية، كلمة إسراء تعني "سير القافلة ليلا"، وهو ما يصف هروب بني إسرائيل من مصر ليلا في قافلة كان يقودها موسى برعاية إلهية أوصلته إلى المسجد الأقصى. وحسب التقليد السامي، يمكن إضافة إسم إيل، أي الإله، الى أي فعل للحصول على اسم ديني، مثل عبد وعبدالله. وإذا ما أضفنا إلى إسراء إيل نحصل على إسرائيل، أي إله الإسراء أو الإله الذي خلّص الإسرائيليين من مطاردة فرعون لهم.

كل هذه الدلائل تستوجب إعادة تفسير كلمة "عبده" في الآية ونسبها إلى موسى بدلا من محمد، وهو ما يتفق مع سياق السورة التي تذكّر بني إسرائيل بفضل الله عليهم وجحودهم بذلك. أما تسمية "حرام"، فتنطبق على أي مساحة مقدسة، فيما تسمية "أقصى" تشير الى أن الموقع الذي تم الوصول إليه كان بعيدا وشكّل نهاية سير القافلة.

هذا في النصوص الدينية. أما في علم الآثار، فلا دلائل حتى الآن على وجود "الهيكل الأول" في أورشليم القدس. لكن الوجود اليهودي دلائله كثيرة في المدينة في زمن "الهيكل الثاني" تحت حكم اليهودي هيرودس، وضخامة البنيان اليهودي تتزامن مع ضخامة مشابهة في عموم المنطقة تعود إلى الفترة نفسها، إن في بترا العربية النبطية في الأردن، أو في تدمر العربية في سوريا، أو في بعلبك العربية الأيطورية في لبنان. كلها معابد ضخمة شيّدها الحكام المحليون وحظي بعضها بدعم من عاصمة الإمبراطورية روما. إلا أن مرور الزمن دمر الكثير من هذه الهياكل، وبقي منها آثار كحائط المبكى اليهودي. 

أما قبة الصخرة، فمقام عربي أموي شيّده خليفة الله (قبل أن يعدّل العباسيون اللقب إلى خليفة رسول الله) عبدالملك بن مروان في العام 690. ومع أن عبدالملك أورد كلمة محمد على نقوده التي صكّها في وقت متأخر من حكمه، إلا أن لا دلائل واضحة من خارج النصوص الإسلامية المتأخرة عن العهد الأموي تثبت أن الأمويين كانوا أسرة إسلامية، بل الأرجح أنهم كانوا طائفة صوفية أقرب إلى المسيحية، وأن بناء مقام قبة الصخرة المثمن الأضلاع — بدون محراب في اتجاه مكة — يشي أنه لم يكن مسجدا بالمعنى الإسلامي. أما الصخرة، فالاحتفاء بها شبيه بالاحتفاء بالحجر الأسود في الكعبة وينحدر من تقاليد صوفية سابقة للإسلام (على الرغم أن البعض يعترض على فرضية أن الصوفية سابقة للإسلام).

كل هذا التاريخ يعني أن هذه المواقع توالت عليها أزمان وحضارات وثقافات حوّلتها إلى تراث بشري، حسب تصنيف مؤسسة أونسكو التابعة للأمم المتحدة. ولأنها تراث بشري، لا ضير من فتح هذه المواقع أمام شعوب العالم على تنوع أديانهم، يصلي فيها كل من يشاء، حسبما يشاء، مع احترام الحيز العام وبدون حصرية لمعتنقي هذا الدين أو ذاك.

أما السيادة على القدس، فموضوع سياسي لا تاريخ ولا دين فيه، ولا يؤثر في حرية العبادة، وهذا قبر الخليفة العباسي المسلم وعزّ العرب هارون الرشيد في إيران، يدوسه الإيرانيون بأرجلهم بعد زيارة مقام الإمام علي الرضا، وهذا معبد البهائيين في حيفا تحت سيادة إسرائيلية، ومقام النبي دانيال اليهودي تحت سيادة إيرانية، فيما كنيسة أنطاكية المارونية تحت سيادة تركية.

أورشليم القدس، التي كان يسميها المسلمون إيلياء، هي لمن يعتني بها ويتشاركها مع باقي البشر. ولا يمكن لها أن تكون سبب حروب ومواجهات وعنف. والقدس تتسع للمؤمنين على تنوع معتقداتهم، أو كما ورد في إنجيل يوحنا أن "في بيت أبي منازل كثيرة". أما السيادة عليها وعلى باقي الأراضي بين النهر والبحر، فسياسة، والسياسة لا دين لها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق