حسين عبدالحسين
قبل ربع قرن، ساهم عضو الكنيست العربي الإسرائيلي عزمي بشارة في تشكيل فكري وآرائي. كان بشارة يرى أن ضعف الفلسطينيين والعرب داخلي، وأن خلاصهم يكمن في إصلاح الذات، وكان ينتقد ظواهر تعكس انحطاطهم. مثلا في أحد كتبه، خصص بشارة فصلا لظاهرة أسماها "دال نقطة"، وهي اللقب الذي يستخدمه الأطباء أو الحائزين على شهادة دكتوراه وانتقد الهوس العربي بها، وقال إنك ترى طبيب أسنان لا يمارس مهنته، بل يفوز برئاسة بلدية أو نادٍ رياضي، ويصر على استخدام "دال نقطة" قبل اسمه في كل مناسبة.
منذ كتبه الأولى زار بشارة حافظ الأسد، رئيس سوريا الراحل، ومن بعده ابنه وخلفه بشار، والتقى قيادات في "حزب الله". تسببت اللقاءات بنفي بشارة من الناصرة إلى الدوحة، حيث يتمتع بموازنة مفتوحة لرعاية مؤسسات أكاديمية وفكرية وثقافية وإعلامية تبث آراءه وأفكاره. لم يعد بشارة ينشر كتبا عربية مطبوعة على ورق أصفر رخيص كما في الماضي، بل صارت كتبه إنكليزية فاخرة مطبوعة في لندن.
في كتابه الصادر الأسبوع الماضي "فلسطين"، استعرض بشارة كل ما يدور في خلده عن القضية الفلسطينية في أكثر من 300 صفحة كدّس فيها المعلومات والآراء، بعضها كررها مرّات، وبعضها وعد بمعالجتها ولم يفعل.
يقول بشارة أن الوعي الوطني لدى الشعب الفلسطيني تكوّن قبل إسرائيل، إلا أن الدلائل التي يسوقها تشي بعكس ذلك. يشير بشارة إلى المؤتمر العربي الثالث في حيفا في 1920 الذي رفع الهوية الفلسطينية عنوانا بعد قضاء الفرنسيين على مملكة فيصل العربية في دمشق، ويضيف، عن حق، أن الفلسطينيين فعلوا ذلك وعينهم على مؤتمر سان ريمو الذي كان قسّم المشرق على شكله الحالي. على أن ما يورده بشارة يعني أن الهوية الفلسطينية كانت ردة فعل على المشروع الأوروبي، لا وليدة تطور تاريخي.
تاريخيا، لا يوجد أي ملك أو أمير أو خليفة أو أسرة حاكمة فلسطينية أو اتخذت من أي بلدة فلسطينية عاصمة أو مقر لها. دمشق مارست السيادة مع الأمويين وبغداد مع العباسيين والقاهرة مع الفاطميين. أما القدس، فلم تكن يوما عاصمة لأي حاكم عربي أو فلسطيني. حتى صلاح الدين الكردي، الذي انتزعها من أيدي الصليبيين، لم يتخذ من القدس عاصمة له، بل كانت عاصمته القاهرة. وصلاح الدين قتل من العرب أكثر مما قتل من الصليبيين، وهو ما يعني أن حروبه كانت للسيطرة لا لطرد الأوروبيين.
الزمن الوحيد الذي كان فيه للقدس سيادة كان زمن الحشمونيين اليهود قبل ألفي عام (بدون الخوض في تاريخية داود وسليمان قبل 300 عام). عدا عن السيادة الحشمونية، لم يمارس أي جزء من فلسطين أي سيادة في أي مرحلة من التاريخ، بل كانت عبر التاريخ محافظات خاضعة لسيادة من الخارج، إلى يوم قيام دولة إسرائيل في 1948.
كما يتجاهل بشارة الأعوام التسعة عشر التي عاشها الفلسطينيون تحت الحكم الأردني في الضفة والمصري في غزة. لو كانت القومية الفلسطينية المحلية، لا العربية العامة، منتشرة بين الفلسطينيين آنذاك، لثاروا على الهاشميين وطالبوا بانفصال الضفة الغربية عنهم وإقامة دولة فلسطينية مستقلة فيها تعمل على السيطرة على أراضي 1948، أي إسرائيل، وفرض سيادة فلسطينية عليها. لكن هذا لم يحصل.
ما حصل فعليا هو أن الرئيس المصري الراحل، جمال عبد الناصر، بعد هزيمته في 1967، حاول إنقاذ ماء الوجه بإعلان حرب استنزاف ودعم الفصائل الفلسطينية لشن حرب عصابات. هكذا تقدمت الهوية الفلسطينية إلى دائرة الضوء.
ولأن مفهوم "الشعب الفلسطيني" حديث وجاء كردة فعل على الانتداب أولا، ثم قيام إسرائيل ثانيا، ينصب الجزء الأكبر من كتاب بشارة على إسرائيل وشيطنتها ومحاولة تثبيت أنها: كولونيالية استعمارية منذ تأسيسها في 1948، ثم "شبيهة بنظام آبارثايد" ضد عرب إسرائيل ابتداء من 1952. وبعد احتلالها الضفة وغزة والقدس الشرقية، صارت إسرائيل كولونيالية استعمارية في هذه الأراضي، وصارت نظامين في دولة.
