الثلاثاء، 25 أكتوبر 2022

الديمقراطيون وكارثة سياستهم الخارجية

حسين عبدالحسين

أنا عضو في الحزب الديمقراطي، أقترع لمرشحيه، أتبرع لهم، أساندهم. لا تستهويني عقيدة الحزب الجمهوري التي تلوم المحتاجين على حاجتهم وتتهمهم بالكسل، بل تعجبني السياسات التي تدعم التعليم المجاني، والاستشفاء المجاني، ومساعدة الأقل دخلا والمتقاعدين. كذلك أؤيد الحريات للجميع، ملحدين أو مثليين أو غيرهم، ممن يشبهوني أو لا يشبهوني في التفكير والمعتقد وأسلوب الحياة. هذه الأفكار تشكل أساس الحزب الديمقراطي، الذي يتظاهر بتفوقه أخلاقيا على نظيره الجمهوري. ثم تأتي السياسة الخارجية للديمقراطيين لتكشف أن سياسات الحزب الديمقراطي لا تعدو كونها شعارات شعبوية هدفها حصد الأصوات، وأن الديمقراطيين يغرقون في تناقضات لا قعر لها.

لنأخذ مثلا الحملة التي شنها على السعودية المشرعون الديمقراطيون من أمثال السناتور بيرني ساندرز، ورئيس حملته الرئاسية سابقا وعضو الكونغرس اليوم رو خانا، ومعهم باقة من المشرعين الديمقراطيين الذين يصفون أنفسهم بالتقدميين. ثارت ثائرة ساندرز وصحبه بعد قرار مجموعة أوبك تخفيض انتاجها بواقع مليوني برميل نفط يوميا، واتهم هؤلاء الديمقراطيون السعودية بمحاولة التأثير بنتائج الانتخابات النصفية المقررة في الثامن من الشهر المقبل، وذلك برفع سعر البنزين للمستهلكين الأميركيين لإحراج رئيس البلاد، الديمقراطي جو بايدن. كما اتهم ساندرز وخانا الرياض بقيامها بخطوة رفع أسعار النفط لمساعدة روسيا، التي تعاني من تهالك اقتصادها بسبب حربها على أوكرانيا، وقالا إن السعودية تنحاز لموسكو ضد كييف.

أفكار ساندرز تعج بالتناقضات وتنم عن انحياز مسبق ضد السعودية، فالسناتور الديمقراطي يعلن نفسه مدافعا عن البيئة، وتاليا عدوا للطاقة التقليدية ونصيرا للطاقة المتجددة. هذا يعني أن خفض السعودية وأوبك انتاجهما من النفط هو في مصلحة البيئة والكوكب، ويحد من الاحتباس الحراري. ثم أن ارتفاع سعر الطاقة يدفع السوق للبحث عن طاقة بديلة، مثل المتجددة التي يطالب بها ساندرز. لكن السناتور الديمقراطي وجماعته انقلبوا على كل مواقفهم البيئية في سبيل شن هجوم ضد السعودية.

في الوقت نفسه، لا يعترض ساندرز وخانا وصحبهما من الديمقراطيين على المسيرات المفخخة والصواريخ الباليستية الإيرانية الصنع التي تدفقت من طهران إلى موسكو وعاثت دمارا في عموم أوكرانيا، بل يطالبان برفع أميركا عقوباتها عن طهران، مع أو بدون اتفاقية نووية، لأن العقوبات "تؤذي الإيرانيين ولا تؤثر في النظام"، حسب الحكمة التي يقدمها هؤلاء الديمقراطيون. هكذا أطل ساندرز عبر شبكة "أم أس أن بي سي" على برنامج مهدي حسن، خرّيج الجزيرة القطرية، ليشن السناتور الأميركي حملة ضد السعودية ويتهمها بأن وضع المرأة فيها هو الأسوأ في العالم، وكأن النساء الإيرانيات المنتفضات ضد نظام المرشد الإيراني بسبب فرض الحجاب عليهن يعشن في السعودية، أو كأن السعودية، لا إيران، هي التي تزوّد روسيا بالدرونات لقتل الأوكرانيين.

وهكذا دواليك، يمضي الديمقراطيون أيامهم في تقديم سياسة خارجية، ليست غبية فحسب، وإنما خبيثة، وتناصر أعتى الديكتاتوريات المعادية لأميركا، في إيران وكوبا وفنزويلا، وتدعو لتخلي أميركا عن معظم حلفائها، إن الأوتوقراطيات منها كالسعودية أو الديموقراطيات مثل إسرائيل.

والسياسة الخارجية للبيت الأبيض، الذي يشغله الديمقراطيون، مزيج من الغباء والعقائدية. أولا، يعتقد الديمقراطيون أن الشر الأكبر الذي ظهر في تاريخ البشرية هو الرجل الأبيض الأوروبي الكولونيالي، الذي دمّر الشعوب واستولى على مقدرتها، وأن العالم سيكون مكانا سالما متناسقا إن هم نجحوا في عكس الكولونيالية وكل نتائجها. وهؤلاء الديمقراطيون هم في الغالب أنفسهم من البيض، ولكنهم يعتقدون أنهم يتفوقون على أقرانهم البيض الآخرين لأنهم جالوا دول العالم وتلقفوا ثقافاتها، فاتسعت آفاقهم ونبذوا تراثهم الأبيض.

في الواقع، اقتصرت الثقافة العالمية لهؤلاء البيض على معرفة سطحية بحضارات العالم وشؤونه، مثلا أتقنوا الفرنسية أو لغات أخرى، واعتبروا أنهم صاروا عارفين، لكنهم حتى أثناء إقامتهم خارج أميركا، عاشوا في قصور عاجية، فهم لم يعيشوا يوما في عوز أو فاقة، ولا في حرب، بل أقاموا حول العالم معززين مكرمين، يحملون جوازات أميركية تأخذهم حيثما يشاؤون، وينفقون أموالا من الثراء الأميركي اللامتناهي. حتى في السنوات التي قضوها في دول العالم، كانوا يتمتعون بحماية القوة الأميركية، ويعاملهم الناس كأميركيين.

لم يعش وزير الخارجية أنتوني بلينكن مواطنا تحت حكم طغاة مثل صدام حسين وحافظ وبشار الأسد وعلي خامنئي، ولا هو تجوّل يوما في مطارات العالم بجواز سفر لا قيمة له صادر عن هذه الأنظمة الفاشلة، ولم يعانِ مسؤول ملف إيران روبرت مالي من العيش في حرب أهلية، أو في خوف من اغتيالات الأنظمة التي يسعى لمصادقتها، إن إيران أو حماس أو غيرها. جلّ ما يردده بلينكن ومالي - وقبلهما جون كيري ووندي شيرمان - أن كل ما نحتاجه هو الاستماع الى أنظمة إيران وسوريا وغيرها لنعرف ما الذي تريده فنصل لتسوية معها. ألا يعرفون ما الذي يريده الأسد؟ يريد البقاء في السلطة ولو على جثث كل السوريين وأنقاض كل مدنهم وقراهم. ما الذي تريده إيران؟ بقاء حكم خامنئي وتوريثه لابنه وإعادة إقامة إمبراطورية متخيلة تكون ندا للغرب كما في ماضي الزمان.

العرب والإيرانيون يعرفون بالضبط ما الذي تريده أنظمة الطغيان. الأميركيون الديمقراطيون "التقدميون" وحدهم لا يعرفون ما الذي تريده هذه الأنظمة ويخالون أن مشكلة العالم هي أميركا، لا تخلّف العالم عن الالتحاق بمنظومة الليبرالية، ثم الديموقراطية، كما فعل الغرب، ويرون أن الحل يقضي بانكفاء العالم والغرب، ووضع إشارة X على جواز سفر الأميركيين المثليين، وكأن كل ما ينقص المثليين هو إعلان هويتهم الجنسية المرفوضة لدى معظم حكومات العالم غير الغربية، وهو ما قد يجعلهم أهدافا سهلة ويعرضهم لأعمال عنف.

هكذا هي السياسة الخارجية للحزب الديموقراطي، شعبوية ومزيج من الخبث والانحياز لإيران أو غيرها ضد حلفاء أميركا مع بعض الغباء الذي يعتقد أن مشكلة العالم هي سطوة الرجل الأبيض بدلا من أن يرى أن هذه السطوة هي الحاجز الأخير بين العالم القائم اليوم وعالم مغاير على شاكلة خامنئي ورئيس روسيا فلاديمير بوتين و"تصديهما للامبريالية" الذي حوّل سوريا واليمن وأوكرانيا إلى جبال من الركام، والذي يهدد بتحويل الكوكب بأكمله الى هذا الشكل البربري.

الثلاثاء، 18 أكتوبر 2022

التطبيع الإلهي

حسين عبدالحسين

ممتازة هي السياسية الخارجية التي قدمها زعيم حزب الله، حسن نصرالله، في الخطابات الثلاثة التي أدلى بها قبل توصل لبنان لاتفاقية ترسيم حدود بحرية مع إسرائيل.

بلغة غير متخصصة عكست نباهة فطرية وضحالة فكرية، وصف نصرالله موقفه العملاني الواقعي المعاكس لعقيدته بقوله "نريد أن نأكل عنبا"، وهي عبارة عامية تعني أننا "نبحث عن مصالحنا". وعلى عكس غالبية اللبنانيين، خصوصا من القادة والسياسيين، قدم نصرالله فهما للمصالح الدولية أظهر أنه في قرارة نفسه يدرك أن لا أميركا ولا إيران ولا أوروبا ولا الصين يعنيها الانهيار اللبناني، ولن تأتي أيٌّ منها لنجدته وإخراجه من حفرته.

نصرالله حاول تصوير المفاوضات التي أمر بها مع إسرائيل على أنها عملية تقوم بها دولة لبنان، لا حزبه، مع أن العالم كله يعرف أن قصر الرئاسة اللبنانية في بعبدا، فيما رئيس لبنان الفعلي في حارة حريك، حيث مقر الأمانة العامة لـ "حزب الله".

كل كلمة وفاصلة في الاتفاقية مع إسرائيل كان مصدرها نصرالله. أما رئيس لبنان، ميشال عون، وباقي السياسيين، فناطقون باسم الحزب اللبناني، يرضون غرورهم بالأضواء والكاميرات، ولا يزعجهم كونهم مسؤولين شكليين .

نصرالله حاول تصوير إسرائيل وكأنها قدمت تنازلات للبنان بسبب رعبها من القوة العسكرية لحزبه. أما المفارقة، فتجلّت في مانشيت صحيفة مقرّبة من "حزب الله" جاء على الشكل التالي: "الاتفاق (مع إسرائيل) وإلا…" الحرب.

لم تتنبه ماكينة دعاية "حزب الله" أنها فجأة صارت تنادي بالمفاوضات والاتفاق مع إسرائيل، وهي فكرة تناهض الفكر الخشبي الثوري الإسلاموي الشيوعي للنظام الإيراني والميليشيات التابعة له مثل "حزب الله"، التي تعتبر أن السبيل الوحيد للتعامل مع إسرائيل هو العنف المسمى ”مقاومة“.

ثم في محاولة أخيرة لحفظ ماء الوجه، قال نصرالله، في خطابه الأخير، عشية الاعلان عن التوصل للاتفاقية بين لبنان وإسرائيل، أنه يعتقد أن حدود لبنان البحرية تصل غزة، لكن في الوقت الحالي، ولأن العالم يتضور من الجوع ومعه لبنان، فلا ضير من التوصل لترتيب تسمح بموجبه إسرائيل لشركة توتال الفرنسية بالتنقيب عن الغاز في حقل قانا، الواقع على الحدود البحرية المتنازع عليها بين البلدين.

كما لا ضير في أن تتولى الولايات المتحدة، صاحبة "سفارة عوكر" المهووسة في "تمويل عملاء لبنانيين" ضد الحزب "لتقويض المقاومة" حسب نصرالله، في إدارة عملية وساطة أفضت لمنح لبنان كل المساحة البحرية التي كان متنازعا عليها مع إسرائيل.

وبعد لقاءات عقدها مسؤولو وزارة الطاقة الاسرائيلية في باريس مع شركة توتال، أعلن الإسرائيليون أنهم سيتسلمون 17 في المئة من عائدات حقل قانا في حال تم اكتشاف وإنتاج وبيع الغاز.

لم يمانع "حزب الله" مبلغ النصف مليار دولار التي ستتسلمها إسرائيل من عائدات حقل قانا، لكنه طالب أن يتم تصوير هذه الأموال وكأنها تخرج من جيب توتال لا من حصة لبنان، وهذا تلاعب شكلي يهدف إلى نفي واقع الشراكة في حقل قانا بين لبنان "حزب الله" وإسرائيل.

في أدبيات جبهة الممانعة والمقاطعة ونظام إيران الإسلامي وحزب الله، الأموال التي سوف تتتسلمها إسرائيل هي أموال الفلسطينيين، وهو ما يعني أن "حزب الله" وافق على استيلاء إسرائيل على ما هو فلسطيني. لكن الضرورات تبيح المحظورات، ولا يمكن للجوع اللبناني أن ينتظر تحرير فلسطين، بل هو يملي مهادنة إسرائيل والتوصل لتفاهمات معها.

هذه السطور لا تهدف إلى تخوين "حزب الله" بسبب الشراكة التي توصل إليها مع إسرائيل حول حقل قانا، بل هي تهدف إلى إقناع نصرالله وجماعة الممانعة أن مساومتهم، التي أدت لتسوية مع إسرائيل تخدم مصلحة لبنان، وأنها السياسة الأفضل التي يجب على إيران الإسلامية وحزب الله والممانعة عموما تبنيها.

طبعا نحن نعرف أن نصرالله، كأحزاب الإسلام السياسي، لا يمانع بعض الخديعة خدمةً للهدف الأكبر، مثل عرض حماس لهدنة مع إسرائيل مقابل موافقة الإسرائيليين على إقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة. ثم بعدما تتمكن حماس، تقضي على إسرائيل.

وهكذا ترى إيران أنه يمكن لوزير خارجيتها السابق مصافحة يد نظيره الأميركي جون كيري، مقابل حصول طهران على عائدات النفط. أميركا أوباما كانت تسعى لتكون الاتفاقية النووية مع إيران فاتحة خير لتطبيع العلاقات، فيما طهران كانت تراها نهاية المطاف، ووسيلة لحصول إيران على أموال أكثر للانغماس في حروب أوسع، ضد العرب أولا وبعدهم أميركا وإسرائيل.

وهكذا نصرالله، يريد تثبيت وضع لبنان الاقتصادي، لا لحبه باللبنانيين، بل لأن مغامرات المقاومة متعذرة فيما يقتات اللبنانيون من جبال القمامة المتراكمة عبر الأراضي اللبنانية. بكلام آخر، نصرالله وافق على تطبيع بحري لاستئناف حروبه البرية لاحقا، غالبا لقمع السوريين والعراقيين واليمنيين والإيرانيين الثائرين على نظامهم الإسلاموي الدموي.

لكننا سنحسن الظن بنصرالله ونعتبر أنه تعقّل وأدرك أن الناس "بدها تاكل عنب"، وهو ما يقتضي إنهاء الحروب بالكامل، لا مؤقتا فحسب وكأنه يسعى لإطعام اللبنانيين وتسمينهم تمهيدا لذبحهم في آتون الحروب الإيرانية المتوالية منذ 1979. أما تطبيع نصرالله البحري مع إسرائيل، فأظهر أن السلام في مصلحة اللبنانيين، وعموم العرب، أكثر بكثير من المقاومة وحروبها.

ثم أن القضية الفلسطينية بأكملها تشبه حقل قانا للغاز، ويمكن التوصل إلى شتى أنواع التفاهمات العربية مع إسرائيل التي تؤدي إلى تحسين معيشة الفلسطينيين واللبنانيين، مقابل تخليهم عن مطلب إقامة دولة فلسطينية بدلا من إسرائيل، هذا إن كان العرب "يريدون أن يأكلوا عنبا"، حسب تعبير نصرالله.

عندما يطالب أي لبناني بالتوصل لتفاهمات واتفاقيات مع إسرائيل، يثور محور الممانعة ويصف المطالبين بالسلام بـ "الانهزاميين" و"العملاء" و"المنحطين المرتزقة" التابعين للسفارات. أما أن يقول نصرالله نفسه: "نريد أن نأكل عنبا" ولتنتظر فلسطين وقضيتها، فالتطبيع الإلهي لا غبار عليه.

الثلاثاء، 11 أكتوبر 2022

إيران وصناعة الخرافة الدينية

حسين عبدالحسين

مطلع القرن الميلادي السادس عشر، اشتد ساعد اسماعيل صفوي الأول وتوسعت سيطرته على إيران، فقام بتحدي سلالة الغازي عثمان، التي أقامت لنفسها سلطنة في اسطنبول. وتبنى الصفوي - وشجّع وطوّر - الفئات الإسلامية المعارضة لشرعية السلطان، خصوصا المعروفة منها بالشيعية.

العثمانيون كانوا بنوا شرعيتهم على الخليفة الرابع عثمان بن عفّان، الذي يشترك في الكثير من أساطيره مع القديس سمعان العمودي، صاحب الطائفة الواسعة الانتشار في المشرق وجنوب الأناضول. لغويا، يتطابق الاسمان عثمان وسمعان، وفق مبدأ القلب والإبدال، ويتطابق معهما اسم سماعن أو اسماعيل. وكان سبق لمعظم السلالات التي حكمت المشرق وشمال أفريقيا أن بنت شرعيتها على عثمان، كالأمويين، أو على اسماعيل (ابن فاطمة)، كالإسماعيليين الفاطميين.

والصفوية هي طريقة صوفية سابقة للإسلام تقدّس إلهة الحكمة صفاء، صوفيا عند الإغريق، وهي أول خليقة في العالم، شكّلت نفسها من العناصر الأساسية الأربعة، فصارت حجرا أسودا هو حجر زاوية العالم، وحبلت بدون دونس، وولدت إلها هو الشمس، الذي يولد كل يوم، ويموت كل مساء، ثم يولد في يوم جديد وحياة جديدة. وفي وقت لاحق، دمج الأقدمون صفاء بإلهة الحرب زهراء، التي يرمز إليها الكوكب الذي يحمل اسمها، والذي يرسم نجمة خماسية في السماء مع اتمامه دورة كاملة.

مطلع القرن السادس عشر، بدأت كل من الحركتين الصوفيتين - الصفوية الإيرانية والعثمانية التركية - تتنازعان على زعامة العالم الإسلامي. ولأن الأتراك تبنوا الأمويين والفاطميين ومذاهب المماليك، بنى الصفويون مذهبهم على مذاهب شيعية، أبرزها الإثني عشرية والحجتية، التي تنتظر عودة المهدي، ونصّب الحاكم الصفوي نفسه نائبا للإمام المنتظر حتى عودته من غيبته.

ومضى الصفويون يمولون ويرعون انتشار نسختهم الشيعية بين الفرس والعرب، وساهم محمد باقر المجلسي، المتوفى في 1699، في إدخال كمية هائلة من الخرافات التي يرفضها الشيعة العرب حتى اليوم، وبعضها نبوءات فاشلة، مثل أن المهدي يعود مع فتح قسطنطينية (وهذا كان حصل في 1453). ومع الفرس، تبدلت زوجة الحسين، الرباب ابنة امرؤ القيس، وصارت ابنة آخر ملوك الساسان الفرس في بغداد، يزدجرد الثالث، وصار الحسين، ثالث أئمة الشيعة، أميرا فارسيا. وحاول علماء الشيعة العرب تنقية مذهبهم مرارا من البدع الفارسية، فقام على سبيل المثال السيد محسن الأمين، اللبناني المقيم في دمشق، بمحاولة تنقية رواية عاشوراء من الأساطير، وتحريم اللطم، وأفتى الأمين أنه "لا يجوز إطاعة الله من حيث معصيته"، والمعصية هنا هي إيذاء النفس. 

لكن الشيعة العرب فشلوا في وقف الإعصار الفارسي الذي اجتاح مذهبهم، وكانت أبرز معالم هذا الاجتياح زيارة المقامات، التي راح عددها يتضاعف، وما زال يزداد حتى اليوم، وكان آخرها إعلان مقاما جديدا، ونسبه لابنة الحسين صفية، وتحديد موقعه في حوش تل صفية، القريبة من بعلبك شرق لبنان. ولأن هذه المقامات تدر أرباحا وفيرة على من يديرها، أمسكت "حركة أمل" الشيعية اللبنانية بإدارة هذا المقام، الذي يبعد كيلومترات قليلة عن مقام ابنة الحسين الأخرى خولة، والتي يقع مقامها الذي يديره "حزب الله" قرب آثار بعلبك الرومانية.

شرق المقامين يقع "مسجد رأس الحسين"، الذي سيطر عليه شيعة بعلبك بقوة "حزب الله"، على الرغم أن ملكيته تعود لدار إفتاء المذهب السني في لبنان، وقفا منذ زمن المماليك. وتعتبر التقاليد الشيعية أنه بعد معركة كربلاء في 680 ميلادية، حمل جيش الأمويين رأس الحسين ومعه السبايا، وساروا مع الفرات شمالا، ثم انعطفوا شرقا فجنوبا، ومروا ببعلبك في طريقهم الى الخليفة يزيد في دمشق. وفي بعلبك، أوهم الأمويون السكان أنهم يحملون رؤوس خوارج، لكن زينب أخت الحسين قالت للسكان أنها رؤوس أبناء بيت الرسول، فثار البعلبكيون، ولكنهم فشلوا في انتزاع الرؤوس، فبنوا مسجدا في الموقع الذي كان الأمويون وضعوا فيه الرأس. مصدر هذه الرواية هو ابن شهر آشوب، المتوفى في حلب في 1192 ميلادية، أي بعد 500 عاما على الواقعة.

على أن في هذه الرواية نقاط ضعف كثيرة، أولها أن سكان بعلبك لم يكونوا تحولوا الى الإسلام بعد في 680، أي بعد أقل من 50 عاما على "الفتوحات الإسلامية". ثاني المشاكل أن من زاروا بعلبك حوالي 1200 ميلادية ودونوا لائحة بالمقامات الدينية فيها لم يصادفوا مسجد رأس الحسين ولا قبري ابنتيه خولة وصفية. جلّ ما رآه أبو الحسن الهروي في بعلبك، ودونه في كتابه "الاشارات الى معرفة الزيارات"، أن على بابها من الشمال قبر مالك الأشتر، وفيها قبر حفصة زوجة الرسول، وفي جوارها دير الياس النبي، والأرجح أن هذه البقعة معروفة اليوم بقرية النبي إيلا.

على أن كتابا آخر من الزمن نفسه قد يحمل في طياته قصة "مسجد رأس الحسين"، وهو كتاب "تاريخ العظيمي" لصاحبه محمد التنوخي الحلبي، المتوفى في 1160 ميلادية، والذي كتب أنه في سنة 1043 "ظهر ببعلبك في حجر منقوش رأس يحي بن زكريا عليه السلام فنقل الى حمص ثم الى حلب" حيث تم دفنه.

هذا يرجح أن أسطورة "مسجد رأس الحسين" تعود أصلا ليوحنا المعمدان، الذي تكلم رأسه، بعد قطعه، في معجزة ينسبها بعض الشيعة لرأس الحسين في حضرة يزيد. هذه الأسطورة تتكرر حول الجامع الأموي في دمشق، حيث قبر المعمدان والركن الذي تم وضع رأس الحسين فيه. وهناك مقامات متعددة تنسب أن رأس المعمدان، لاحقا الحسين، ارتاحت أو تم دفنها فيها، منها في القاهرة الفاطمية.

ويقع معبد المعمدان - مسجد رأس الحسين - في بعلبك على ضفة نبع رأس العين، وهو ما يؤكد أنه يعود لطائفة معمدانيين ممن ترتكز تعاليمهم على الاغتسال في الماء الجاري والعمادة. والرأس العين، أو العين على رأس الهرم، هو الخالق الساهر على خليقته، وهو الذي يمنح الحياة على شكل نبع مياه.

ومثل في بعلبك، لم ير الهروي في زيارته لدمشق وريفها مقاما لزينب، بل قال إن في قرية راوية قبر لأم كلثوم ابنة الرسول. وراوية هي صفة لصفاء إلهة الحكمة التي تعطي الحياة، وفعل اعطاء الحياة يتم الرمز إليه بإعطاء الماء أو المطر، أي الري. راوية صارت العذراء مريم، واليوم هي زينب وصفية. ومع بدء انتشار الدعوة الصفوية في بلاد العرب، قام أحدهم بإعلان راوية موقعا لمقام زينب بنت علي، أخت الحسين، على الرغم أن الروايات الأقدم تعتبر أن قبرها في البقيع قرب المدينة المنورة.

ما تزال عملية إعلان المقامات والمشاهد (أي عندما يبصر مؤمن في نومه أو وعيه نبيا أو وليا) جارية على قدم وساق، وآخرها ظهور موقع صفية وسكينة، في داريا بريف دمشق، بالضبط مثل أسطورة فاطمة المعصومة في قم، وهو على الأرجح موقع عبادة قائم منذ الزمن السحيق، يعود لأناهيد الآلهة الفارسية، وتم تحويلها الى فاطمة شقيقة الإمام الشيعي علي الرضا.

هي خرافة صناعتها مربحة، ماليا عبر السياحة الدينية، وسياسيا عبر بناء شرعية الحاكم على الدين، وهي صناعة أتقنتها إيران منذ خمسة قرون، وماتزال تبرع فيها حتى اليوم.

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2022

عندقت… النسخة اللبنانية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي

حسين عبدالحسين

نشب نزاع حول ملكية عقارية بين أهالي بلدة عندقت الشمالية اللبنانية، ذات الغالبية المسيحية، وجيرانها الى الشرق عشيرة آل جعفر الشيعية. ويتمحور النزاع حول بدء شخص من آل جعفر ببناء بيت سكني له في أرض مشاع، لا ملكية فردية لها، لكنها تقع ضمن نطاق بلدية عندقت، وهو ما اعتبره أهالي عندقت تعديا على أملاكهم العامة.

وصدر بيان عن مخاتير عندقت جاء فيه التالي: ”بعد ان استنفدنا الوسائل القانونية والسلمية كافة مع بعض اهالي آل جعفر حول التعديات التي يقومون بها على مشاعات بلدتنا من تشييد أبنية، أو جرف اراضٍ، أو قطع حطب، متبعين سياسة القضم البطيء، وعدم احترامهم للقوى الأمنية ولحسن الجوار وتطبيق قرارات القضاء، ونسفهم المفاوضات في المطرانية (المارونية)، قامت مجموعة من شباب عندقت بقطع الطريق العام في بلدة القبيات-الجرد المؤدية الى بلدة الرويمة احتجاجا“.

ودعا البيان إلى تسوية ”قبل ان تصل الامور حد الاشتباك“، ولكنه حيا ”موقف شبابنا الشجاع وشهامتهم“ لقطعهم الطريق وتحدي آل جعفر، وشكر ”شباب القبيات“ المسيحيين لوقوفهم في صف شباب عندقت. وختم المخاتير بالقول: ”لن نفرط بأي شبر من حقوقنا لأن كرامتنا وأرضنا (هما) أغلى ما لدينا“. 

والخلافات العقارية بين المذاهب اللبنانية ليس حديثا، فقبل عامين نشب نزاع مشابه في بلدة لاسا في منطقة جبيل. 

والخلافات العقارية ليست عابرة للمذاهب فحسب، بل هي داخل كل واحد من المذاهب اللبنانية وغير اللبنانية في عموم المشرق، الإقطاعي تاريخيا، والذي تشكل الملكية الفردية العقارية ظاهرة حديثة نسبيا لا يتعدى عمرها القرن أو أكثر بقليل. وفي لبنان روايات كثيرة عن أخ وأخيه قتل واحدهما الآخر بعدما أغلق الأخ طريق المرور الى أرض أخيه. أما فرز الأراضي، فغالبا شفاهي ومبني على معالم غير ثابتة، مثل ”من شجرة الزيتون إلى الصخرة خلف بيت أبي فلان“.

كان الخليفة العربي أو السلطان العثماني يمنح الأراضي للمقربين منه وضباط جيشه، فيسمح هؤلاء للفلاحين في زراعة وحصاد الأرض مقابل ضرائب يدفعوها للإقطاعي، الذي يسدد بدوره جزء كبيرا منها للحاكم، الخليفة أو السلطان. 

هكذا كانت عائلة سرجون المسيحية العربية التي فتحت أبواب دمشق أمام الغزو العربي، وهكذا كان البرامكة الذين عيّن هارون الرشيد جعفرا منهم واليا على الغرب والفضل واليا على الشرق. وهكذا كان الأمراء المعنيون والشهابيون في جبل لبنان. كل هؤلاء جباة ضرائب تحت اسم وزير أو أمير أو مقاطعجي. أما الملكية، فهي لله ومن بعده السلطان، بحسب هوية هذا السلطان.

لكن لكل مذهب إلهه وسلطانه. لهذا السبب، قام الغزاة غالبا بحفظ أراضي من غزوهم من المذاهب الأخرى. كما سمح الغازي للمُغزى بتدبير شؤونه الدينية والاجتماعية، مثل عقود القران والطلاق والولادة والوفاة، وهو ما أنجب في نهاية المطاف النظام العثماني المعروف بـ ”الملي“، والذي ورثته الدول التي أقامها الانتداب الفرنسي، والى حد أقل البريطاني.

لذا، عندما أقامت بريطانيا فلسطين بجمعها سنجق القدس، التابع لاسطنبول، مع سنجقي عكا ونابلس، التابعين لولاية بيروت، اقتصر الاقطاع الفلسطيني على عائلات ثلاثة أو أربعة في القدس، كالنشاشيبي وخالدي والحسيني، فيما كان اقطاع مساحات فلسطينية شاسعة يقيم في ولاية بيروت ومتصرفية جبل لبنان. وكانت هذه العائلات — مثل بسترس وسرسق وتويني المسيحية وجنبلاط الدرزية وسلام السنية — تقطع أراضيها لفلاحين يرتزقون منها ويسددون ضرائبها للاقطاعيين، الذين يسددونها بدورهم للباب العثماني العالي.

وعندما مضت الوكالة الصهيونية في أكبر عملية شراء عقارات في الشرق الأوسط، قامت بشراء عدد كبير في فلسطين من الاقطاع اللبناني، وبعض هذه الأراضي التي يملكها الصهاينة هي داخل حدود لبنان اليوم. مثلا، هضبة المطلة اشتراها الصهاينة من عائلة جنبلاط، ولكن عند ترسيم الحدود، بقيت أراض صهيونية على الجهة اللبنانية وهي اليوم جزء من بلدة كفركلا اللبنانية المواجهة للمطلة.

هكذا هي منطقة الشرق الأوسط، حديثة العهد بشؤون الحريات الفردية والملكيات الخاصة. الملكيات، حتى الخاصة منها، هي عادة في حماية القبائل أو العشائر، مثلما حصل في عندقت التي هبّ مسيحيو القبيات لنجدة أبناء مذهبهم في مواجهة المسلمين الشيعة، وكأننا نتحدث عن مواطني دولتين مختلفتين لا عن مواطني لبنان واحد.

على هذه الخلفية هو الصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين. الفلسطينيون لم تكن بأيديهم السيادة في تاريخهم. مع نهاية القرن الماضي، تملّك فلسطينيون وتوارثوا أراضٍ في ما أصبح في ما بعد فلسطين البريطانية. حتى هذه الملكية لم تكن وطنية، بل تملّك المسلمون السنّة أراضي قراهم والبساتين المحيطة بها، وكان للمسيحيين قراهم، وكذلك كان للدروز قراهم، وكانوا يتنادون ضد واحدهم الآخر في حال تعدى أي منهم على أراض الآخر، بالضبط مثل عندقت وآل جعفر. 

في هذا النظام القبلي ارتمت إسرائيل. طبعا قبيلة إسرائيل تفوقت على كل أقرانها، ماليا وتنظيميا وعسكريا، لذا، ابتاعت مساحات واسعة، وفرضت سطوتها على المشاعات. ثم عندما أعلن العالم اعترافه بدولة إسرائيل وانضمت الضفة للأردن وغزة لمصر، فرض الجانبين الاسرائيلي والعربي عملية تبادل سكاني على غرار ما فعلت تركيا واليونان. وتضمن التبادل تخلي إسرائيل عن أكثر الأراضي التي تقدسها، أي الضفة والقدس الشرقية، مقابل حصولها على دولة يهودية ذات سيادة. رفض العرب التسوية وخاضوا حروبا خسروها، ففرضت إسرائيل سيادتها على الضفة والقدس الشرقية، وهي سيادة لا يعترف بها العالم حتى اليوم. 

موضوع السيادة يرتبط باعتراف دولي وينفصل عن من يملك الأراضي. لفلسطينيين أراض يملكوها في إسرائيل، ولإسرائيليين أراض يملكونها في الضفة والقدس الشرقية منذ زمن الدولة العثمانية.

النموذج الملي العثماني مازال سائدا اليوم في كل الشرق الأوسط وما زال يثير نزاعات لا تعترف بأي من الحدود القائمة. وحدها نزاعات الفلسطينيين والإسرائيليين تتصدر الإعلام العالمي، ولكنها فعليا مشاكل عقارية مألوفة في المنطقة، وحلّها يتطلب إما نشر ثقافة مواطنية غير قبلية تسمح بالاختلاط السكاني والعقاري، أو ترسيم حدود القبائل بين مسيحيي عندقت وشيعة آل جعفر كما بين مسلمي فلسطين ويهود إسرائيل، وكذلك في سوريا والعراق وغيرها.