حسين عبدالحسين
كتاب شيّق وممتع يقدم سيرة الفيلسوف والسياسي اللبناني شارل مالك وقريبه الفلسطيني اداور سعيد، ومعهما بعض معاصريهما من أمثال السوريين قسطنطين زريق وصادق جلال العظم واللبنانيين كمال الصليبي وفؤاد عجمي. يروي الكتاب دور الولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وعلاقة هؤلاء المثقفين ومواقفهم المتضاربة من القوة الأميركية في المنطقة والعالم.
ولد مالك في 1906 في شمال لبنان لعائلة من الأقلية الكاثوليكية، وتبنى الأفكار التي نشرتها المدارس الإرسالية المسيحية التي تعلّم فيها، لناحية أن العرب كانوا من الشعوب المتأخرة، وأن دور الإرساليات كان تعليمها ونشر الحضارة في صفوفها. والحضارة، في رأي الإرساليات، بدأت مع اليونان والرومان وبعدهم المسيح، وتتضمن العلوم الإنسانية، خصوصا لناحية الفلسفة.
اعتبر مالك أن الولايات المتحدة هي وريثة الحضارات الغربية العريقة، وأن دورها يكمن في مكافحتها الشيوعية السوفياتية ونشر الحرية والديموقراطية في العالم، ووصف العرب المسلمين بـ ”البدو“ من أصحاب ”التاريخ المتقطع“، وقال أنهم يعانون من ”ضعف الحجة والمنطق“، وأن انتاجهم الفكري ”من النوع الخيالي الذي يُعلي الكلمة والقافية“ على المضمون. وقال مالك أن في تفسيرهم للأحداث، يولي العرب المسلمون أهمية ”للسحر والحظ“، مضيفا أن وجود الاصلاحيين والثوريين بينهم نادر وأن ”الكائن العربي (يعيش) خارج التركيبة اليونانية-الرومانية-العبرية-المسيحية الأوروبية“.
حتى لو تجاهلنا عنصرية مالك ضد المسلمين والعرب، يبدو جليا جهله أو تجاهله لوجوه النهضة العربية الذين ثاروا في القرن التاسع عشر ضد التقاليد السائدة، بما في ذلك الدين، من أمثال طه حسين وتوفيق الحكيم ومعروف الرصافي وعبدالرحمن الكواكبي وعشرات من العرب المسلمين غيرهم.
ولكنه على تبنيه للحضارة الغربية، لم يخرج شارل مالك من المذهبية القبلية التي نشأ فيها، فحاول أثناء مشاركته في اعداد وثيقة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إضافة بند يمنح حق الأقليات العرقية والدينية ”معاملة تفضيلية“ من الدولة، على غرار التفضيل الذي ناله المسيحيون في لبنان إبان تأسيسه في العام 1920. هذه التفضيلية تتعارض مع مبدأي الحرية الفردية (ليبرتي بالانكليزية) والمساواة بين المواطنين كأفراد لا كجماعات. ويشكل المبدآن حجر الأساس في الثورتين الأميركية والفرنسية، مع ذلك، يبدو أنهما فاتا المفكّر الراحل مالك.
أما سعيد، وهو من مواليد 1935، فتأثر بمعاداة الإمبريالية التي كانت سائدة أثناء صباه وشبابه، إن معارضة حرب أميركا في فيتنام، أو هزيمة العرب في العام 1967 أمام إسرائيل. سعيد، وهو من المسيحيين البروتستانت، لم ينحدر من أقلية مشرقية صغيرة فحسب، بل هو انحدر من عائلة ثرية ترتبط بعائلات من النخبة الثقافية، فهو كان يحسب مالك في عداد أقاربه، وكذلك عائلات زريق وقرطاس ومقدسي وبدر.
نشأ سعيد في بيت يتحدث الانكليزية، وعاش مع علية القوم في مصر، وأتم دراسته الثانوية والجامعية في الولايات المتحدة، حتى أن والده وديع كان ينوي شراء بيت في مدينة نيويورك أثناء الرحلة التي رافقت فيها عائلة سعيد ابنها إدوارد ابان انتقاله طالبا الى أميركا. لكن سعيد لم يستخدم قدراته الفكرية، حسبما كان متوقعا، لتحديث العالم العربي واصلاحه، بل هو وضع علمه في خدمة معاداة الإمبريالية، الإمبريالية التي حسبها أساس مشاكل العرب.
لم ينشأ سعيد مع العرب، لذا فهو لم يدرك فداحة المشكلة داخل المجتمع العربي، بل اعتقد أن الأمبريالية هي التي منعت النهضة العربية في سبيل سيطرتها على مقدرات العرب، وأن الإمبريالية هي التي أقامت اسرائيل كأداة لخدمة مشروعها. صدّق سعيد ”الخطاب الخشبي“ للقومية العربية. لم يدرك أن أميركا لم تمارس ضغوطا هائلة على اصلاحيين مثل محمد عبده وطه حسين لتجبرهم على التراجع عن كتاباتهم النقدية الثورية الاصلاحية، بل أن الرأي العام الإسلامي المحافظ هو الذي رفض التحديث وأجبر المثقفين على التراجع، وكان ذلك قبل أميركا بعقود.
ولأن سعيد اعتقد أن مشكلة العرب من خارجهم لا من داخلهم، اعتقد أن معالجتها تكمن بتغيير نظرة ورأي الخارج تجاه العرب. هذا الاعتقاد هو الذي أدى الى نظرية سعيد حول الاستشراق، والتي اعتبر فيها أن مشكلة العرب هي نظرية الإرساليات المسيحية (وقريبه مالك) عن ضرورة ادخال العرب في الحضارة.
العظم اتهم سعيد بالتعميم، وبحصر رأي ومعارف الغرب حول العرب بمدرسة واحدة، وبتجاهل بعض الاستشراق الذي قدّم خدمات جليلة للعرب في العلوم الانسانية، خصوصا في علوم التاريخ والآثار واللسانيات والعلوم الاجتماعية. كيف ردّ سعيد على العظم؟ رفض نشر مقالته واتهمه بالعمل لمصلحة نظام السوري حافظ الأسد، الذي كان يعادي زعيم الفلسطينيين ياسر عرفات. لم يقو سعيد على محاججة العظم فقام بالهجوم على شخصه.
والعظم كان ثوريا أكثر من سعيد بأشواط، فهو لم يتوقف عن النقد الذاتي، وهاجم زعيم العروبة المصري عبدالناصر لعدم رعايته الثورة على الموروث، وخصوصا الدين، وهاجم العظم عرفات وغيره من الفصائل الفلسطينية معتبرا ثورتهم شكلية غير جدية. لكن العظم نفسه كان ممن علمتهم تجارب الحياة ضرورة الواقعية، بعيدا عن الشعارات الثورية، وهو في السنين التي سبقت موته تبنى مفهوم التغيير التدريجي، وقال أنه كان يرضى لو سمح النظام الديكتاتوري السوري بهامش من الحرية بمقدار عشرة أو عشرين في المئة، وأن ذلك أفضل من التغيير الفوري الشامل.
سعيد لم يعرف العرب عن كثب فرآهم كتلة واحدة، ولم ير مشاكلهم من الداخل، وأصر على التعالي عن مشاكل الداخل وتأجيلها لمصلحة مواجهة اسرائيل والامبريالية. هكذا، خالف سعيد الاجماع العالمي على الحرب التي أدت الى تحرير الكويت من احتلال العراقي صدام حسين، وحاول سعيد الدفاع عن صدام بالقول أنه صحيح أن صدام طاغية، لكن لا دلائل تثبت استخدامه السلاح الكيماوي، وهو استخدام لم ينفه صدام نفسه بل سعى لتبريره.
كذلك كتب سعيد أن لا دلائل أن لصدام "أطماع أخرى غير الكويت" وأن الحل يكون بالدبلوماسية فقط لأن هدف الحرب هو اضعاف صدام الذي يهدد اسرائيل، وكأن لا بأس من ابتلاع صدام الكويت، بدون غيرها، لأن المشكلة الوحيدة هي اسرائيل، مع أن سعيد نفسه كان يصرّ أن تأييد البشر لفلسطين والفلسطينيين يجب أن يكون مبنيا على موقف أخلاقي حصريا بدون أي اعتبارات استراتيجية أو سياسية. أما في الكويت، فالاخلاق كان عليها أن تنتظر ولا تعرقل استراتيجية تحرير فلسطين.
لأن سعيد كان غريبا عن مشاكل العرب، فهو نظر اليها من منظور الأقليات الأميركية التي تعادي الرجل الأبيض، وقام بربط قضايا العرب بـ ”الجنوب العالمي“، بدلا من ربطها بضرورة نشر المبادئ الغربية كالحرية الفردية والمساواة والديموقراطية بين العرب. والعرب لم تكن لغتهم أو ثقافتهم أو تاريخهم يوما في خطر من الإمبريالية. الطغاة العرب وحدهم من تمسكوا بمعاداة الإمبريالية لابعاد كأس نشر الحرية والديموقراطية عن أنفسهم وعن شعوبهم، وسعيد ساعدهم في ذلك من حيث لا يعلم.
مالك وسعيد عاشا كأقليات ولم يتسن لهما رؤية وفهم مشاكل العرب من الداخل، كما فعل العظم أو عجمي أو غيرهما. رؤية مالك لمشاكل العرب كان مبالغا بها وقاربت العنصرية، فيما لم ير سعيد أي من هذه المشاكل، بل تغاضى عنها وحاول تزيينها وتقذيع من يراها بتهمة الاستشراق الذي كان هو من يعاني منه. علوم ومواقف مالك وسعيد عانت من انعدام الواقعية والنظر الى مشاكل العرب من القصور العاجية التي عاشوا وماتوا فيها.