الثلاثاء، 15 نوفمبر 2022

الديمقراطية سبب تفوق الولايات المتحدة

حسين عبدالحسين

في 21 كانون الأول يناير 1997، جلسنا — مصطفى وهنّاد ورياض وأنا — ندردش مع معلمنا المؤرخ الراحل كمال الصليبي قبل بدء الحصة الدراسية عن تاريخ بيزنطية. بادر الصليبي الى الحديث بالسؤال ان كان أحد منا شاهد خطاب قسم الرئيس الأميركي بيل كلينتون لولاية ثانية، وهو خطاب اعتبر فيه كلينتون أن القرن العشرين كان قرنا أميركيا. قال الصليبي: ”لقد كان قرنا أميركيا بالفعل“. 

وراح الصليبي يتحدث عن إبداع الديمقراطية الأميركية ويقول: ”ترى أقوى رجل في العالم، في يديه ترسانة نووية قادرة على تدمير الكوكب، يخرج من البيت الأبيض في دقائق، ويسلّم منصبه لخلفه، ويعود مواطنا عاديا“. 

أزعجني، أنا اليساري المعادي للإمبريالية يومذاك، إعجاب الصليبي بالولايات المتحدة. ولأن الراحل كان منطقيا وموضوعيا، ولأنه كان ملهما لآرائي، بدأت ذاك اليوم رحلة تقصي فكرية أفضت إلى انقلابي على آرائي السابقة، التي كانت ترى كل أمة جسدا واحدا، لا خليطا من الأعراق والمذاهب والأذواق والآراء. 

بدلا من فكري القومي البدائي، حلّ إعجابي المطلق — لا بديمقراطية الولايات المتحدة فحسب — بل بمبادئ عصر التنوير، التي ألهمت الثورتين الأميركية والفرنسية. ومبادئ عصر التنوير تُعلي من حرية الفرد، وتعتبر أن الدولة هي أداة لسعادة الأفراد، على عكس الفكر القومي، الذي يرى أن الأفراد وقود لعظمة الأمة المتخيلة.

هكذا، عندما ظهرت السفن الحربية في الخليج لتحرير العراق من طاغيته صدام حسين في 2003، اقتنصت الفرصة وشاركت، قلبا وقالبا، في المشروع الأميركي لنشر الديمقراطية، وهو مشروع تعثر لأسباب عديدة لا متسع للخوض فيها هنا. ومع حلول 2006 وهزيمة الجمهوريين الساحقة في الانتخابات النصفية، استبدل الرئيس السابق جورج بوش فريقه للسياسة الخارجية، الذي كان يتألف من المحافظين الجدد بقيادة نائب الرئيس ديك تشيني، بفريق من الواقعيين، تصدرتهم وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس. هكذا انتهت المحاولة الأميركية لنشر الديمقراطية.

في هذه الأثناء كنت قد توطنت في الولايات المتحدة، وصرت أراقب عن كثب، ومن داخل أروقة القرار، عظمة الديمقراطية الأميركية التي حدثنا عنها يوما الصليبي. 

وطغاة العالم، العرب والفرس والروس والصينيين، يخشون النفوذ الأميركي الثقافي الذي يجتاح كل بيت من بيوت العالم، ويخشون أن يحمل هذا النفوذ في طياته ديمقراطية، فتستطيبها هذه الشعوب، وربما تتبناها وتستبدل طغاتها بها. 

لذلك، راحت دعاية الإسلامويين واليسار العربي الخشبي تتهم أميركا بالإجرام في حرب العراق، التي قتلت من العراقيين نذرا يسيرا مما قتله صدام في حروبه وطغيانه، وراحت تشير الى الانحطاط الأميركي كما بدا في فضيحة سجن أبو غريب، التي أظهرت سجانين أميركيين يوقعون الذلّ بسجناء عراقيين. طبعا لم تقل دعاية الإسلامويين واليساريين أن الذي فضح أبو غريب هو الإعلام الأميركي، وأن الجنود الذي ثبت تورطهم واجهوا محاكمات وقضوا سنوات في السجن. 

وراحت الصين تشير إلى صعودها الاقتصادي لتثبت أن رفاهية الشعوب لا تحتاج حرية المواطنين ولا ديمقراطية، وسلطت روسيا دعايتها على الأميركيين أنفسهم، وأقامت حسابات وهمية على مواقع التواصل الاجتماعي بهدف بثّ الفرقة وانتخاب من تتصور أن بامكانه تحطيم الديمقراطية الأميركية من الداخل، عن قصد أم عن غباء. أما إيران، فواصلت دعايتها بث أكاذيب خيالية، من قبيل أن أميركا، التي تكبدت عناء هزيمة داعش، هي التي أقامت التنظيم الإرهابي ورعته ومولته وسلحته. 

انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة أخافني، وعقدت وأصدقاء أميركيين حلقات نقاش، وأعدنا قراءة كتاب هانا أرندت، الذي يصف استيلاء النازية على الحكم في ألمانيا عن طريق الديمقراطية، وبدا لنا أن جزء كبير من الأميركيين صار يرى أن زمن الديمقراطية ولّى، وأن الخلاص يكمن باستيلاء رجل قوي على الحكم، مثل ترامب، الذي كان يعلن بدوره إعجابه بطغاة من أمثال بوتين. حتى أن ترامب نفسه نظّم عرضا عسكريا على غير عادات واشنطن.

ثم جاء هجوم أنصار ترامب على مبنى الكونغرس ومحاولتهم وقف تقاليد انتقال الحكم ديمقراطيا لفرض ابقاء ترامب في البيض الأبيض. واتسعت ظاهرة رفض المرشحين الخاسرين قبول هزيمتهم في الانتخابات، على غرار ترامب، حتى أن بعض المرشحين الجمهوريين الموالين لترامب رفضوا الاعتراف بخسارتهم أمام منافسيهم الجمهوريين داخل الحزب نفسه. ووسط هذه الأجواء، راح الإعلام الأميركي يتحدث عن عاصفة حمراء (جمهورية) في الانتخابات النصفية التي أقيمت الأسبوع الماضي، في وقت كان معظم المرشحين الجمهوريين من موالي ترامب ممن ينكرون خسارته الرئاسة في الانتخابات قبل عامين.

لكن شمس الديمقراطية الأميركية أشرقت، فبانت عظمتها، واتضح أن الموجة الحمراء بالكاد قطرة ماء اذ تكبّد مرشحي ترامب هزائم نكراء، فيما اكتسح الجمهوريون ممن لا يوالون ترامب منافسيهم الديمقراطيين.

في اليوم التالي للانتخابات، أدرك قادة الجمهوريين أن غالبية الأميركيين لا تستهويهم فكرة الاستيلاء على السلطة بأي ثمن، حسب أسلوب ترامب، وأن الأميركيين يفضلون الاقتراع لمرشحي الحزب المنافس لحماية الديمقراطية على التصويت لمرشحي حزبهم الذين قد يقوضون هذه الديمقراطية.

ثقافة الديمقراطية لدى الأميركيين هي التي حمت نظامهم من جنون البعض، من الحزبين، ممن يعتبرون أن المؤسسات أدوات في أيدي المصالح الحاكمة، وأن الحل يقضي بهدم الهيكل بالكامل وإعادة بنائه.

ثقافة الديمقراطية الأميركية جاءت في نفس الأثناء الذي كانت الصين، المتقهقرة اقتصاديا، تمعن في طغيان حكامها، وفي وقت انكشف الضعف العسكري والاقتصادي الهائل لروسيا وطاغيتها.

القرن العشرين كان أميركيا، وفي العقود الثلاثة الأولى من القرن الواحد والعشرين، لا علامات تشي أن قوة أميركا الاقتصادية تخور أو أن تفوقها العسكري يتقهقر. أما سبب تفوق أميركا، فديمقراطيتها، وكل دولة ترغب في حذو حذو الولايات المتحدة، ما عليها الا النظر الى النموذج الأميركي، وتبني الأفكار المؤسسة للجمهورية الأميركية، ومحاولة نشر ثقافة الديمقراطية بين المواطنين، على غرار انتشارها بين الأميركيين. كل ما عدا ذلك نماذج في الحكم تؤدي غالبا الى البؤس والشقاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق