الثلاثاء، 2 أغسطس 2022

الفلسطينيون بعد محمود عباس

حسين عبدالحسين

في بعض القرى اللبنانية تنتشر صور لرئيس البرلمان نبيه بري مكتوب عليها "يا ويلنا من بعدك يا نبيه". وضع اللبنانيين، بمن فيهم أنصار بري، هو في الويل أصلا. لكن في الضفة الغربية، التي تحكمها السلطة الفلسطينية ورئيسها محمود عبّاس، لم تبدأ بعد عملية الانهيار التي انطلقت في لبنان قبل 3 أعوام. الضفة لا تزال تعيش في زمن الهدوء النسبي الذي يسبق العاصفة، وهي عاصفة من المرجح أن تندلع لسببين: الأول اقتصادي والثاني اقتراب عباس من سن التسعين.

في الشق الاقتصادي، بلغت ديون السلطة الفلسطينية من المصارف المحلية 2,5 مليار دولار، وهو ما دفع المصارف إلى وقف إقراض السلطة حتى تعيد أموالها، وهو ما يعني أن إيداعات الفلسطينيين قد تضيع على غرار ما حصل في لبنان. الاتحاد الأوروبي، بدوره، حاول المساعدة، فقدم 1,4 مليار دولار للاقتصاد الفلسطيني، ولكنه مبلغ ضئيل بالنسبة لحجم الأزمة. هذا من الناحية الاقتصادية.

أما سياسيا وأمنيا، ومع تمنياتنا لعباس بالعمر الطويل، إلا أنه بلغ عامه الثامن والثمانين، وهو ما يعني أنه قد يغادر الفلسطينيين في أية لحظة بدون أن يترك وراءه مؤسسات قادرة على اختيار خليفة أو إدارة السلطة بعده.

حتى قبل موت عباس، بدت السلطة وكأنها دخلت مرحلة احتضار في رحلتها إلى التلاشي، على طراز نظيراتها اللبنانية والعراقية والسودانية. في جنين ونابلس شمال الضفة الغربية، تراجعت قدرة السلطة وأجهزتها الأمنية على فرض القانون والنظام، فتمددت الميليشيات المعارضة. وكان تشييع القيادي في حماس وصفي قبها أظهر حشدا كبيرا لمقاتلي حماس والجهاد الإسلامي، وهو ما أثار غضب عباس ودفعه لإقالة كل مسؤولي أجهزة السلطة الأمنيين المكلفين المنطقة الشمالية. 

خطوة عباس لم تؤد إلى أي تغييرات على أرض الواقع، فدفع ضعف السلطة إسرائيل إلى زيادة نشاطاتها لضبط الوضع في جنين واعتقال المخلين بالأمن. وفي إحدى المواجهات التي خاضها الجيش الإسرائيلي في مخيم جنين، سارعت مراسلة الجزيرة شيرين أبو عاقلة لتغطية عملية تبادل إطلاق النار بين الإسرائيليين وفلسطينيين، ما أدى إلى مقتلها أثناء قيامها بواجبها الإعلامي.

أما جنوب الضفة الغربية فليس أفضل حالا من شمالها، فالأمور في الخليل، أكبر المدن الفلسطينية التي يبلغ عدد سكانها 800 ألف نسمة، لا حكم للقانون، ويعاني السكان من انفلات الأمن، وبلطجة المسلحين في الشوارع، والاشتباكات المتكررة بين مقاتلي العشائر. وفي غياب القانون في الخليل، صار الناس يلجؤون إلى "القانون العشائري" لوقف الثأر بين المتحاربين. 

عباس لا يزال حيا والاقتصاد الفلسطيني يقارب الانهيار التام والأمن غير مستقر. أما السبب الأرجح فلا يرتبط بإسرائيل إذ يمكن المقارنة بما كانت الأوضاع عليه في زمن كان سلام فياض في رئاسة الحكومة. في زمن فياض، كانت إسرائيل كما هي اليوم، لكن الأمن كان مستتبا والاقتصاد ينمو. أما الآن، فالانهيار سببه في الغالب ضعف عباس وسلطته، التي قاربت التلاشي، وانعدام قدرة الفلسطينيين على إقامة مؤسسات حكم ذاتي غير الشخصيات الأمنية التي تتناحر على حكمهم والاستيلاء على مواردهم، على طراز اللبنانيين والعراقيين وعرب آخرين.

عباس كان تذرع بأن إسرائيل لم تسمح باقتراع الفلسطينيين في القدس الشرقية، فنسف انتخابات المجلس التشريعي والرئاسة، التي كان سيخسرها حتما، واستعاض عن الانتخابات بسلسلة تعيينات في "منظمة التحرير" وضع بموجبها المدعو حسين الشيخ في موقع خليفة له بعد رحيله.

لكن الشيخ لا بلطجية لديه، مع أن تقارير تشير إلى سعيه الى تسليح أزلام يعينونه على الامساك بالسلطة بعد عباس. 

وكان شقيق الشيخ تعرض إلى عملية قتل بسبب خلاف مروري في الشارع، لكن الألسنة الفلسطينية تناقلت إشاعات مفادها أن مقتل شقيق الشيخ كان مدبرا، وأنه كان رسالة للأخير للتخلي عن طموحاته في خلافة عباس. ويعتقد مراقبون أنه يمكن للمنافسين اغتيال الشيخ نفسه في حال لم يذعن لمطالبهم ويتنحى بعد موت عباس. 

من يخلف عباس ان لم يكن الشيخ؟ الإجابة الأكثر واقعية هي اندلاع حرب أهلية في الضفة الغربية يكون أبطالها أركان المؤسسات الأمنية من أمثال توفيق الطيراوي وجبريل رجوب وعبدالقادر التعمري وغيرهم. والأرجح أن يتعذر الحسم بين فصائل السلطة الأمنية، وأن تنفلت الأمور من بين أيديهم في جنين ونابلس والخليل، وهو ما يسمح لحماس والجهاد الإسلامي بالظهور وإثبات الحضور والسيطرة على مخيمات أو مناطق أو أحياء أو بلدات، ثم انخراط حماس والجهاد في الحرب الأهلية الفلسطينية المتوقعة، وقد يؤدي لانتصار حماس وسيطرتها على الضفة كما غزة، وهو سيناريو قد يدفع الإسرائيليين إلى حرب شاملة لمحاولة استباق سيطرة حماس ومنعها من ذلك. 

وحرب من هذا النوع تقلق الإسرائيليين لأنها قد تؤدي إلى وقوع إصابات في صفوفهم، وتفرض تورطهم أكثر فأكثر في الضفة وشؤون الفلسطينيين، وهو ما يؤدي إلى تأجيج مناطق فلسطينية ملتهبة أصلا. 

لا قدرة لعدد كبير من الشعوب العربية، كالفلسطينيين والسوريين والعراقيين واللبنانيين، على إقامة دول وحكومات وإدارتها وحكمها وتداول السلطة فيها. هذه الشعوب لاتزال قاصرة، وهي تعزو قصورها دائما إلى أسباب خارجية: إما الامبريالية أو إسرائيل أو من يسمونهم العملاء العرب، وكل هذه أعذار أقبح من الذنوب. 

هذا الخطاب العربي الذي يتنصل من مسؤولية بناء الدول وإدارتها وإلقاء اللائمة على الغريب هو في أساس فشل هذه الشعوب العربية في إقامة دول قابلة للحياة، وهو خطاب لا يبدو أنه في طريقه للتبدل في المستقبل القريب، ما يعني أن لا بصيص أمل، ولا مستقبل، فقط شقاء وفقر والمزيد من الحروب والدماء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق