الثلاثاء، 9 أغسطس 2022

شعوب عربية قاصرة عن تقرير مصيرها

حسين عبدالحسين

بعد مئة عام بالتمام على إقرار ”عصبة الأمم“ المادة 22 من ميثاقها، والتي نصّبت بموجبها ”الدول المتقدمة“ كسلطات ”انتداب بالنيابة عن العصبة“، وكلفتها بتحقيق ”رفاهية وتقدم لبعض الشعوب“، ما تزال هذه الشعوب، منها ”بعض الجماعات التي كانت تابعة للإمبراطورية التركية“، قاصرة عن حكم نفسها وغير ”قادرة على الوقوف وحدها“، بل أن الدول التي أقامتها سلطات الانتداب لهذه الشعوب تلاشت، وتحولت الى أراض لا قانون فيها، تعيش فيها قبائل متناحرة وفق شريعة الغاب، حيث الحكم للأقوى. 

تقرير المصير حق تكفله الشرائع الدولية، لكنه ليس ضمانة أن الشعوب تعرف كيف تحكم نفسها متى نالت استقلالها، والعراق وسوريا ولبنان والأراضي الفلسطينية مثال واضح، لا على قصور هذه الشعوب عن حكم نفسها فحسب، بل على عدم إدراكها أنها تعاني من هذا القصور، وقيامها بإلقاء اللائمة في مصائبها على الآخرين، من الغرب الإمبريالي و“عملاء الداخل“ إلى إسرائيل والماسونية. 

الدولة العراقية اندثرت منذ الانقلاب الذي أطاح بحكم الأسرة الهاشمية في العام 1958 إذ هي لم تعد دولة قائمة على المؤسسات، يناقش فيها البرلمان المنتخب شؤون إدارتها وتنمية اقتصادها، وتحولت إلى أجهزة عسكرية واستخباراتية تحكم بالحديد والنار، وتدير ماكينة دعاية إعلامية، وتسعى لتشتيت انتباه قصورها بشتم الاستعمار وسايكس بيكو وإسرائيل. ومع تضخم عائدات النفط، استخدم صدام حسين الأموال لتمويل جنونه العالمي والإقليمي، ولبناء جيش جرار اجتاح به الكويت، ثم انهار، وعاش العراق تحت حصار ومجاعة.

ولأن البعض اعتقد أن صدام هو مشكلة العراق، لم تؤثر الإطاحة به كثيرا، إذ أن العراقيين الذين خلفوه في السلطة لم يختلفوا عنه في جهلهم فلسفة الحكم، ومعنى الدولة، وأهمية القانون فيها، وكيفية عمل المؤسسات. ومع أن الأمم المتحدة وأميركا تركت للعراقيين دستورا، ركيكا وإنما لا بأس به، وقانون انتخابات نسبي عصري جعل من العراق دائرة واحدة، إلا أن نيل العراقيين استقلالهم من أميركا في العام 2011 سمح للحكام الجدد بقيادة البلاد نحو الهاوية مجددا، فأدار رئيس الحكومة السابق نوري المالكي — والذي تحول إلى كابوس يطارد العراق حتى اليوم — شبكة من الفساد والمحسوبية القبلية، فدمر الجيش، الذي انهار في ساعات إمام ميليشيا داعش في الموصل في 2014، وعبث بالقانون الانتخابي، ووضع المصرف المركزي في خدمة نظام إيران، وذاع صيت ابنه أحمد كأحد أثرى أثرياء بغداد، فيما المالكي أمضى سني نفيه خارج العراق يبيع مسابح أمام مقام السيدة زينب في دمشق.

ولم يكن المالكي وحيدا في فساده أو ارتزاقه لدى إيران، ولم يكن وحيدا في جهله شؤون الحكم، بل أن أبرز معارضيه، مقتدى الصدر، ثبت أنه يعاني من نفس المشاكل، فالصدر لا يفهم معنى الحريات الفردية ولا المؤسسات، بل هو يخال العراق قبائل، وأن وحدة القبائل وتبنيها رأي واحد هو الوطنية. 

وبسبب ضحالته الفكرية وانعدام خبرته السياسية، برز الصدر كأكثر زعيم عراقي شعبوي يحب الأضواء وإثارة الضوضاء، غالبا بقيامه باتخاذ خطوات مفاجئة وضخمة، ففي يوم يشكل ميليشيا جيش المهدي، وفي اليوم التالي يحلّها وينقلب على الميليشيات، ثم يرسل بلطجيته لممارسة العنف ضد متظاهري ثورة تشرين، ثم يتحالف مع الثوار، ثم يفوز بأكبر كتلة نيابية، لكنه يأمر كتلته بالاستقالة، فيفتح الباب أمام أزلام إيران الخاسرين للفوز بمقاعد الكتلة الصدرية، وهي خطوة يبدو أن مقتدى ندم على القيام بها، فأرسل مناصريه لتعطيل الدولة برمتها باحتلالهم مبنى البرلمان. 

ثم أطل الصدر على العراقيين بمطالب معقولة، وإن لا يمكن معرفة متى ينقلب ضدها. أما مطالب الصدر، فتتضمن حل البرلمان، وإجراء انتخابات، وتراجع المحكمة العليا عن قرارها غير الدستوري، والذي حوّل حكم الغالبية البسيطة إلى حكم غالبية الثلثين، وهو ما يناقض فسلفة الحكم الديموقراطي لأن الحكم يكون بالغالبية البسيطة وتعديل الدستور بالثلثين.

ومثل في العراق، كذلك في لبنان، الذي كان استقلاله أفضل حالا حتى العام 1969، يوم قرر المصري جمال عبدالناصر التعويض عن هزيمته أمام إسرائيل بإطلاقه حرب العصابات الفلسطينية ضدها، وتم اختيار لبنان كمركز للميليشيات الفلسطينية، ما قوّض سيادة دولة لبنان واقتصادها حتى اليوم مع رفض ”حزب الله“، آخر الميليشيات المتبقية، التخلي عن حكمه لبنان بقوة سلاحه.

ومثل الصدر في العراق، يعاني زعيم ”حزب الله“ حسن نصرالله من ضحالة هائلة في علومه السياسية والاقتصادية، فلا هو يفهم فلسفة الدول ولا الليبرالية ولا الديموقراطية، ولا هو يؤمن بحكم القانون المدني والقضاء، بل يعيش نصرالله في العصور الوسطى حيث الرأي هو دائما رأي القبيلة لا الفرد، وحيث الوطن يعني إجماع القبائل، أو فرض القوي رأيه عليها وباسمها، وحيث العدالة هي القضاء العشائري أو الاسلامي. 

أما الطامة الكبرى فهي أن نصرالله لا يفهم ارتباط السياستين الخارجية والدفاعية بشؤون الداخل والاقتصاد، ويعتقد أنه يمكن الفصل بينهما وتسليم شؤون الداخل لمؤيديه من زعماء الطوائف واحتكاره شؤون الخارج. لا يعرف نصرالله أن السياستين الخارجية والدفاعية — ومعهما الأرض — هي أدوات في خدمة الاقتصاد ورفاه المواطنين، وأن الشعوب تستميت من أجل مصالحها، ولا تموت في سبيل حماية مشاعرها وعواطفها المسماة كرامة وعنفوان.

فلسطين مثل العراق ولبنان: شعب لا يعرف كيف يحكم نفسه أو يدير شؤونه أو يتصرف بين الأمم. اتفقت القيادة الفلسطينية مع اسرائيل على سلام مقابل أجزاء من الأرض وسيادة على مراحل. منذ العام 1993، كلّما التزم الاسرائيليون مرحلة من الاتفاق، قامت حماس بقتل إسرائيليين هنا أو هناك وأظهرت أن لا سلطة للسلطة الفلسطينية، ففشلت عملية السلام وتحولت السلطة الفلسطينية إلى شرطي محلي يغرق في الفساد أكثر منه في إقامة مؤسسات فلسطينية تضمن استمرار الدولة بعد موت الزعيم.

الحكم الذاتي الفلسطيني بقي بدائيا وبحاجة إلى تطوير كبير في مساحات واسعة لا ترتبط بالسيادة. مثلا، قضاء السلطة الفلسطينية متهالك لا قيمة له، ويلجأ الناس غالبا إلى القضاء العشائري المتخلّف. أما الانتخابات الفلسطينية، فهي لم تجر منذ العام 2006. الاقتصاد الفلسطيني كذلك يعاني من شعبوية الحكام وشعارات مقاطعة إسرائيل. كان يمكن للفلسطينيين في الضفة وغزة دعوة العرب إلى السياحة والاستثمار عندهم، بالاتفاق مع إسرائيل، لكن الهوس بالمقاطعة والانتقام من إسرائيل والسعي لتدميرها واستعادة كل الأرض التي تقوم عليها، كلها عوامل حرمت الفلسطينيين فرصة بناء اقتصاد معرفة وخدمات لإقناع العالم أن للفلسطينيين قدرة على تسلم سيادة وإدارة دولة.

الشعوب العربية التي كانت خاضعة لانتداب كانت مهمته إعدادها لتحكم نفسها أثبتت أنها لم تكن قادرة على حكم نفسها قبل الانتداب، ولا بعده. هي شعوب تنعدم لديها الثقافة المطلوبة لبناء دول حديثة، وفي طليعتها انتشار مبادئ الحرية الفردية والديموقراطية بين الناس قبل الحكام، لأن الحكام ليسوا استثناء، بل هم انعكاس لناسهم والثقافة السائدة. لا مؤسسة، ولا نادي، ولا منظمة واحدة في هذه الدول العربية يمكن الإشارة إليها كقصة نجاح ونموذج يحتذى في الحكم. 

أما السؤال فهو: كيف تتسلم السيادة والحكم شعوب لا يمكنها أن تقدم نموذجا واحدا عصريا وناجحا في الحياة العامة؟ هي شعوب قاصرة، ولسوء حظها لم تعد ”الدول المتقدمة“ مهتمة بانتداب أو وصاية، بل أن هذه الدول العربية تستجدي الغرب ليسعفها في قرض لشراء القمح من هنا أو تدخل من هناك، وعندما يتدخل الغرب، تثور ثائرة هذه الشعوب العربية عليه، وتقتله بدلا من أن تشكره. هي مشكلة عربية فادحة تبدو حلولها معدومة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق