الجمعة، 24 مارس 2023

عن الاستهزاء بالفينيقيين وبالهوية اللبنانية

حسين عبدالحسين

لم تتأخر العواصم العربية في الرد على تصريحات الوزير الإسرائيلي المتطرف بتسالل سموتريتش، والتي قال فيها إن اليهود هم الفلسطينيون الفعليّون، وإن لا وجود لشعب فلسطيني عربيّ. في الأثناء، قام حساب على موقع "تويتر"، يسمّي نفسه #فينيقيا، ببثّ تغريدة فيها صورة لجواز سفر، أرجوانيّ اللون، لدولة متخيّلة اسمها فينيقيا، وكتب أنّ لبنان، كطائر الفينيق، سينبعث مجدداً من الرماد. التغريدة الفينيقية أثارت عاصفة من الردود التي طعنت بتاريخ الفينيقيين وسخرت من الهُويّة اللبنانية.

قديمة هي الازدواجية العربية في تمجيد الهويّة الفلسطينية والسخرية من نظيرتها اللبنانية، وهو ما كان يُثير استغراب معلّمنا الراحل المؤرّخ كمال الصليبي لدى سماعه العروبيين الذين يردّدون أن لبنان دولة مزيّفة، صنعتها اتفاقيّتا سايكس - بيكو وسان ريمو، فكان يردّ بأن فلسطين هي صنيعة الاتفاقيّات الإمبرياليّة نفسها.

والتاريخ يميل لمصلحة لبنان وتاريخه الفينيقيّ الطويل أكثر منه لفلسطين حديثة العهد. الفينيقيّون حضارة عاشت قرابة ألفيّة ونصف، أي ما يساوي عمر الحضارة الإسلامية اليوم. بدأت الحضارة الفينيقية مع الانتقال من العصر البرونزي إلى الحديدي، في المنتصف الثاني من الألفية الثانية قبل الميلاد. مدن على امتداد ساحل شرق المتوسط متطابقة في الثقافة واللغة أطلقت على نفسها تسميات متعدّدة، منها "صيدونيين"، تيمّناً بمدينتهم صيدا، ومنها "كنعانيين"، تيمّناً بالاسم القديم للمشرق. أما تسمية فينيقيين فأطلقها عليهم اليونان.

لم تكن فينيقيا دولة واحدة حملت هذا الاسم بل إن الحضارة الفينيقية كانت كالحضارة العربية، حضارة واسعة في ممالك ودول متنوعة انتشرت حول حوض البحر المتوسط، وتنافست في ما بينها، واحترفت الإبحار وما يتطلّبه ذلك من علوم، مثل الفلك والتدوين والرياضيات، واستوحت من الدورة الفلكية أساطير دينية، فتصوّرت المجرات والنجوم على أنّها آلهة، أبرزها الشمس والقمر والزهرة وعطارد.

أقدم نصّ دينيّ توحيديّ منسوب إلى الفينيقيّين، ويتخيّل كيف جبلت الحياة الأولى نفسها من الموادّ الأربع (الماء والتراب والنار والهواء) فصارت صخرة سوداء، وصار اسمها جبلة، وأمضت وقتاً طويلاً تسبح في الفضاء، فراكمت حكمة. ولأنها الحياة الأولى، ولم يخالطها شيء، فكان اسمها صفاء، وأنجبت ولد بدون دونس، ابن كالشمس يغزو الظلام بقوّة، ثم يزول، ليعود في قيامته إلى الحياة مجدداً. نقل اليونان صفاء فصارت آلهة الحكمة صوفيا، وصار ابنها ضوء زوء أو زوس، وعند الرومان زوس باتري (أي الأب)، أي زوبيتر أو جوبيتر.

أما أقدم إنسان، فتخيل #الفينيقيون أن اسمه قدّام (مثل العامية المشرقية) لأنه في طليعة البشرية، وصار عند اليونان قدموس، وارتبط بالأبجدية لأنه الأول، على غرار آدم في القرآن، الذي علّمه الله الأسماء، أي الكلمات والحروف.

هذه الحضارة الفينيقية، المتقدّمة جداً في زمانها، أقامت مستوطنات صار بعضها إمبراطوريات، مثل قرطاجة في تونس. وتونس هو اسم الآلهة تنت، وهو مشتق من الجذر الساميّ الذي يفيد معنى أنثى. في قمّة سطوتهم، كان القرطاجيّون يعتبرون مدينة صور (ومعناها صخرة) قبلتهم، ويحجّون إلى معبدها ملك الأرض (ملكرت)، الذي صار الإله هرقل عند اليونان. ومعبد ملكرت هذا كان داخله عمودان يتوسّطهما حجر أسود، هو جبلة أو صفاء. وكان ينافس صور ومستوطنتها قرطاجة صيدا ومستوطنتها بنزرت. ويبدو أنه بسبب أهمية صور ومعبدها دينياً، قام العهد القديم بربط بناء هيكل الحكمة لسليمان في القدس بالمهندس أحيرام الفينيقيّ الصوريّ.

انتشرت عبادة الحجر الأسود جبلة في عموم حوض المتوسط، حتى بعدما بدأ الفينيقيون رحلة تعرّبهم بسبب انتشار اللغة العربية كلغة تحالف تجاريّ حمل البضائع بين الهند وحوض المتوسط. على أن الفينيقيين حافظوا على معتقداتهم، ففي القرنين الثاني والثالث ميلادي، برز جنرال فينيقي روماني من لبدة الليبية اسمه سبتيمس سيفيريس، وتزوّج سيدة أرستقراطية من حمص السورية وعرقا اللبنانية اسمها جوليا دومنا. صار سبتيمس إمبراطور روما، وخلفه ولداه كركلا وجيتا وبعدهما إيلاجبالوس (أي سيد جبلة). هؤلاء الأباطرة الفينيقيون العرب رعوا معبداً للحجر الأسود في حمص، ونقلوا معهم الحجر الإله إلى روما أثناء حكمهم. صنّف الرومان حمص في محافظة "فينيقيا اللبنانية" لأنّها ضمّت جبال لبنان ومملكة العرب الأيطوريين حكّام البقاع، فيما صنّفوا صور وعكّا الفينيقيّتين في محافظة ”فينيقيا البحرية“ .

كان الفينيقيون أصحاب ممالك وسيادة، وصاروا أباطرة رومان، وانخرطوا بعدها في النظام البيزنطي، وثأروا من روما لقتلها الإمبراطور موريس واستبداله بفوقاس، فاستعادوا مع الإمبراطور هرقل التونسي حكم قسطنطينية، ثمّ انفصلوا عن بيزنطية، وشاركوا في إقامة دولة الأمويين العربية أواخر القرن الميلادي السابع، بعد انقلاب سليل هرقل على خط جدّه الدينيّ، وعودته إلى أحضان كنيسة روما. هؤلاء العرب، ومقرّهم دمشق وحمص وبعلبك والجولان، هم الذين شيّدوا قبة الصخرة في القدس.

لا يقابل هذا التاريخ الفينيقيّ الطويل من الممالك والسيادة والمشاركة في بناء هيكل سليمان وقبة الصخرة أي ممالك ذات سيادة أو أدوار لفلسطينيين في التاريخ. عبر الأزمان، عاش سكّان فلسطين تحت سيادة حكّام من خارج حدود فلسطين، إن من روما وقسطنطينية، أو من دمشق وبغداد، أو من القاهرة وإسطنبول. ولم يُقِم أيّ حاكم عربي أو إسلامي في القدس، حتى بعدما انتزعها صلاح الدين الكردي الأيوبي من الصليبيين، لم يتّخذها عاصمة له.

الفترات الوحيدة التي يذكر التاريخ أن سكّان فلسطين مارسوا فيها سيادة كان في زمن اليهود، الذين سباهم البابليون في القرن السادس قبل الميلاد، وبعدهم بأربعة قرون ملوك اليهود من الحشمونيين. غير السيادة اليهودية على بعض فلسطين لم يمارس سكّان هذه البقعة أي سيادة، ولم يقيموا دولاً ولا ممالك.

حتى بعد الانتداب البريطاني، ثم قيام دولة إسرائيل، لم يتصرّف الفلسطينيون كفلسطينيين، بل كجزء من أمّة عربية أوسع، حتى أن أبرز المواجهات العربية ضد اليهود قادها السوريّان عز الدين القسام وفوزي القاوقجي، إلى أن جاء زمن ياسر عرفات و"حركة تحرير فلسطين" (فتح)، ثمّ سيطرته على "منظمة التحرير الفلسطينية". مع عرفات، استبدل الجزء الأكبر من الفلسطينيين قوميّتهم العربية بقوميّة فلسطينيّة.

نقاش الهوية والتاريخ يجب أن يبقى بعيداً عن السياسة والسياسات. لا يهمّ إن كان الفلسطينيون شعباً، أو أمّة ذات تاريخ في السيادة، أو هوية تشكّلت قبل عقود فحسب. المهم أن لهؤلاء الناس الحقّ في حياة كريمة مثل باقي البشر. من يحرمهم هذا الحق، وكيف يمكنهم الحصول عليه، هي من الأسئلة السياسية التي تقع خارج نطاق هذا النص عن الهوية والتاريخ.


*باحث في "مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات" في واشنطن

السبت، 11 مارس 2023

بداية العهد الصيني في الشرق الأوسط

حسين عبدالحسين*

استفاقت واشنطن على البيان الثلاثي #الصيني - السعودي - الإيراني المشترك، الذي أعلن طيّ صفحة الخلافات بين الرياض وطهران، والعمل على إعادة العلاقات الديبلوماسية بين الاثنين في غضون شهرين، بعد انقطاع دام سبع سنوات. 
يأتي قيام الصين بدور، لطالما قامت به #الولايات المتحدة، بعد أيام قليلة على توجيه الرئيس الصيني شي جنبينع انتقادات غير مسبوقة لسياسة أميركا الدولية؛ وهو ما يعني أن رعاية الصين الاتفاقيّة تسعى إلى سلب أميركا دورها التقليدي في رعاية الديبلوماسية الدولية والنظام الدولي بشكل عام، لا سيّما في #الشرق الأوسط.

وإيران، التي وقّعت على اتفاقية شراكة اقتصادية مع الصين مدّتها 25 عاماً، ستتفادى بأيّ شكل ممكن اختراق اتفاقيتها مع #السعودية؛ وذلك بهدف تفادي إثارة غضب الصين التي تكفل هذه الاتفاقية.

رعاية الصين المصالحة السعودية - الإيرانية يُنيط ببكين جزءاً من رعاية الأمن والاستقرار في الخليج إلى حدّ كبير، إذ أنه في حال قامت إيران أو الميليشيات الموالية لها بتوجيه ضربات ضدّ السعودية، كما فعلت في الماضي، فستكون مشكلة طهران مع بكين؛ وفي الحال هذه، تنتفي أهمية الولايات المتحدة كراعية لأمن السعودية والخليج، وهي رعاية أثبتت فشلها، إذ هي لم تردع إيران عن استهداف السعودية في الماضي، ولا فرضت على إيران ثمن زعزعتها الاستقرار، اللهم غير البيانات المملّة التي دأبت واشنطن على إصدارها.

وعليه، يُصبح السؤال: ماذا لو قرّرت الصين المضيّ في توسيع رعايتها الدبلوماسية والاتفاقيات في منطقة الشرق الأوسط، وهي الاتفاقيات التي كانت ترعاها في الماضي الولايات المتحدة، وفي أحيان كثيرة بمشاركة شركاء مثل روسيا والاتحاد الأوروبي؟! ماذا لو قرّرت الصين رعاية اتفاقية لإنهاء الصراع في سوريا وإعادة تأهيل الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه؟! ماذا لو دخلت الصين في رعاية اتفاقيات في العراق أو اليمن؟! ماذا لو قامت الصين برعاية اتفاقيات سلام بين دول عربية، مثل بين السعودية وإسرائيل، على غرار البيان الثلاثيّ الذي تمّ توقيعه في بكين يوم الجمعة؟!

كل هذه الإمكانيات واردة، إذ إن الديبلوماسية الصينية أرشق من نظيرتها الأميركية، ولا تعاني من التقلّبات الهائلة التي تعاني منها سياسة واشنطن الخارجية في كلّ مرّة تتبدّل فيها الإدارة بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري.

لأميركا إمكانيّات ضخمة لا تجاريها أيّ دولة في العالم، بما في ذلك الصين. والصين لن تتحوّل إلى اقتصاد ينافس أميركا. فالفورة الاقتصادية الصينيّة تعثّرت بسبب فشل الصين في الانتقال من اقتصاد نامٍ، على شكل مصنع العالم، إلى اقتصاد متطوّر يستند إلى المعرفة، لأنّ اقتصاد المعرفة يتطلّب ديموقراطيّة ليبراليّة، وهو نموذج رفضته الصين.

لكن القوة الأميركية الجبّارة يبدو أنها عظيمة وحاسمة فقط أمام الاستحقاقات الكبرى، مثل الحربين الكونيّتين والحرب الباردة. أمّا عندما يتعلّق الأمر بديبلوماسيّة يوميّة، أو إدارة شؤون العالم، فإن أميركا تتحوّل إلى عبء على العالم؛ وذلك بسبب بُعدها عنه، وانعدام معرفة مسؤولي سياستها الخارجية بشؤونه، واعتقادهم أنّ على العالم أن يكون على صورة أميركا، بدلاً من أن تحاول واشنطن أن تفهم طبيعة السياسة في دول العالم والتعامل معها.

قد تكون الولايات المتحدة محقّة في عدم فهمها العالم، إذ هي قلّما تحتاجه، فقوّتها الاقتصادية والعسكرية الجبّارة تستند إلى قدرات أميركا الداخلية وديموقراطيتها، وقلّما تعتمد مصالح الولايات المتحدة على أحداث العالم. هكذا، وبسبب ضعف ارتباط المصالح الأميركية بالعالم، لا يرى الأميركيون ضرورة لمعرفة حضارات العالم أو التخصّص في شؤونه، بل إن الجزء الأصعب لكلّ القيّمين على السياسة الخارجية الأميركية هي محاولة إقناع الأميركيين بضرورة تدخّل بلادهم في السياسة الدولية إلى حدّ اضطرّ معظم صنّاع السياسة الخارجية الأميركية إلى تضخيم الأخطار الدولية على أميركا، وهو تضخيم وصل أحياناً حدّ الكذب، كما في قضية العراق وأسلحة الدمار الشامل.

مع انعدام الاهتمام الأميركي العام بالسياسة الدولية وشؤون العالم، يتولّى صناعة السياسة الخارجية مدرستان: "ديموقراطية" ترى أن مشكلة العالم هي القوة الأميركية وتدخّلها في شؤون العالم، و"جمهورية" ترى أن لا حاجة لأميركا بالعالم، لأنّها قويّة كفاية للدفاع عن نفسها وفرض ما تريده عندما تحتاج إلى ذلك. 
في المدرستين، الفريق المولج بالسياسة الخارجيّة هو نفسه منذ عقود، يتداور على دخول البيت الأبيض والخروج منه بحسب هُويّة الحزب الحاكم.


في حالة الديموقراطيين، يُدير سياستهم الخارجية، منذ قرابة العقدين، روبرت مالي ومجموعة أصدقائه. مالي رجل عقائديّ ينحاز لـ "الجنوب العالمي" ضدّ القوة الأميركية، ويؤمن بضرورة انسحاب أميركا من شؤون العالم، لأن ذلك سيسمح للحضارات المحليّة بالازدهار، حسب اعتقاده. لكن مالي أيضا هو أكثر شخصيّة مثيرة للجدل في العاصمة الأميركية، وهو ما حرمه إمكانيّة تسلّم مناصب رفيعة تحتاج إلى مصادقة مجلس الشيوخ على تعيينه، مثل منصب وزير الخارجية؛ لذا، نراه في أغلب الأحيان في مناصب مثل "مسؤول الشرق الأوسط" في مجلس الأمن القومي في إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، أو "المبعوث المكلّف ملف إيران" في الإدارة الحالية، وكلا المنصبين وصل إليهما بتعيين لا يحتاج لمصادقة في الكونغرس.

لكنّه على انخفاض مناصبه، مالي هو أكثر أقدميّة من باقي زملائه العاملين في فريق السياسة الخارجي؛، فهو معلّم وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومسؤول الشرق الأوسط برت ماكغيرك، اللذين يتبنّيان نظريات مالي في الشؤون الدولية؛ والثلاثة يعانون من غياب كامل للكاريزما، ومن انعدام الوزن السياسيّ في العاصمة الأميركيّة. لذا، تبدو سياسة بايدن وكأنّها من إعداد فريق من الأشباح الصامتين الجالسين خلف الستارة.

في مخيّلة مالي وفريقه، مثل السيناتور الديموقراطي كريس مورفي، الخليج ضعيفٌ، ولا ملجأ له ولأمنه في العالم إلّا أميركا، وهو ما يعني أنّ لواشنطن قدرة على ليّ أذرع العواصم الخليجية؛ وهذا ما كتبه كريس مورفي في دورية "فورين أفيرز" المرموقة في شباط 2021، حيث دعا إلى التخلّي عن عقيدة كارتر التي تقدّم حماية لأمن الخليج، كما دعا إلى فرض إملاءات أميركية على عواصم الخليج، بما في ذلك تقليص مبيعات الأسلحة ومحاسبة اختراقات حقوق الإنسان.

رعاية الصين الاتفاقية السعودية - الإيرانية، وتالياً رعاية الصين لأمن السعودية من الاعتداءات الإيرانية، أبطل الحاجة إلى مالي ومورفي وكلّ الولايات المتحدة. يُمكن لمالي ومورفي التنظير وإصدار التصريحات المنمّقة وكتابة المقالات في الدوريات المرموقة، لكنّ السعودية والخليج لن ينتظروا واشنطن حتى توقف مراهقتها في السياسة الدولية.

أميركا ستظلّ أقوى قوّة في العالم في المدى المنظور، ولكنّها إلى أن تفهم العالم وشؤونه، لن ينتظرها العالم حتى تفهمه، بل سيبحث عن قوى أخرى، وإن أصغر، لتُدير شؤونه حتى يواصل حياته.


* باحث في "مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات" في واشنطن

الاثنين، 6 مارس 2023

عن ضرورة التعاون الإقليمي لمكافحة انتشار تجارة الكبتاغون

ناتالي إكانو وحسين عبدالحسين*
 
في وقت تتواصل الاضطرابات في الضفة الغربية، أحبطت وزارة الدفاع الإسرائيلية محاولة تهريب آلاف أقراص #الكبتاغون إلى قطاع غزة قبل أسابيع. الحبوب كانت مخبأة داخل شحنة ثلاجات مكاتب في طريقها من الضفة الغربية عندما استولت عليها قوات الأمن الإسرائيلية عند معبر ترقوميه الحدودي. شكّلت تلك الحادثة ايذاناً بأن المنطقة بأكملها لم تعد في منأى عن مخاطر تجارة الكبتاغون، التي لا تعرف حدوداً ولا تسير وفقاً لتحالفات أو عداوات.
 
الكبتاغون معروف بالعامية باسم "كوكايين الرجل الفقير"، وهو منشط من نوع الأمفيتامين يُنتَج بطريقة غير مشروعة في المشرق (بلاد الشام)، ويتم تهريبه أحياناً عبر الأردن إلى دول الخليج. وتجارة الكبتاغون هذه بدأت تتوسع خارج حدودها التقليدية، وراحت تتحوّل – ببطء ولكن بثبات – إلى مشكلة إقليمية تتطلب تدخلاً منسقًا أوسع من القائم حالياً بين الحكومات.
 
كان الكبتاغون في الأصل اسماً تجارياً لعقار قانوني يحتوي على الفينيثيلين ويتم وصفه لعلاج حالات مثل "النقص في الانتباه"، و"الإفراط في الحركة"، والاكتئاب. وبعدما حظر الفينيثيلين في الثمانينيات، تحوّلت عملية إنتاج الكبتاغون الى أقبية الظلام. منذ ذلك الوقت، انتشر إنتاج الكابتاغون المقلّد؛ وصارت حبوب اليوم شديدة الإدمان، تحمل القليل من التشابه الكيميائي، إن وجدت، مع سابقاتها.
 
اليوم، تتركز صناعة الكبتاغون في لبنان وسوريا، حيث أدت الحرب الأهلية، والانهيار المالي، وآثار العقوبات الأميركية والأوروبية إلى حاجة الحكومة السورية والميليشيات الموالية لإيران للسيولة النقدية. وفي خضم البحث عن مصادر جديدة للدخل، لجأ هؤلاء إلى إنتاج وبيع الكبتاغون، الذي أثبت أنه دجاجة تبيض ذهباً.
 
بيانات المضبوطات الإقليمية لعام 2021 تشير الى أن تجارة الكبتاغون تعدّت الـ 5.7 مليارات دولار، متجاوزة القيمة الإجمالية للصادرات السورية القانونية مجتمعة. وتوفر أرباح الكبتاغون شريان الحياة المالي لنظام الأسد، الذي يحتضر اقتصاديًا. ويعتقد المبعوث الأميركي الخاص السابق لسوريا جول رايبرن أنه، في ظل العقوبات المفروضة عليه، "سينهار نظام الأسد في حال خسر عائدات الكبتاغون".
 
تهريب الكبتاغون يتم بشكل أساسي من مراكز إنتاجه في سوريا ولبنان براً عبر الأردن، فجنوباً نحو الخليج، حيث تُشكل المملكة العربية السعودية أكبر سوق استهلاكي لهذا المخدر الفتّاك.
 
ويشكّل النطاق المتزايد، والتعقيد المتصاعد، لعمليات التهريب البري خطرًا أمنياً كبيراً على الأردن، وينذر بأزمة صحيّة عامة في عموم المملكة. وكانت السلطات الأردنية اعترضت، العام الماضي، أكثر من 54 مليون حبة كبتاغون. ومع حلول نيسان، صادرت هذه السلطات حبوبًا أكثر من التي صادرتها على مدى عام 2021. هكذا، دفع تصاعد عمليات التهريب السلطات الأردنية إلى تبني سياسة "إطلاق النار بهدف القتل" على طول الحدود السورية. وأدت مواجهة واحدة الى مقتل 27 مهرباً على الحدود بين البلدين.
 
توسُّع السوق الاستهلاكية للكبتاغون في الأردن أمر مثير للقلق، وهو ما دفع أمين عام المجلس الاقتصادي والاجتماعي الأردني محمد النابلسي للقول: "اعتدنا أن نفخر بأن الأردن كان بلد عبور" للكبتاغون، لكنه للأسف صار الآن "بلداً مضيفاً" ومستهلكاً.
ويستهلك الشباب الأردني الحبوب التي تسبب الإدمان، والتي يقل سعرها عن باقي المخدرات. ويبدو أن قرار بيع هذا المخدر قرار استراتيجي اتخذه حلفاء إيران، بالنظر إلى ما يمكن أن تجنيه هذه الحبوب بين صفوف العاطلين عن العمل وشرائح من الشباب المحبطين إلى زيادة الطلب.
 
وكانت الولايات المتحدة قامت، في كانون الأول، بالمصادقة على تشريعات أقرّ بموجبها الكونغرس قانون مكافحة الكبتاغون، والذي يطلب من الحكومة تطوير استراتيجية مشتركة بين الوكالات الحكومية الأميركية المعنية "لإضعاف وتفكيك" تجارة الكبتاغون في المشرق.
 
ويمكن لإدارة الرئيس جو بايدن الإفادة من نماذج اتفاقيات إبراهيم للسلام لتطوير استراتيجية إقليمية لمكافحة تجارة الكبتاغون، ويمكن أن يشمل ذلك إنشاء غرف عمليات مشتركة لتطبيق القانون، وتبادل المعلومات من خارج الإنتربول، الذي عادت سوريا إليه في 2021. كما يمكن لمركز تدريب الشرطة الدولي في الأردن أن يتحوّل الى مركز متعدد الأطراف، يعمل على توفير الإحداثيات عن عمليات التهريب في وقت تحضيرها.
 
كما يمنح التهديد المشترك للكبتاغون إسرائيل والأردن سببًا لتعزيز السلام بينهما. وبما أن صناع السياسة الأميركيين يسعون لإشراك المملكة العربية السعودية في اتفاقيات إبراهيم للسلام، على واشنطن تذكير المنطقة بأن كلاً من إسرائيل والسعودية تهتمان بشدة باستقرار الأردن، وهو الاستقرار الذي قد تهدّده تجارة المخدرات هذه.
 
هذا يعني أنه على إدارة بايدن اتخاذ إجراءات إضافية للحد من إنتاج الكبتاغون والإتجار به، فمصادرة المخدرات في الأراضي الفلسطينية هو جرس إنذار مفاده أن مخالب الكبتاغون توسّع نفوذها، وأنه حان الوقت لإدارة بايدن لاتخاذ إجراءات صارمة لمواجهته.
 
في منطقة الشرق الأوسط، تتداخل السياسات، وتتقلب التحالفات، ويتحوّل الأصدقاء أعداء في ملفات، فيما يتحوّل الأعداء أصدقاء في ملفات أخرى. أما تجارة المخدرات، فهي غالبا ما تكون عابرة للدول، مؤذية للشعوب بأجمعها، وتتطلب تنسيقاً – حتى بين أعتى الخصوم – لوقفها والحدّ من مخاطرها، التي لا تترك أياً من الدول، القريبة أو البعيدة، في منأى عنها.
 
وسياسة إدارة الأزمات هذه هي السياسة التي تتبناها الإدارات الأميركية المتعاقبة في دول تراها صارت فاشلة أو مارقة، مثل سوريا ولبنان وأحياناً العراق. فتقوم واشنطن بالإشراف على سياسات معينة، مثل تمويل برامج "برنامج الغذاء العالمي" للحدّ من انتشار الجوع بين السكان، أو الإنفاق على القوى الأمنية اللبنانية.

في السياق نفسه، يمكن لواشنطن أن تعدّ برامج عابرة لحكومات الشرق الأوسط وعداواتها حتى تتمكّن من مكافحة آفات، مثل تجارة الكبتاغون، بغض النظر عمّن يدير الحكومات، اليوم أو مستقبلاً.
 

* باحثان في "مؤسسة الدفاع عن الديموقراطيات" في واشنطن