ويرى بشارة أن المظلومية الفلسطينية أكيدة وواضحة، وأن أي سكوت عربي أو عالمي عليها هو انحلال أخلاقي، ويعتقد أن غالبية العرب تنحاز للفلسطينيين ضد إسرائيل، وأن الأنظمة العربية القمعية تقمع هذا الرأي. على أن القمع السائد في دنيا العرب يجبر الغالبية على الصمت، بمن فيهم العرب المؤيدين للسلام غير المشروط مع إسرائيل، إذ لا يمكن للبناني أن ينظّم حملة دعوة للسلام مع إسرائيل في البقاع أو جنوب لبنان، أو في بغداد أو حتى في عمّان، من دون التعرض لأذى جسدي ونفسي من عرب آخرين (من غير الحكومة). هذا يعني أن الرأي العربي حول إسرائيل مجهول فعليا، و لا تعوّض استطلاعات الرأي التي يقدمها بشارة عن غياب حرية الرأي، لا بسبب الأنظمة فحسب، بل بسبب غياب تقاليد الحرية لدى المجتمعات العربية بشكل عام.
ثم يحاول بشارة، من دون أن يوفّق، إقناع القراء أن السلام المنفرد لدول عربية مع إسرائيل لا يعزز المصالح الوطنية، ويقول إن الإمارات والبحرين تظاهرتا أن السلام مع إسرائيل هو مصلحة قومية مع أن لا حرب قائمة بين أي منهما ضد إسرائيل، وهو ما ينفي الحاجة للسلام. طبعا لا يلاحظ بشارة أن السلام يفتح أمام الإمارات والبحرين أبواب ثالث أكبر اقتصاد في المنطقة بعد السعودية وتركيا، وأن الاقتصاد الأردني أفاد بشكل هائل من السلام مع إسرائيل، تجاريا وصناعيا وسياحيا، وأن مصر تسعى لإفادة مشابهة.
لا يبدو أن بشارة على دراية باقتصادات الدول، بل يعتقد أن السياسة الدولية هي مواقف لا مصالح، وهو ما يشي بأنه لم يتعلم من 70 عاما من الأخطاء الفلسطينية، بل هو يمضي في مهاجمة الدول العربية التي تقبل السلام مع إسرائيل بأي شكل، ويقول إن الحكام العرب يستخدمون هذا السلام للوصول إلى قلب حكام واشنطن، ويعتبر أن السعودية قدمت مبادرة السلام العربية في 2002 لتخفيف الضغط الناجم عليها على أثر هجمات 11 سبتمبر
ويهاجم بشارة الدول العربية في 342 صفحة لا ترد فيها كلمتي قطر أو الدوحة أو أي إشارة إليهما لا من قريب ولا من بعيد، في كتاب يحاضر العرب في كيفية إدارة مواقفهم تجاه القضية الفلسطينية.
على أن في كتاب بشارة لمحات إيجابية. مثلا، هو يرى أن الحركة الإسلامية الفلسطينية غير ديمقراطية، وأن حماس وحزب الله لا تخوضان كفاحا مسلحا، بل مقاومة مسلحة، أي أنهما يتصديان لإسرائيل لكنه تصدي لا يؤثر في مستقبل إسرائيل أو الفلسطينيين. بشارة يعتبر، وهو محق في ذلك، أن مفتاح الخلاص الفلسطيني هو الديمقراطية بين الفلسطينيين لأنه لا يوجد ولا نموذج عربي ديمقراطي واحد يمكن تقديمه للإسرائيليين كدليل على صدق الفلسطينيين في الانخراط معهم في دولة عادلة للجميع.
لكنه على الرغم من دعوته للديمقراطية، لا يلاحظ بشارة أنه يفرض رأيه في الغالب بدونها. مثلا، يرى بشارة أن أفضل حزب عربي إسرائيلي هو حزبه "بلد" الذي يرفض الاندماج في إسرائيل، لكنه لا يلاحظ أن لبلد مقعد واحد في الكنيست فيما لحزب منصور عبّاس أربعة مقاعد، وعبّاس يقول علنا أن إسرائيل دولة اليهود وأن ما يعنيه هو تحسين مستوى حياة عرب إسرائيل، هذا ناهيك عن عرب إسرائيل من المشاركين في الحكومة مثل عيساوي فريج من حزب ميريتس وعرب في أحزاب صهيونية مثل إسرائيل بيتنا والليكود.
هذه المراجعة ليست لانتقاد بشارة أو الانتقاص منه أو من فكره، ولكن لإظهار التناقضات والهفوات الكثيرة التي يقع فيها على الرغم من درايته التامة بإسرائيل وطلاقته بالعبرية. مع ذلك، لا يولي بشارة موضوع السيادة اليهودية، وهي القضية الأهم بالنسبة ليهود إسرائيل، أي اهتمام، إذ لا يبدو أن بشارة يسعى لحلول للمستقبل، بل للثأر من لا عدالة الماضي، والحالة هذه، لما يصرّ بشارة على إبقاء كل الدول العربية غارقة معه في مآسي الماضي، خصوصا الدول العربية المنهمكة في العمل على حاضرها وتحسين مستقبلها؟